محاولة البحث عن ناجين (أرشيف ــ وائل اللادقي)

أدى القصف الذي طاول الجسور في الشمال في مثل هذا اليوم من العام الماضي إلى استشهاد خمسة مواطنين وجرح آخرين. لم تكن هذه المرة الأولى التي يتعرّض فيها الشمال للقصف منذ بداية الحرب، فقد قُصفت عكار في اليوم الخامس للعدوان ما شكّل صدمة للعكاريين بعد أن وضعتهم هذه الحرب وجهاً لوجه مع عدو تعرفوا إليه للمرة الأولى

وفي اليوم الخامس، وصل العدوان الإسرائيلي إلى عكّار...

انضمّت المنطقة التي لم تشهد أي عدوان مماثل له في تاريخها «رسمياً» الى خريطة المناطق التي شملتها حرب تموز 2006. فدُمّرت الجسور والعبّارات (جسر عرقة، العويك والصدقة) وقُصفت المرافئ البحرية (في العبدة ومحيط مخيم نهر البارد) وقُطعت الطرقات الأساسية (حلبا ـــ طرابلس، حلبا ـــ القبيات، بيت جعفر ـــ الهرمل) والطريق الدولية (عند نقطة العبودية)، كما قُتل عدد من المدنيين ومن عناصر الجيش اللبناني، وواصلت الطائرات الحربية غاراتها فوق قرى وبلدات تعرّفت للمرة الأولى «شخصياً» على «العدو الإسرائيلي».

لكن عكّار، المنهكة أصلاً من إهمال تاريخي لها، تخطّت تلقائياً، في ذلك الوقت، مشكلة «قطع الأوصال» وضرب البنى التحتية التي اعتمدها العدو لتفتح ذراعيها لمهجّري الجنوب والبقاع، ولتحجز لنفسها مكاناً في صفّ المقاومة الوطنية إلى جانب «زميلاتها في النضال» بيروت والبقاع والجنوب.

عاش العكّاريون حرب تموز بحماسة المقاوم «الحديث العهد»، ودهشة من تلقّى زيارة مفاجئة من عدوّ طالما سمع عن ويلات حروبه وشاهد مآسيها في القرى الجنوبية. شعر الأهالي للمرة الأولى بخطر مواجهة حرب وحشية لم يكونوا مهيّئين لها، لا نفسياً ولا سياسياً ولا عسكرياً.

«حزب الله» غير المتواجد في منطقة عكار لا سياسياً ولا ميدانياً حلّ بطلاً في معظم القرى والبلدات العكّارية، فعلّقت صور السيّد حسن نصر الله في أكثر من منزل وقرية «مسيحية» وفُتحت البيوت والمدارس أمام مهجّري الجنوب والبقاع وقُدّمت لهم المعونات.

«كنت أنوي أن أعلّق صورة السيّد على حائط المنزل الخارجي، لكنني خشيت أن يمزّقها أحدهم فاكتفيت بوضعها في غرفة الجلوس»، تقول ندى (32 سنة) من بلدة منيارة. لم تشكّل مشاكل تلك المنطقة الاجتماعية والخدماتية والاقتصادية رادعاً أمام العكّاريين لإبداء حماستهم في مواجهة العدو الإسرائيلي وإشهار تأييدهم لـ«المقاومة الإسلامية».

لكن عكّار، كباقي المناطق اللبنانية، كانت تعيش، قبل حرب تموز، حالة غليان سياسي وانقساماً داخلياً حادّاً اتّخذ زوراً شكل صراع حزبي عقائدي، في منطقة لم تشكّل السياسة فيها يوماً أولوية أو أساساً. فتغلغل الانقسام الحزبي ـــ الطائفي بسهولة الى القرى والبلدات التي انقسمت بلدياتها وعائلاتها وحتى الأحزاب فيها على نفسها في ظلّ غياب أي توعية سياسية فكرية خاصة في صفوف الشباب الأكثر حماسة تجاه موجة الأحزاب التي عادت فجأة الى المنطقة. ومع حلول حرب تموز، تبنّى كلّ طرف وجهة نظر حزبه أو زعيمه فكانت تعلو في بعض الأحيان أصوات متأففة من «إقحام البلد في حرب نحن بغنى عنها» أو بعض الكلام عن «توقيت مقصود من قبل حزب الله وسوريا لضرب السياحة والأمن والحوار في لبنان».

واليوم، وبعد سنة على مرور الحرب الإسرائيلية، وفي خضمّ ما تشهده منطقة الشمال وعكار تحديداً من أحداث دموية يومية، بات المشهد مشوّشاً بالكامل: فالعدوان انتهى والحرب همدت، لكن «الانتصار» يبقى غير محسوم بنظر البعض والتداعيات السياسية اختلطت بأزمة «نهر البارد» و«فتح الإسلام» المستجدّة، الأمر الذي زاد من حدّة الاصطفاف الحزبي ـــ الطائفي المتطرّف، تؤجّجه «ثقافة التلفزيون» التي رسّخت لغة خشبية يرددها الكبار والصغار من دون أي استعداد لتقبّل اقتراح أو رأي آخر. وما يزيد الوضع سوءاً، جوّ الغضب والحزن واليأس السائد في معظم قرى عكار التي لا تزال تخسر يومياً شهداء من الجيش اللبناني في معركة مخيم نهر البارد.

وفي استذكار «حرب تموز» يبقى الجدل قائماً مثلاً حول مسألة «النصر» و«الهزيمة». «لم يكن النصر للبنان، بل كان لحزب الله فقط، وقد دفع الوطن بأكمله الثمن» يقول خالد (29 سنة) من بلدة حلبا.

وعن «المؤامرة السياسية» يضيف عمر (25سنة) من بلدة ببنين إنّ «هناك مؤامرة إسرائيلية ـــ سورية بالاشتراك مع حزب الله على لبنان لضرب اقتصاده وموسمه السياحي وأمنه... في النهاية هذا ما تريده سوريا!».

ويرى ابراهيم (26 سنة) من بلدة رحبة أنّ كل ما جرى ويجري الآن هو «محاولة من قبل فريق 14 شباط لضرب المقاومة اللبنانية ولتأليب الرأي العام ضد حزب الله». أما زينة (37 سنة) من بلدة القبيات، التي هاجرت أثناء حرب تموز إلى كندا وعادت منذ أسابيع، فهي تنتظر أخاها الضابط في الجيش اللبناني لينهي مهمّته في معركة «البارد» كي تباشر في معاملات هجرة أهلها جميعهم إلى كندا «لأن الوضع من سيّئ إلى أسوأ ولا أحد يستأهل أن نموت لأجله!».

عكّار ما بعد الحرب هي كما قبلها «آخر المستفيدين من كل شيء»، وهي اليوم المنطقة الوحيدة التي لم تُستكمل فيها عمليات إصلاح الأضرار بعد.

تدمير جسر حالات صباح 4 آب 2006