المحافظة المنسية شمالاً كانت في قلب العدوان - عـكــار: وحـدهــا إسـرائيــل تـذكــرتــهـا...

يزرع أرضه العكّارية (غسان ريفي)
يزرع أرضه العكّارية (غسان ريفي)


عكار:

تذكرت اسرائيل عكار، المحافظة المنسية عند الأطراف الشمالية للبنان، منذ اليوم الثاني لعدوانها. من يذكر أن اسرائيل استهدفت عكار؟ من يذكر ماذا جرى في عكار؟

أبلغ الإسرائيليون أهل عكار، عند الرابعة من عصر يوم 13 تموز الماضي، أنهم في قلب الاستهداف.

نفذت المقاتلات الاسرائيلية أولى غاراتها على مطار رينيه معوض في القليعات، لتكر من بعدها سبحة الاعتداءات وتطاول قرى وبلدات وجسورا وعبارات، تقتل البشر، وتوقع خسائر فادحة في البنى التحتية والممتلكات والأرزاق.

ما زال أهالي عكار، وعلى الرغم من مرور عام كامل على الحرب، يعيشون تداعياتها ويرزحون تحت وطأتها، في ظل غياب أي أفق للافراج عن التعويضات المقررة من الحكومة اللبنانية.

يحرر الكشف تلو الآخر من قبل مهندسين مختصين، ويقدم المتضررون طلباتهم مرفقة بالكثير من الأوراق، ثم ما يلبث أن يختفي بعضها من الملفات لأسباب مجهولة، يستغربها المواطنون المتضررون.

بعد المسوحات والكشوفات، تبدأ رحلة عشرات المراجعات في وزارة المهجرين وضمن الدوائر المعنية في بيروت، ولكن بلا جدوى حتى الآن.

يبقى الانتظار المر هو سيد الموقف، فيما فوائد الديون تلتهم كل مقدرات المتضررين الذين باشروا في إعادة ترميم وإعمار منازلهم ومحلاتهم ومؤسساتهم التجارية مع حصولهم على التعويضات التي قدمها حزب الله بعد العدوان مباشرة، والتي تراوحت قيمة كل منها ما بين مئتي دولار إلى أربعين ألف دولار بحسب تقديرات لجانه الهندسية.

صرفت المبالغ بأكملها، ووجد أصحابها أنفسهم مضطرين إما إلى التوقف عن العمل أو الى الاستدانة على أمل وصول التعويضات الحكومية التي ما تزال في علم الغيب.

وتمتد البلدات والقرى العكارية التي استهدفها القصف الاسرائيلي في عدوان تموز الماضي انطلاقا من السهل (من العبدة الى الحيصة) مرورا بمنطقة الشفت (حلبا ـ الكويخات وجوارها) وصولا الى قرى وبلدات الدريب (القبيات ـ عندقت) فالجرد (فنيدق ومحيطها).

من الحرب الإسرائيلية إلى حرب البارد

لم تستفق عكار بعد من حال الصدمة، فيما تعتري الحيرة أهلها : لماذا طاولهم العدوان فيما لا مراكز أو قواعد عسكرية لحزب الله في عكار، ولا مقاومة ولا سلاح؟

يخمنون أن السبب يعود لكون «عكار هي البوابة الشمالية للبنان على سوريا ومنها الى باقي الدول العربية، وهي الخزان البشري للجيش اللبناني، ويأتي استهدافها في إطار مخطط الغزاة لتقطيع أوصال الوطن من جهة، وعزله عن محيطه العربي من جهة ثانية، بالإضافة إلى ترويع أهل المنطقة وفرض حالة حرب عليهم كما على سائر اللبنانيين».

يشعر أهالي عكار بالحسرة لأنهم، وبالرغم من أنهم تساووا في الأضرار مع المواطنين في المناطق الأخرى، ودفعوا ثمنا باهظا قد يضاهي ما تكبدته بعض القرى الجنوبية، إلا أنهم ما زالوا ينتظرون أن تنصفهم الدولة اللبنانية أسوة ببقية المتضررين.

بعد عام على العدوان، تدور عجلة الحياة ببطء في عكار وتنعكس سلبا على الحركة الاقتصادية برمتها في المنطقة التي كان يستعد أبناؤها هذا العام لموسم صيفي ناشط، كانوا يأملون أن يعوضهم بعضا من خسائر العام الماضي.

إلا أن المفارقة كانت أنه في الذكرى اليوم الأول للحرب في 12 تموز، قرر مقاتلو «فتح الإسلام» استهداف القرى والبلدات العكارية بصواريخ الكاتيوشا من تحصيناتهم في مخيم نهر البارد حيث يخوض الجيش اللبناني معركة ضارية معهم منذ 20 أيار الماضي.

وقد ضاعفت مواجهات البارد حالة الخوف التي تنعكس شللا اقتصاديا وتوترا اجتماعيا على جميع العكاريين الذين وجدوا أنفسهم، مرة جديدة، وبشكل مفاجئ محاصرين ومعزولين عن بقية الوطن.

يضاف إلى كل ما سلف تعثر الحركة التجارية، وأعمال نقل البضائع والمنتجات الزراعية.

كأنه لم يكن ينقصهم سوى الصواريخ العمياء التي تطلق عشوائيا لتقضي على ما تبقى من حركة ووتيرة الحياة، ولتضع عكار مجددا في دائرة الخطر.

ومما يزيد الطين بلة، إغلاق الحدود الشمالية اللبنانية ـ السورية من قبل السلطات السورية، مما أطبق الخناق بشكل كامل على عكار التي باتت تشهد شحاً في بعض البضائع المستوردة من سوريا، فضلا عن نسبة غلاء في الأسعار لم يعرفها من قبل أهالي المنطقة الفقيرة أصلا.

هل في البلاد من هو معني بالتحرك سريعا لإيجاد السبل الكفيلة بالافراج عن هذه المحافظة التي تنتظر منذ العام 2003 الاعتراف بها؟

نعم، لمن يذكر، فإن عكار أُقرت في العام 2003 أقرت محافظة، لا قضاء تابعاً لمحافظة طرابلس. ومنذ ذلك اليوم ما زالت الحساسيات المناطقية والتجاذبات السياسية تحول دون تسمية محافظ لها، فيما تستمر سياسة التهميش المترافقة مع الاهمال المزمن بإعاقة توفير الإطار المناسب والمكان اللائق لمركز المحافظة.

متى تفرج الوزارة عن التعويضات؟

قام رئيس كتلة المستقبل النيابية النائب سعد الحريري بتمويل عملية إعادة إعمار وتأهيل الجسور في المنطقة، ما ساهم في وصل بعض ما انقطع في عكار باستثناء جسر عرقة الرئيسي الذي استبدل بجسر حديدي مؤقت جهزه الفرنسيون، ويعمل على خط واحد فقط. وكان العمل على إصلاح الجسر قد توقف بسبب معارك نهر البارد.

أما إصلاح الأضرار الأخرى التي لحقت بالبلدات العكارية فما زال ينتظر الإفراج التعويضات الموعودة.

على حافة الطريق الفرعية المستحدثة عند جسر عرقا والتي تربط منطقة العبدة بحلبا، يجلس الحاج أبو محمد يشرب قهوته الصباحية ويتظلل بشجرة كبيرة أمام منزله يراقب زحمة السيارات الخانقة ويقول: «لا يعجبنا هذا الوضع ولكن ما بيدنا شيء، قالوا انهم سيصلحون الجسر ولكن حرب البارد منعت المهندسين من الوصول».

يعتبر الحاج ابو محمد أنه خلال العدوان «ما كان عند إسرائيل شغلة وعملة غيرنا، كل ما ضاج الطيار أو ضاق خلقه كان يأتي ويرمي صاروخا أو اثنين على جسر عرقا». قصف جسر عرقا خمس مرات، ومعه قصف «عمر أبو محمد والأهالي، فبيوتنا تصدعت والمنطقة كلها عاشت رعبا كبيرا، ما عدنا نتحمل كل هذا الازدحام ووسخه وغباره».

حلبا: الاستدانة هي الحل الوحيد

يعيش في حلبا 18 ألف نسمة يقطنون في أكثر من 1500 وحدة سكنية قائمة مع أراض زراعية على مساحة 503 هكتارات.

تبدو الطريق اليها خالية إلا من بعض سيارات أبناء البلدة والسيارات العابرة من مناطق عكارية أخرى واليها.

ترتفع ورش العمل في الأبنية والمؤسسات القريبة من الساحة التي استهدفها القصف الإسرائيلي. معظم الأعمال تنفذ بالدين «لأن عجلة الحياة يجب ان تستمر».

يقول غازي الحلبي (صاحب احدى المؤسسات التجارية) انه ظن أن عائلته قتلت بكاملها لما قصفت المنطقة، إذ شعر وكأن زلزالا قد وقع ودمر كل شيء. بعد انقشاع الغبار، اكتشف الحلبي حجم الخسائر في الحي، في الأبنية وفي المنازل والبضائع والطرقات. يقدر أن قيمتها تفوق الثلاثة ملايين دولار.

يقول ان المساعدة التي تلقاها من حزب الله وقيمتها أربعون ألف دولار ساعدته للبدء بأعمال الترميم، ولكن مع تأخر صرف التعويضات الحكومية وجد نفسه مضطرا للاستدانة ليكمل ما بدأه من إعمار «علينا أن نعود للعمل وهذا باب رزقنا الوحيد».

يأمل الحلبي أن ينجح في تجاوز هذه المحنة التي قضت على كل إمكانياته، خصوصا أن حركة البيع متوقفة تماما في هذه الأيام.

في المقابل، لم تنحصر أضرار المهندس إبراهيم حسن بالماديات. فقد أدى القصف الإسرائيلي لإصابة شقيقه، فيما اشتعلت النيران في محله وأتت على كل محتوياته.

تقدم، هو وأفراد عائلته الذين خسروا محلاتهم التجارية، بطلبات «حسب الأصول» الى وزارة المهجرين من أجل الحصول على التعويضات ولكن حتى الآن ما زال الوضع على «الوعد يا كمون».

يؤكد رئيس بلدية حلبا سعيد الحلبي ان البلدة تعرضت لنكبة كبرى مع إصابة أكثر من 64 مؤسسة ومحلا تجاريا ومنزلا بأضرار متفاوتة، ومنها ما دمر كليا، مشيرا الى ان إسرائيل كانت تريد أن تنتقم من لبنان وشعبه، وان تعمم الخوف على كل مساحات الوطن.

قامت البلدية «بواجباتها»، وفق الحلبي، فتولت مهام رفع الانقاض وإصلاح ما أدى القصف الى تعطيله، وترميم الطرقات الفرعية والجانبية في البلدة، وقدمت كل ما يلزم للشركة المتعهدة ببناء جسر عرقا على أمل الإسراع في إنجازه وهو يربط الشمال بكل عكار.

كما ساعدت البلدية المتضررين في تأمين الأوراق الرسمية اللازمة لملفاتهم التي رفعت لتقدير الأضرار والتعويض عنها.

من جهة ثانية، يعرب رئيس البلدية عن تخوفه من إمكانية وجود آثار سامة أو مواد مشعة ناتجة عن الصواريخ الإسرائيلية التي كانت قدرتها على التدمير ضخمة، مطالبا الدولة «بتحمل مسؤولياتها تجاه عاصمة عكار إن على صعيد حماية أهلها وتأمين سلامتهم، أو على صعيد صرف التعويضات للمتضررين الذين خسروا كل ما يملكون. لقد مرت سنة كاملة من دون تحديد أي موعد نهائي لحل هذه الأزمة». ثم يضيف بحسرة «ان عكار قدمت كثيرا للوطن، لكن المسؤولين في لبنان لا يتذكرون وجودها إلا عند الاستحقاقات الانتخابية ككتلة أصوات ضخمة، أو عندما يستشهد أبناؤها وهم يقاتلون في صفوف الجيش اللبناني».

ويؤكد الشيخ جمال إبراهيم (يقطن بجانب جسر حلبا) أنه يشعر لغاية اليوم بآلام في الرأس والأذنين نتيجة أصوات القصف، مشيرا إلى أن منزله دمر كما منازل أخرى كثيرة أصابها دمار شامل.

الكويخات:

«أليست عكار من أمن لهم الأكثرية؟»

لا تبعد الكويخات عن حلبا سوى بضعة كيلومترات، فالبلدة الوادعة التي تشكل شريانا رئيسيا يربط حلبا بقرى «الدريب» ويبلغ عدد سكانها ثلاثة آلاف نسمة يتوزعون على أربعمئة وحدة سكنية تنتشر مع أراضيها المزروعة على مساحة مئتي هكتار.

وتشكل الكويخات سوقا للمهن الحرفية الصغيرة. وقد وجدت نفسها في قلب الحدث وتحت الضوء الاعلامي بعدما استهدفتها المقاتلات الإسرائيلية ثلاث مرات، لكن المرة الأخيرة كانت الأعنف حيث فاقت خسائر المواطنين فيها المليوني دولار.

ويعتبر رئيس بلدية الكويخات عمر الحايك (أحد أكبر المتضررين من الغارة) ان عكار استهدفت لأنها تحتوي شبكة جسور عديدة وكانت استراتيجية إسرائيل في حينها تقطيع أوصال الوطن، مشيرا الى أن القصف استهدف مصنعه المعد لتصنيع أبواب الألمنيوم وقد احترق بالكامل مع مستودع الحديد ومعمل بويا للسيارات، وعدد من المؤسسات التجارية ونحو 15 منزلا.

ويلفت الحايك إلى أن البلدية أحصت الأضرار وأعدت بالتعاون مع الهيئة العليا للاغاثة الملفات التي قدمها المتضررون الى وزارة المهجرين «لكن حتى الآن لم يصرف أي قرش، بالرغم من المراجعات الاسبوعية، لذلك فإننا نطلق صرخة الى الحكومة اللبناينة لإنصافنا».

ويقول عدنان الحايك ان المواطنين العكاريين الذين يقطنون بجانب الجسور نزحوا الى أماكن اخرى «وقد كان خوفهم في محله، لأن منزلنا القائم عند جسر الكويخات احترق بالكامل ودمر قسم منه، كما احترقت مؤسساتنا التجارية. ونحن الآن نعود لننطلق من الصفر أو إذا صح التعبير من تحت الصفر، خصوصا أن الدولة لم تدفع أي تعويضات، وأنا أقترح أن تبادر الدولة الى دفع خمسين في المئة من قيمة التعويضات وأن ترجئ صرف الدفعة الثانية».

ويعرب مختار الكويخات أحمد الحايك عن أسفه إزاء نواب عكار المنتمين الى الاكثرية النيابية لأنهم لم يحركوا ساكنا تجاه المتضررين، «فليتفضل نائب أو اثنان أو جميعهم بمراجعة قضايانا وطلباتنا المقدمة إلى وزارة المهجرين وليعملوا على الافراج عن التعويضات».

يضيف أنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك بعد «وكأن الامر لا يعنيهم، وكأننا نحن من كوكب آخر. أو كأن عكار ليست هي التي جعلتهم أكثرية، والأسوأ من ذلك هو اننا عندما نتصل بأحد النواب أو الوزراء ونطالب بحقنا يغلق الخط الهاتفي بوجهنا».

مزرعة بلدة والدريب:

مجدداً، أين التعويضات؟

في مزرعة بلدة التي تبعد 15 كيلومترا عن حلبا، ما زال الأهالي يتذكرون تلك الليلة التي عزلوا فيها عن محيطهم بفعل صاروخين دمرا الجسر وأصابا عدداً من المنازل بأضرار كبيرة.

ويقول حمزة الشيخ ان الأهالي في الغارتين كانوا يتوقعون حصول القصف لأن المقاتلات الاسرائيلية لم تغادر سماء المنطقة، وفي المرة الاولى دمر الجسر جزئيا وفي المرة الثانية دمر كليا «وكان الصوت مرعبا، واهتزت البلدة بكاملها وكأن زلزالاً ضربها».

ويشير الشيخ الى أن البلدة انقطعت لأشهر عن محيطها وتم اللجوء للطرقات الزراعية، ولم ينجز الجسر إلا قبل نحو شهرين، ولكن مصير قضية التعويضات ما زال مجهولا. أما منطقة الدريب فتبدو وكأنها تجاوزت آثار العدوان الاسرائيلي. تم تأهيل كل الطرقات التي استهدفها القصف، وعادت العبارة على طريق القبيات ـ عندقت الى ما كانت عليه تصل القرى والبلدات العكارية ببعضها البعض، والأمر ذاته ينطبق على بلدات السهل حيث أعيد بناء جسر الحيصة على نفقة المغترب اللبنانياحمد طراد، كما تم إعادة تأهيل العبارة المؤدية الى طريق حمص.

تعليقات: