زوجة الشهيد جوزف باسيل وبناته يبكينه بعدما سقط عند استهداف المقاتلات
الإسرائيلية لجسر حالات في 4 آب 2006 (م. ع. م.)
كسروان :
خرج الياس صفير من الغيبوبة التي لفته على امتداد عام إلا نيفاً، منتصرا. انتصر باستشهاده في قلب كسروان، تحت جسر قدره، في حرب إسرائيل على لبنان.
الحرب التي لا يتردد البعض في اعتبارها مجرد دفاع إسرائيلي عن النفس ردا على خطف حزب الله جنديين إسرائيليين، طاولت المنطقة التي كانت تظن نفسها في منأى عن «البربرية» فإذ بأوصالها مع جيرانها تنقطع وإذ بها تقدم فاتورة من الضحايا والأضرار المعنوية والمادية تجعلها شريكة فاعلة في «الدفاع عن الأرض والكرامة».
في كسروان، لم يغب عن الأذهان بعد مشهد المدارس الرسمية والثانويات والأديرة ومنازل كثيرة في الساحل والجبل وقد ضجت كلها بالنازحين الجنوبيين وعبارة «بيوتنا بيوتكن» التي قابلتها بعد انتهاء الحرب عبارة «نعجز عن شكر إخوتنا ولكننا عائدون إلى أرضنا ولو كانت بيوتنا في الجنوب مدمرة، وسنعود حتما لزيارتكم.. بالأفراح».
النضال يكون في المؤازرة أيضا وفي التعاون والإلفة بين ... مواطنين، قربت إسرائيل من دون أن تقصد في ما بينهم فاكتشفوا أن المسافة التي تفصلهم لم تكن بعيدة يوما.
بصورة عفوية، تجندت كسروان، بأهالها وسكانها وهيئاتها الدينية والمدنية والحزبية للمساعدة وفتحت قلوبها قبل أبواب منازلها للنازحين. في مركز القائمقامية، يروي أحد الموظفين: «ما ان اندلعت الحرب وبدأ النازحون يتوافدون الى كسروان، حتى بدأنا نحن، الموظفين الخمسة في الإدارة، نؤمن المواد الغذائية والحاجيات المختلفة وفي دوام متواصل وما حدا راح زعلان من عنا». وما الذي دفعكم للقيام بذلك؟ يجيب: «هو واجب وطني».
تشير مصادر مسؤولة في القائمقامية الى أن التعاون كان قائما بشكل كامل مع الهيئات التربوية والحزبية والشعبية والأديرة وجمعية «كاريتاس» ومنظمة الأمم المتحدة والبلديات التي تكفلت بنقل المياه مثلا على حسابها الخاص، بالإضافة إلى مؤسسات تجارية عديدة قدمت ما استطاعت تقديمه من الأصناف التي تبيعها مثل الأحذية والثياب وغيرها..».
وتلفت المصادر الى أن كسروان قامت بواجبها «علما أنها نالت الحصة الأقل من المساعدات التي وزعتها الهيئة العليا للإغاثة والتي بلغت حوالى أربعين مليون ليرة في وقت وصلت حصة مناطق أخرى الى أربعمئة مليون».
ووفق أرقام القائمقامية، فإن مجموع النازحين الى كسروان، ساحلا وجبلا، بلغ منذ بداية الحرب ولغاية 12 آب ,2006 ما يعادل 23 الف نازح وفدوا من مختلف قرى الجنوب والضاحية الجنوبية والناعمة.
بلغ عدد النازحين في الساحل والوسط الكسرواني، في دير المخلص في جعيتا ومنازلها، نحو 355 نازحا ليصل في مدرسة حارة صخر الرسمية ومنازلها الى 431 و592 في ثانوية غادير ومنازلها وفي «الملتقى الثقافي». وصعودا نحو عشقوت، سجل عدد النازحين ما بين المدرسة الرسمية ودير الفرانسيسكان ودير أم النور ومنازل البلدة، 1548 نازحا.
وبلغ عدد النازحين في عجلتون 1014 ما بين المدرسة المهنية والثانوية ودير مار يوسف ومنازل البلدة. واستضافت فيطرون في منازلها 712 نازحا في حين استقبلت ميروبا ما بين منازلها ومدرستها الرسمية 1100 نازح.
أما الفتوح الكسرواني فسجل أرقاما مميزة في استضافته للنازحين لا سيما في «الشق الشيعي» منه حيث بلغ عدد الضيوف في منازل الحصين 395 مقابل 2587 نازحا في المعيصرة موزعين على المدرستين الرسمية والخاصة والميتم وحسينيات المعيصرة والعدسي والفنوان والمركز الصحي وأوتيل العذرا ومنازل البلدة. في حين بلغ عدد النازحين في غزير الفتوحية أيضا نحو ستمئة ما بين الثانوية والمدرسة الزراعية ومنازل البلدة.
ويقول أمين السر في الرهبنة اللبنانية الأب كلود ندرة «فتحنا أديرتنا في كل المناطق وقدمنا الدعم المادي والعيني لجميع النازحين في كسروان والذين أتوا تحديدا من قرى الشريط الحدودي».
ويشير ندرة إلى أن أديرة الرهبنة الستة في كسروان فتحت جميعها، لتستقبل قرابة أربعمئة نازح. وأقيمت كذلك في المدرسة المركزية نشاطات لأطفال العائلات النازحة تحت إشراف لجنة خاصة.
ويشرح المسؤول في التيار الوطني الحر لواء شكور أنه «في اليوم الأول لاندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان، عقد «التيار الوطني الحر» اجتماعا سريعا وشكل إثره غرفة عمليات وهيئة طوارئ أوكلت مهمة تأمين المسكن والمأكل للنازحين فسارعت بالعمل فورا بالتنسيق مع الإكليروس وهيئات المجتمع المدني لفتح المدارس بالإضافة الى منازل تخص مناصري التيار».
ويتحدث شكور، وهو رئيس لجنة الموارد البشرية المركزية في التيار، عن «بعض الضغوط التي واجهتنا كالعرقلة التي مثلها بعض مدراء المدارس ممن رفضوا فتح المدرس، ما استدعى الاستحصال على أمر من وزير التربية».
ويقدر شكور عدد النازحين الذين شملتهم مساعدات «التيار» في مناطق جبل لبنان وصولا الى الشمال «ما بين 130 و150 ألف نازح علما أن مركز الثقل كان كسروان وجبيل».
ويتوقف عند مفارقة متمثلة بوقوع الحرب بعد ستة أشهر تقريبا من توقيع ورقة التفاهم بين التيار وبين حزب الله: «فقد أرست هذه الوثيقة نوعا من الاطمئنان النفسي والسياسي لدى النازحين الى هذه المناطق. كأنما الوثيقة التي وقعت بالحبر الأسود في 6 شباط 2006 تعمدت بدم شهداء حرب تموز. وبالنسبة إلينا نحن لا نفرق بين شهيد مارون الراس وبين شهيد الفيدار وإنما الشهادة من أجل لبنان هي واحدة».
وكان لافتا في تحرك «التيار» رقم الحساب المصرفي الذي عممه عبر موقعه الإلكتروني لجمع التبرعات «والذي جعل المساعدات تتدفق علينا بكثافة من داخل لبنان وبلدان الانتشار فوضعناها في تصرف الفريق اللوجستي الذي تولى تأمين المواد الغذائية والفرشات والمساند وغيرها من الحاجات لآلاف النازحين».
وقدمت «القوات اللبنانية» أيضا المساعدات للنازحين، ويقول مصدر مسؤول فيها ان القوات سعت الى «فتح المدارس وتقديم المواد الغذائية والطبابة والعمل على إشعار الأهالي أنهم ما زالوا في بيوتهم وليسوا غرباء»، لافتاً إلى أن «القوات ساعدت بقدر الإمكانيات المتوافرة لديها لأن الحرب اندلعت بعد سبعة أشهر تقريبا من عودتنا الى النشاط السياسي ولكننا لم نتأخر عن تقديم المساعدة لأن هذا واجبنا وقد انقسمنا كتيار الى مجموعات وقدم كل منا المساعدة في منطقته أو قريته».
حصة كسروان من العدوان
قد يكون من المبالغة القول إن الرابع من آب ,2006 تاريخ قصف الجسور في غزير والكازينو والفيدار، شكل تاريخا مفصليا في العلاقة البنيوية والاجتماعية بين الأهالي في الجنـوب وبين المدخل الشمالي لبيروت العاصمة، ولكنه حتما كان محطة بارزة في تاريخ التقارب بين «مجتمعين» والتآزر بين المختلفين الى حد الخلاف في السياسة.
ولكنه أيضا اليوم الذي قدمت خلاله كسروان «الفلس» في ضريبة الدفاع عن لبنان.
استمرت معاناة عابري جسري غزير وكازينو لبنان قرابة ثمانية أشهر، ريثما انتهت عملية التأهيل التي تكفلت بها مؤسسة «جورج إفرام فاوندايشن» لجسر غزير وشركة كازينو لبنان للجسر الثاني.
ومن بين عشرات الجرحى الذين تفاوتت إصاباتهم، كان الأبرز هو الياس صفير (70 سنة) الذي دخل في الغيبوبة منذ «يوم الجسور» واستشهد متأثراً بجراحه قبل نحو أسبوعين.
«عمره ,70 بس بيعطي شي 45 لأنه كان يعتني بصحته وبأكله..» يقول ابنه غسان صفير الذي يسلّم وأفراد العائلة بـ«مشيئة القدر».
يروي غسان أن والده كان يمضي عطلة في منزل ابنته في البترون ولكن عندما اشتد القصف العشوائي قرر أن يعود الى المنزل فأقله صهره. وما ان وصلا إلى طريق جونيه العام حتى وجدا سيارات الصليب الأحمر والجرحى وسيارات المارة مجتمعة، فعاد الصهر أدراجه فيما آثر الياس أن يكمل سيرا على الأقدام الى منزله و«شاء القدر أن ينتظره الموت تحت الجسر».
وتتذكر الزوجة إيزابيل بحسرة «الياس الصامت والمحب والمؤمن الذي كان يقوم يوميا بتبخير تمثال العذراء مريم في المنزل والذي لم يقم يوما بأمر يضايقني».
أما استشهاد الأب فما هو إلا نقطة في بحر بيوت عائلات عدة من أفراد الجيش اللبناني، برأي غسان الذي يعتبر أن «هذا قدر سياسة قديمة متراكمة على لبنان وما هذه الحرب إلا جزء من المؤامرة على بلدنا ولكن سوف يستمر مسلسل قتل الأبرياء كضريبة لمعركة السيادة والحرية والاستــــقلال، لأننا لن نستطيع أن نكمل المسيرة بهذا الطاقم السياسي وإنما نحن في حاجة الى أناس نظيفين يحاربون الفساد، ولا يلجـــأون إلى تجويع الناس ليتحكموا بهم ويؤمنون بمبدأ الشراكة ومن هنا أتقدم بالتعزية لكل عائلات شهداء جيشنا اللبناني في مخـــيم نهر البارد الذين يروون بدمائهم أرض الوطن ليبقى اسمه لبـنان».
الياس صفير هو أب لأربعة أولاد «وبمثابة الأب أيضا لعدد من الأحفاد».
لم يكن ربما يعتقد أن نهاية المشوار ستكون على هذه الحال ولكن أمرا ما جعله يذهب سيرا الى نهايته لينضم إلى لائحة الذين تسلبهم الحروب على حين غرة.
باتت الشهادة تتربع في بيوت لبنانية كثيرة وهي لا تميز بين كسروان وبنت جبيل. أما النقمة على الفساد والمفسدين فهي أولى براعم الشهادة التي من شأنها توحيد الكلمة على امتداد الوطن. ومهما بلغت الحصيلة الإيجابية للحرب لناحية التآزر والأخوة فأمنية «إن شاء الله ما تنعاد» تبقى لسان حال الكسرواني وكل لبناني.
تعليقات: