منزل الطفلين براء وعلي عز الدين في الكرك (سامر الحسيني)
تنفيذ 4 عمليات خلال شهر شباط.. ولا دوريات عسكرية وقائية
تكاد الدوريات الأمنية تكون غير موجودة على الطريق الممتدة من شتورة إلى معبر المصنع الحدودي. الطريق الدولية طويلة (حوالى 17 كيلومترا)، ومخيفة: ثلاث عمليات خطف استهدفت رجال أعمال سوريين، بين شهري آب وشباط الماضيين، جرت على الطريق التي لم تشهد، حتى اليوم، مرور دوريات أمنية على نحو متكرّر.
تقابل العمليات الثلاث، ثلاث عمليات خطف نفذت أيضاً في محافظة البقاع، لكن الطريق الدولية لم تكن ساحتها. بدأت مع اختطاف المدير الإداري في مصنع «ألبان لبنان» أحمد زيدان، تلاها اختطاف براء (16 عاماً) وعلي (14 عاماً) عز الدين، وانتهاءً باختطاف الفتى اللبناني خالد أبو إسبر (16 عاماً).
ست عمليات خطف، في محافظة واحدة، في خلال ثمانية أشهر - منها أربع في شباط وحده - نفّذت بغية تحصيل مبالغ مالية، مقابل كل عملية.
المقابل المالي، بحدّه الأدنى، كان يبدأ بسعر شبه موحّد، يفوق المليون دولار، ثم ينتهي إلى تسويات متفاوتة، فيُطلق سراح المخطوف، أو المخطوفين، في مكان يصله ذوو المخطوف كما في الأفلام البوليسية: يحمل الأهل أكياساً تحتوي الأموال، ويسلّمونها للخاطفين. الشرطة تكاد تكون شبحا يراقب بلا فعل.
تجارة الخطف، كفكرة، راجت بعد إطلاق سراح الاستونيين السبعة بشهر واحد، متخذة من البقاع خاصرة رخوة لصيد الفريسة، بعيداً عن الملاحقة الأمنية. وأكثر من ذلك، فقد لجأ منفذو عمليتي خطف، إلى ارتداء بزّات أفراد الجيش اللبناني، معرفين عن أنفسهم بالقول: «افتح الطريق. نحن مخابرات الجيش».
عند الحديث عن أمن البقاع، وما تشهده المنطقة من عمليات خطف، يتردد اسم م. ف. إ. (مواليد 1981- من بلدة بريتال)، مصحوباً بمعلومات تؤكد «ترؤسه عصابة نفّذت عمليات الخطف الستّ»، وفق مصدر أمني واسع الاطلاع، فيما يلمّح مصدر أمني آخر إلى «احتمال وجود أكثر من عصابة واحدة».
التباين بين المصدرين، وكل منهما يتبع إلى جهاز أمني مستقل، يشرّع أكثر من سؤال: إذا كان م. ف. إ. فعلاً هو الرأس المدبّر لعمليات الخطف، فلماذا لم يوقّف بعد؟ لو أن عمليات الخطف نفذتها أكثر من عصابة، فلماذا لم يوقف أي فرد منها؟ إذا كانت الأجهزة الأمنية عاجزة عن معرفة هوية الأشخاص، وعن توقيفهم، فلماذا هي موجودة أصلاً؟
ثمة ضباط أمنيون، وفق مصادر أمنية متابعة، متورّطون في تزويد الخاطفين بمعلومات عن رجال الأعمال السوريين، ومواعيد دخولهم الأراضي اللبنانية، ومعلومات أخرى تساهم في تسهيل اختطافهم. ينتمي الضباط، وفق المصادر، إلى أجهزة أمنية لبنانية وسورية.
وسط ذلك، يتردد في الدوائر الأمنية أن «القرار بحق م. ف. إ. قد صدر، وقضى بتوقيفه مهما كلّف الثمن»، فيما تشير معلومات أمنية أخرى إلى أن المطلوب «ليس معروفاً مكان الإقامة، خلافاً لما يتردد في بعض الأوساط. ورأسه الآن أصبح مطلوباً أكثر من أي وقت مضى».
في مقابل الدوامة ذاتها، ثمة مصادر أمنية تلمّح إلى «وجود صلة بين م. ف. إ. ومجموعته من جهة، وشخصية نافذة في الدولة من جهة ثانية، تتولى حمايته ضمناً، وإلا ما كان قد تجرّأ على تنفيذ أكثر من عملية خطف واحدة».
لكن ما هي مصلحة الشخصية الرسمية في تغطية م. ف. إ.؟ سؤال يبقى بلا جواب، من جانب المصادر الأمنية. لكن أبناء البقاع، الذين يعبّرون عن سخطهم واستيائهم من تكرار عمليات الخطف والسرقة، يكررون سؤالا أساسيا: «متى يُضبط الأمن في البقاع؟ لماذا تتعامل الدولة معنا كأننا منبوذون؟». وإلى حين القبض على الخافطين، سواء كانوا عصابة واحدة أو أكثر، وسواء كانوا يتمتعون بحماية من أعلى الهرم سياسياً أو أدناه، يبقى أبناء المنطقة رهائن التسيّب الأمني، متوجسين من ساعة الاختطاف، وغيرها من أعمال العنف الابتزازية..
الفكرة
مرّ حوالى 97 يوماً على اختطاف الاستونيين السبعة في البقاع (كانوا آتين من سوريا على متن دراجاتهم الهوائية)، أُطلق سراحهم فجر الرابع عشر من تموز العام الماضي، في سهل الطيبة البقاعي، بفضل جهود أمنية فرنسية، غابت عنها الدولة اللبنانية، التي اقتصر حضورها على معرفة موعد إطلاق سراح الاستونيين قبل ساعة واحد فقط من حصوله.
اتسمت قضية خطف الاستونيين بالغموض في بادئ الأمر، ثم تبيّن أن الجهة الخاطفة تتألف من مجموعة أصولية في طور النشوء و«فقيرة»، نفذت خطتها بالتعاون والتنسيق مع اللبناني وائل عباس، الذي أوقفته القوى الأمنية لاحقاً. وحصلت الجهة الخاطفة على فدية مالية قيمتها خمسة ملايين يورو.
طُويت، آنذاك، صفحة الاستونيين، على نحو معيب بحق القوى الأمنية اللبنانية، وفُتحت صفحة أخرى: استفاد «مجهولون» من الهدف الذي سُجّل في مرمى الشرطة اللبنانية، فقرروا امتهان عمليات الخطف، وبدأت رحلة البحث عن الأهداف. يؤكد مصدر أمني أنهم «استلهموا فكرة الخطف من عملية الاستونيين».
مرّ أربعون يوماً على إطلاق سراح الاستونيين السبعة مقابل الفدية العملاقة، عندما اعترضت سيارة رباعية الدفع طريق رجل الأعمال السوري محمد أيمن بشير عمار (52 عاماً)، عند الطريق الدولية في بلدة برّ الياس. الطريق النائية عن الدوريات الأمنية.
كانت الساعة العاشرة صباحاً. عمار كان آتياً إلى لبنان من معبر المصنع، ومعه محاسبه السوري نور جميل الحاج قدّورة (32 عاماً)، وسائق السيارة (من نوع «جاغوار») اللبناني خليل صالح آغا.
استثنى الخاطفون سائق السيارة من الخطف، واقتادوا كلاً من عمار وقدورة إلى جهة مجهولة، تاركين السائق في السيارة. في اليوم التالي، تلقّت زوجة عمار اتصالاً هاتفياً من الخاطفين: «زوجك مخطوف، والفدية خمسة ملايين يورو (المبلغ ذاته الذي ناله خاطفو الاستونيين)، أو يعود إليك جثة هامدة».
بعد مرور خمسة أيام على الخطف، ودخول وسيط مدني بين الخاطفين ذوي المخطوفين، سلّم الخاطفون عمار وقدّورة إلى الوسيط، في محيط بلدة بريتال، بعدما تلقوا من الوسيط فدية قيمتها مليون دولار.
آنذاك، ردّد أكثر من مصدر أمني أن خاطفي عمّار ومحاسبه هم من بلدة بريتال، وينتمون إلى عصابة يترأسها م. ف. إ.، لكن القوى الأمنية لم توقف الفاعلين.
استراحة محارب
عند الحادية عشرة قبل ظهر السابع من كانون الأول الماضي، كان المدير الإداري لمصنع «ألبان لبنان» أحمد زيدان يهمّ بالدخول إلى مقرّ المعمل، الواقع في بلدة حوش سنيد البقاعية، عندما أقدم ملثمون على اختطافه من سيارته.
وما إن شاع الخبر، حتى بدأت القوى الأمنية رحلة بحثها عن زيدان، التي استمرت أربعة أيام، أثمرت عثور الجيش اللبناني على زيدان، في غرفة مهجورة تقع في خراج بلدة الطفيل الحدودية. واكب عملية البحث عن زيدان كل من رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وقائد الجيش العماد جان قهوجي.
وفيما أكد زيدان، وأكثر من مصدر أمني، حينها، أن العائلة لم تدفع أي فدية للخاطفين، إلا أن مصادر أمنية واسعة الاطلاع، تشير إلى أن الخاطفين تلقوا فدية مالية «عالية، تتخطى المليوني دولار».
لا معلومة رسمية تؤكد ان كان الخاطفون قد تلقوا فدية مالية أم لا، لكن المؤكد أن القوى الأمنية وجّهت أصابع الاتهام إلى م. ف. إ. ومجموعته، وذلك بعد مرور ثلاثة أشهر من اختطاف عمّار وقدّورة.
القوى الأمنية تتهم م. ف. إ. مرّة ثانية.
هدف خاطئ
غياث الجابي رجل سوري، تردد اسمه بعد مرور 49 يوماً على إطلاق سراح زيدان، على أنه رجل أعمال سوري ثري، اختطف في الأول من شباط الماضي، عند طريق المصنع - دير زنون. حتى الأمس، كانت وسائل الإعلام، وبعض المصادر الأمنية، تقول إن الخاطفين «تركوا سائق الجابي، ي. م.، واستثنوه من الخطف».
لكن معلومات «السفير» تشير إلى أن الجابي ليس رجل أعمال، بل هو السائق الخاص لرجل الأعمال الثري ي. م.، الذي كان يقود السيارة. فالخاطفون استندوا إلى «العادات» السائدة، التي تقضي بأن الجالس خلف مقود السيارة هو السائق الخاص، فيما الشخصية الأساسية تجلس إما إلى جانبه، أو في الخلف.
بذلك، نجا رجل الأعمال الحقيقي من عملية الخطف، لأنه كان يقود السيارة، فيما اختطف السائق، الذي كان باكورة الخاطفين لشهر شباط، الشهر الذي شهد أربع عمليات خطف متتالية في البقاع.
الاستونيون السبعة، وعمار وقدّورة، وزيدان، اختطفوا في وضح النهار في العام الماضي، بناء على معلومات مسبقة ودقيقة. أما الجابي، الذي اختطف أيضاً وفق معطيات مسبقة عن دخوله بصحبة ي. م. إلى لبنان من معبر المصنع، فقد اختطف ليلاً.
أبلغ الخاطفون، في اتصال هاتفي، زوجة الجابي بوجوب تأمين مبلغ أربعمئة ألف دولار. وبما أن المخطوف ليس رجل أعمال كما توقع الخاطفون، فكانت الفدية «رمزية» إلى حد ما، مقارنة بالأموال التي دفعها ذوو المخطوفين الباقين، للخاطفين.
وبعد مرور أربعة أيام على الخطف، كانت خلالها زوجة الجابي تعمل على جمع المال، دفعت الزوجة مليون ليرة سورية (نحو عشرين ألف دولار)، وانتزع الخاطفون منها مصاغاً ذهبياً، عندما واجهتهم للاستلام والتسليم، في أعالي بلدة بريتال.
القوى الأمنية تتهم م.ف. إ. مرة ثالثة.
همّة «قوية»
بعد مرور خمسة أيام على إطلاق سراح الجابي، أطلق مسلحون، كانوا يستقلون سيارة رباعية الدفع خضراء اللون، النار على سيارة رباعية الدفع تحمل لوحة سورية، عند الطريق العام لتعنايل. كبحت السيارة السورية فراملها، وفي خلال ثوان معدودة ترجل مسلحون من السيارة اللبنانية، واختطفوا الأشقاء الثلاثة هشام (45 عاماً) وعماد (46 عاماً) وأسامة (50 عاماً) عبد الرؤوف، والسائق خالد عبد السلام حمادي.
كان المسلحون يرتدون بزّات الجيش اللبناني، فتوجس المخطوفون، متسائلين عن سبب اختطافهم، فرّد أحدهم بنبرة صارمة: «أنتم ضد النظام السوري، ولنا حسابات معكم».
لكن، بعد وصولهم إلى «مركز» الخطف، أوضح أحد أفراد المجموعة: «كنا نمزح معكم. لا علاقة للسياسة بالموضوع. نريد منكم فدية مالية، قيمتها مليونا دولار». وتسهيلاً لتأمين المبلغ، قرر الخاطفون إطلاق سراح أحد الأشقاء الثلاثة، فاستقر الخيار على أسامة، وهو أكبرهم سنّاً.
وفيما كان المخطوفون الثلاثة (الشقيقان والسائق) يتعرّضون للضرب المبرح، وفق إفاداتهم للقوى الأمنية، طيلة أيام احتجازهم الثمانية عشر، أقدم «مجهولون» كان يرتدون بزّات الجيش اللبناني على اقتحام مجمع «المدينة الخضراء» (Green City)، الواقع في حيّ الكرك في زحلة، في السابع والعشرين من شباط الماضي.
المجمع السكني يتمتع بشبه حماية ذاتية خاصة، ولذلك فرض الخاطفون قوّتهم منذ اللحظة الأولى، أمام الحارس الرئيسي: «افتح البوابة، نحن من مخابرات الجيش»، فاستقرت سيارة عند مــدخل المجمع الرئيسي، ودخلت سيارة واحدة بين المباني السكنية.
سأل «المجهولون» عن منزل السوري محمد عز الدين، وهو رجل أعمال يعمل في السعودية، فاستدلوا على المنزل. لازمت السيارة مكانها قبالة المنـــزل، وترجّل منها رجل مسلّح، اقتحم المنزل شاهراً سلاحه الحربي بوجه طفلة تبلغ من العمر ثلاث سنوات.
صوّب الرجل سلاحه على رأس الطفلة، مهدداً الأم، فيما كان الأب مسافراً في السعودية. «نريد كل الأموال والمصاغ الموجودة في المنزل، الآن». أحضرت الأم مبلغاً نقدياً قيمته ثلاثون ألف دولار، ومجوهرات بقيمة مليون ليرة ســورية. ظنّت الأم أن هــدف الاقتحام هو السرقة فقط، إلا أن الرجل اقتــاد كل من ولديها علي (14 عاماً) وبراء (12 عاماً). «أي حرف يخـرج إلى القوى الأمــنية، كفيل بأن يدفعنا إلى قتلهما. سنتصل بك».
كانت الساعة الثالثة فجراً، وكان كل من الشقيقين عبد الرؤوف والسائق خالد مخطوفين منذ 16 يوماً. غادر الخاطفون المجمع السكني، وانتظرت الأم الاتصال الهاتفي. بعد مرور نحو ساعة ونصف الساعة، ورد اتصال هاتفي إلى أحد أقارب الأم، طالباً فدية مالية بقيمة ثلاثة ملايين دولار.
خلافاً للمفاوضات الباقية، وطول انتظار الوصول إلى اتفاق مع الخاطفين، استطاعت الأم – من دون أن تخبر أي جهاز أمني - استرجاع ولديها بعد مرور 12 ساعة فقط، عند الثالثة بعد الظهر!
لكن القاسم المشترك، من بين قواسم مشتركة عدة في حيثيات عمليات الخطف الآنفة، تمثّل بخفض الفدية، إذ سدّدت الأم مبلغاً قيمته ثمانية ملايين ليرة سورية (نحو 160 ألف دولار)، أرسلته مع شخص من عائلة س.، ثم جرت عملية التسليم عند طريق دير- زنون.
إفراج.. فاختطاف
في التاسع والعشرين من شباط الماضي، وبعد مرور 18 يوماً على اختطافهم، أطلق سراح كل من الشقيقين هشام وعماد والسائق خالد، بعدما دفع شقيقهما أبو شادي فدية مالية بقيمة ستة ملايـــين ليرة سورية. كـــان قد مرّ يوم واحد على إطلاق سراح علي وبراء.
لكن في اليوم ذاته الذي أطلق فيه سراح هشام وعماد وخالد، عند طريق تل عمارة - رياق، وتحديداً قبل نحو ست ساعات، أقدم «مجهولون» على اختطاف الفتى زياد أبو إسبر (16 عاماً) من مزرعة والده عند أطراف مدينة بعلبك.
يغمض الفتى عينيه لبرهة، محاولاً تفحّص ذاكرته، قائلاً: «كانت الساعة السادسة مساء، عندما سمعـــت صوت بـــوق سيارة. نزلت من الشرفة لاستبيان الأمر، فســـألني أحد الأشخاص: من هو زياد؟ فقـلت له: أنــا».
وما إن نطق الفتى بالـ«أنا»، حتى رفع «المجهولون» أسلحتهم الرشاشة في وجهه، بعدما كانوا قد هددوا أحد عمّال المزرعة وأجبروه على الركوع والانزواء. استقل زياد السيارة رباعية الدفع عنوة، ثم حاول التخلّص منهم، فوقع تعارك بالأيدي من دون أي جدوى بالنجاة من المسلحين: رشّوا مادة مخدّرة في وجهه.
بعد مرور ساعة على اختطافه، اتصل الخاطفون بوالد زياد، خالد، وقالوا له بحزم: «اسمع، نريد مئة وخمسين ألف دولار. جهّز المبلغ. لكن إذا عرفت أي جهة سياسية أو أمنية، أو أي وسيلة إعلامية، بالموضوع، فسنقتل ابنك فوراً»، ثم أقفلوا الخط. كان الأب آتياً إلى المزرعة، وكانت العاصفة الثلجية في أشدّها.
استيقظ زياد، في اليوم التالي على اختطافه، مكبلاً ومعصوب العينين. لا تسعفه ذاكرته في تذكّر أي مشهد، «لأنني كنت مخدّراً على الدوام». يتذكر، بغتةً، أن الخاطفين عرضوا عليه تناول الطعام، لكنه لم يأكل طيلة أيام اختطافه الخمسة، سوى أنصاف من مكعبات الجبن الفرنسية المعلّبة. «مجموعها ثلاث حبّات» يقول.
كان الخاطفون يتصلون بالأب نحو خمس مرّات في اليوم، وفي كل اتصال يكون الرقم الخلوي مختلفاً عن الآخر، ولا تتخطى مدة المكالمة 20 ثانية، فيما كانت والدة زياد مفجوعة. «إنهم يعرفون كل شاردة وواردة عن المزرعة، حتى عدد البقر فيها!» يقول خالد.
عندما سأل الخاطفون زياد عن عدد البقرات الموجودة في المزرعة، أجابهم: «ثلاثون بقرة»، وسرعان ما أطفأوا سيجارة في إحدى يديه. «لا تكذب! عندكم 130 بقرة!».
يهز الفتى كتفيه، نافياً أن يكون قد شعر بالخوف. لكن «كنت خائفاً على أمي». يتذكر الفتى أنه سمع، في يوم من أيام اختطافه، أن الخاطفين قالوا، بشيء من الحسرة، انهم «لو وفقوا في اختطاف والدي، لكانت الفدية أثمن».
الخدر الذي أصاب الفتى أنساه مكالمة هاتفية مع والده. يقول الأب إن الخاطفين سمحوا له بسماع عبارة واحدة من ابنه: «أنا تعبان، وبردان». لكن زياد لا يذكر المكالمة الهاتفية.
بعد مرور خمسة أيام على اختطافه، وفي فجر الرابع من آذار الحالي، أطلق سراح الفتى. «ساعة التسليم كانت طويلة. بين الدقيقة والثانية كان يردني اتصال هاتفي منهم. وكنّا قد توصّلنا إلى دفع فدية قيمتها 116 مليون ليرة لبنانية. أخبرتهم أن هذا هو المبلغ الذي استطعت تجميعه».
تم الاتفاق على أن توضب الأموال في كيس، ثم يرميها خالد على الثلج، في «مكان ما». انصاع الرجل لطلبهم، ورمى كيس الأموال على الثلج. بعد ربع ساعة، وصل الرجل إلى طريق الجمالية العام. كان زياد يموت من البرد، مرمياً عند ناصية الطريق.
«كنت أرتجف من البرد. ولمّا وصل والدي، حدّق في وجهي، وبكى».
اليوم، أصبح زياد حذراً من كل أمر، «حتى من أقربائي وأصدقائي في المدرسة». بعد عودته من المدرسة، ينجز الفتى واجباته المدرسية، ثم ينخرط في عمله بالمزرعة. «لن أطل عن الشرفة مرة ثانية، حتى لو ملأت السيارات المزرعة بضجيج أبواقها».
فـي بـريتـال: «يمعنـون فـي تشـويـه صورتنـا»
عملية اختطاف الفتى زياد أبو إسبر، هي الأخيرة حتى الساعة في عمليات الاختطاف في البقاع.
تقول المراجع الأمنية المعنية إن خيوط الاتهام تحوم حول عصابة م. ف. إ.، ابن بلدة بريتال.
قبل وقوع عمليات الخطف المتسلسلة، كان يكفي ذكر اسم البلدة، حتى تتشكل صورة قاتمة، سوداء، تبعث على الخوف: «إنها منبع السيارات المسروقة. الناس يتوافدون إلى البلدة لاسترجاع سياراتهم المنهوبة. في البلدة حكم أمني ذاتي، وعصابات قتل وتزوير وترويج مخدرات» هكذا يردد عامة الناس.
وعلى الرغم من أن الصورة السوداء، عند عامة الناس، ليست محصورة ببريتال بقاعا، إلا أنها أكثرها سواداً لما يسمعه الناس عن مجرميها. السير ليلاً، عند طرق البقاع، أضحى ضرباً من ضروب المخاطرة.
بريتال، اليوم، وبعد وقوع عمليات الخطف المتسلسلة، أصبحت أشبه ببلدة ضبابية، تصنّف زيارتها في خانة المغامرة غير المحمودة العواقب.
عند جانبي الطريق الرئيسية للبلدة، ثمة بيوت عادية مبنية من طابق واحد، وموزعة بطريقة هندسية تشبه بيوت سائر القرى. شمس الظهيرة تلجم الضوضاء. قبل الوصول إلى ساحة البلدة، ثمة سيارة محترقة يغطّيها الرماد، تجاورها صورة القيادي في «حزب الله» الشهيد علي صالح.
ثمة صور للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله مثبتة في ساحة البلدة، تقابلها صور لشهداء البلدة. حركة السير عادية، خفيفة. ثمة شبان يحملون العصي بيد، والأجهزة اللاسلكية باليد الثانية. تحتضن البلدة نحو عشرين ألف نسمة.
يشعر زائر البلدة بأنه مراقب. «استيقاف أبناء البلدة فجأة، لإجراء دردشة إعلامية معهم، هو أمر غير محبّذ، ومن المؤكد أنه سيسبب إشكالا فوريا» يقول أحد وجهاء القرية، محذراً.
يقول الرجل إن البلدة كانت محسوبة علناً على الشيخ صبحي الطفيلي، الأمين العام السابق لـ«حزب الله». أما اليوم، فإن «أبناءها منقسمون بين مؤيد لطفيلي، ومناصر للحزب. إلا أن بعض أعضاء المجلس البلدي للقرية، ورئيسها، هم من المحسوبين على الطفيلي، علماً أن الحزب لم يخض الانتخابات البلدية في البلدة، مفضلاً عدم التدخل في الانتخابات».
في منزله المطل على البلدة، يجلس رئيس بلدية بريتال عباس زكي اسماعيل، متحدثاً لـ«السفير» عن قناعة لن تتبدّل في ذهنه: «ثمة تعمّد من جانب السلطة السياسية لإنتاج فوضى في منطقة بعلبك، حتى لا تصبح جزءاً من الدولة. ثمة تقاطع مصالح رسمية وحزبية كي تكون المنطقة خارج خريطة الدولة».
الرجل، الذي نال مقعد رئاسة البلدية للمرة الثالثة على التوالي، يصرّ على اتهام أركان في الدولة بالضلوع في تغطية بعض المجرمين. يقول: «هناك برنامج مجدول، يرمي إلى أن تعيش منطقة البقاع عبثيتها. سياسيو المنطقة ينفذون الأجندة. المجرمون يتصلون بنواب وضباط، كي يعاونوهم على حل قضايا قضائية عالقة».
يقول رئيس البلدية إنه بات يخجل من الشكوى أمام مسؤول في الدولة. «الشكوى بلا فائدة. ما الذي يمنع المسؤولين من توقيف أي كان من المتهمين بارتكاب الجرائم؟ لقد تم تشويه صورة البلدة، فأهلها يتمتعون بعنفوان قلّ نظيره. بريتال قدّمت 85 شهيداً من أبنائها. أما رؤساء العصابات فيها، فلا يتخطى عددهم أصابع اليد الواحدة».
في العام 1973، وفق زكي، قدّمت البلدة عقاراً للدولة، طالبةً منها تشييد مدرسة فوقه. مرّت الأعوام، و«الدولة متجاهلة الموضوع، حتى العام 2008، منّ علينا الكوريون وشيّدوا المدرسة! كوريا تتبرّع بإنشاء مدرسة، والدولة اللبنانية تتمنّع».
ليس في البلدة مستوصف واحد. وقبل أيام، شيّد مخفر لقوى الأمن الداخلي، لكنه ما زال شاغراً. يسأل زكي: «كيف لابن البلدة أن يشعر بوجود الدولة؟ ليس هناك علم لبناني واحد مرفوع على مركز رسمي. بالنسبة له، الدولة هي المداهمات والدوريات الأمنية، والرصاص. هذه دولته. إنه يدفع ضريبة لا علاقة له بها».
تتمثل الخطوة الأولى لدحض صورة البلدة القاتمة، وفق زكي، في «قطع التواصل بين المجرمين والنافذين في الدولة. ثم يتم انتزاع القرار القاضي بجلد البلدة. فعندما يشاهد ابن منطقة البقاع، عامة، إهمال الدولة له، كيف له أن يحب وطنه، وبالتالي كيف لا يتعرّض لأبناء وطنه ويسرقهم؟ لا تعليم، ولا طبابة ولا توظيف».
عمليتا خطف وهميتان
استفادت مجموعة ابتزازية، أوقف شخصان من أفرادها والعمل جار على توقيف الباقين، من عمليات الخطف التي جرت في البقاع منذ آب الماضي، فلجأت إلى تدبير عمليتي خطف وهميتين لقاء الحصول على فدية مالية.
وفي التفاصيل، أعلنت شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي، في بيان أصدرته أول أمس، أن «نتيجة الاستقصاءات والتحريات، بيّنت أن الفتى القاصر ع. م. (مواليد 1994)، الذي قال لذويه إنه اختطف الأربعاء الماضي في عين بورضاي البقاعية، هو من دبّر عملية اختطافه بالتنسيق مع خاطفيه».
واعترف الفتى، وفق البيان، بأن هدف الخطف المزعوم كان لتحصيل فدية مالية من ذويه، يتقاسمها مع «خاطفيه»، وقيمتها مئة ألف دولار. لكن «الفتى أعاد حساباته، بعدما تم التفاوض مع ذويه، وتراجع عن اتفاقه، ثم عاد إلى منزل ذويه، دون علم أحد من الخاطفين».
وفور وصوله، ادّعى أمام مخفر درك بعلبك بأنه اختطفه أشخاص مجهولون، قائلاً إنهم أطلقوا سراحه بعد يوم واحد في سهل عدوس - بعلبك. لكن بعد اعترافه بحقيقة الأمر، استدرجت القوى الأمنية كلا من شريكيه ح. ج. (مواليد 1985)، وع. ع. (مواليد 1983)، واعترفا بقيامهما بتدبير عملية الخطف.
كما تبيّن أن الشابين، وفق اعترافهما، هما من دبّرا عملية خطف الفتى الفلسطيني م. ك.، في 22 شباط الماضي، من محلة دورس، والذي أطلق سراحه بعد يومين، مقابل فدية مالية علمت «السفير» أن قيمتها خمسون ألف دولار.
توقيف ومداهمات
أوقفت دورية من مفرزة استقصاء البقاع، أول أمس، ق. إ. (مواليد 1967) في منزله في بريتال، الصادر بحقه سبع وعشرون مذكرة توقيف عدلية، بجرائم تجارة أسلحة ومخدرات، وسرقة سيارات، وترويج عملة مزيفة.
وقبل ثلاثة أيام، أوقف الجيش مطلوبين للقضاء بموجب مذكرات يفوق عددها المئة، ومنهم م. م.، وع. م.، وع. أ. الذي تمت مداهمة منزله لكنه كان متوارياً.
وحتى أمس، وعلى الرغم من المداهمات الروتينية، لم تسفر الجهود الأمنية عن توقيف أي مطلوب في عمليات الخطف، التي بلغ عددها الرسمي ست عمليات، جرت تباعاً في البقاع، بعد إطلاق سراح الأستونيين السبعة في تموز من الماضي. وذلك باستثناء توقيف وائل عباس، الذي كان متورطاً في عملية خطف الأستونيين.
زيار أبو اسبر في مزرعة والده (عباس سلمان)
عشرون ألف نسمة في بريتال تتجاهلهم الدولة (عباس سلمان)
تعليقات: