حدود الكون


كتبت هذا المقال عن حقيقة علمية من حقائق الكون، بعد قراءة مستفيضة عن علوم الفيزياء والفلك وعمدت على ربطها ببعض آيات القرآن الكريم التي أشارت الى هذه الحقيقة منذ أمد طويل. علّ هذا المقال يكون حافزاً لشبابنا الواعد في الإهتمام أكثر بالعلوم، وواعظاً لمن في قلبه زيغٌ او شك في الله وفي قدرته.

اتمنى لجميع متصفحي الموقع ولأهالي بلدنا الغالي حسن التوفيق.

إبن بلدتكم الخيام...

أحمد رضا مهدي


حُدود الكون...

أن تُكتشف حقيقة علمية عن سرٍ من أسرار الكون المُبهمة من قِبَل كبار العُلماء والفيزيائيين في عصرنا الحالي، أمرٌ يدعو للإفتخار بنجاحاتهم ولِتعظيمِ عُلومهم، طبعاً هذا لأنهم استحقوا كل هذا المجد بعدما كرّسوا حياتهم من اجل رسالةٍ سامية. لٰكن أن يُشار لهذه الحقيقة العلمية منذ ما يزيد عن الألف وخمسمائة عام في كتابٍ أُنزل على قلب رسولٍ أُمّي من عند "العالِم الأوّل"، ما هو إلاّ محضُ صدفة ومدعاة للشك والإستهزاء، رُميت على صاحبه تهمة السحر والجنون!

في الوقت الذي يراهن فيه "المشككين بوجود الله" على الأبحاث والعُلوم الحديثة باعتبارها الُمنقذ الوحيد لمُعتقدهم والحجّة الأقوى لأفكارهم، تنبري وتتجلى عظمة القرآن الكريم بآياته الحكيمة لتُنير درب التائهين والباحثين بصدقٍ عن سر الخلْق ومعرفة الخالق.

لم تستغرق المراقبة التي قام بها العالِم الفلكي "إدوين هابل" في عام ١٩٢٩ أكثر من ليلة واحدة، لتدحض كل النظريات الذي اعتقد بها عُلماء الفلك منذ مئات السنين عن كوننا وسلوكه. كان الإعتقاد السائد منذ القِدم أنّ الكونَ ساكِن، وأنّه عبارة فقط عن هذه النجوم والكواكب التي نراها في السماء، وانّ الارض محور كُل شيء، فجميع النجوم والكواكب وحتى الشمس تدورُ حول الأرض. كانت أُسُس هذا الإعتقاد مبنيّةٌ في الأصل على المفاهيم الدينية للكنيسة آنذٰك، اعتقدوا حينها بما أنّه هو الله خالقُنا وخالقُ كل شيء، فلا بدّ إذاً بأن الله جعلنا في وسط الكون ومِحوره، وأنّه سَخّر باقي الأجرام السماوية للدوران حولنا. كانت الكنيسة في وقتها السلطة الأعلى والآمر الناهي والمتحدِث الوحيد باسم الرَب، وأنّ كل اكتشاف يأتي به عالِمٌ فلكي كان لا بدّ أن يُبارك من الكنيسة اولاً ومن ثم يُؤخذ له التصريح لكي يُنشر ويُعمّم، طبعاً هذا إن كان الإكتشاف على مزاج الكنيسة ومُعتقدِها، وإن لم يكن تُرمى على صاحِبه تُهمة الهرطقة والكُفر ويُجر إلى أقبِية الموت والمصير المحتوم.

هذا لم يمنع بعض العُلماء في القرن الخامس عشر والسادس عشر أمثال "كوبيرنكوس"، "كيبلر"، "غاليلييو"، "إسحٰق نيوتين" وغيرهم من كسر القاعدة، والإتيان باكتشافاتٍ واستنتاجات مبنية على أُسس وقواعد علميّة لا يمكن للعقل البشري أن يرفضها ولا حتى للكنيسة أن تتجاهلها. شكّلت دراسات هؤلاء العُلماء حلقةً متشابكة بدأت عند "كوبيرنكوس"، فبعد مراقبته الحثيثة لمجموعتنا الشمسيّة استنتج بأنّ الشمس هي المركز، وأنّ باقي الكواكب تدور حولها بمساراتٍ دائريّة. جاء بعده "كيبلر" ليضع القواعد الرياضيّة والحسابات الدقيقة لهذه النظرية وليرسم المدارات الإهليجيّة (او البيضاويّة) الصحيحة لمجموعتنا الشمسية وليس الدائريّة التي اعتقد بها سلفه "كوبيرنكوس". تلاه "غاليلييو" ليقوم بعدها بالتعديلات الضروريّة لانقشاع الصورة الأعم عن حركة مجموعتنا الشمسية بدقة، مع الأخذ بعين الاعتبار حركة كل كوكب على حدة ومدة دورانه في مساره. لم يحالف الحظ "غاليلييو" كثيراً، فقد رُمِيت عليه تُهمة الهرطقة والكفر، ونفي الى سجنٍ لمنعه من نشر علُومه. جاء بعد ذٰلك مُكتشف الجاذبيّة العالِم "إسحٰق نيوتين" الذي فسّر ظاهرة ثبات الكواكب في مساراتها بالجاذبيّة التي تربط جميع الأجسام بعضها ببعض على حسب كتلة كل جسم منهم.

هذه الإكتشافات العلمية المتتالية ساهمت في تفسير الظواهر المرئية لمجموعتنا الشمسية وسلوكِها، وأعطتنا صورة دقيقة وواضحة عن حركتها، لكنها لم ترقى الى مستوى تقديم الإجابة عن أهم سؤال حيّر العلماء والفلاسفة والمفكرون على مر العصور، السؤال عن أصل الكون، كيف بدأ؟ متى وأين؟ هل له حدود ام أنه غير محدود؟ هل له بالفعل بداية زمنية ونهاية؟ ام انه موجودٌ منذ الأزل وباقٍ الى الأزل؟

ظلّ الإعتقاد السائد حتى أوائل القرن العشرين عن حقيقة كوننا كالآتي:

الكون الذي نعرفه عبارة عن مجرة واحدة فقط (مجرة درب التبّانة)، وأن هذه المجرة تحوي مليارات النجوم والكواكب، وعرضها يقدّر بحوالي مئة ألف سنة ضؤيّة، وانّ هذا الكون قائم منذ الأزل، بمعنى أنه لم تكن له بداية ولن تكون له بالتالي نهاية، وآخيراً أنّ هذا الكون غير متغير ولا متحرك ككُل، وهو في سكونٍ دائم.

ظلّ هذا السكون مُخيِّماً على عقول العلماء حتى عام ١٩٢٩ حين أحدث الإكتشاف للعالِم الفلكي "إدوين هابل" دوي انفجار حطّم به نظريات العلماء الاسبقين وأخرج به الكون عن صمته. كانت ليلة من الليالي الصافية في سماء "لوس انجلوس" في اميركا، حين جلس "هابل" في قمرة تِلسكوبه الذي كان يُعد الأكثر تطوراً في زمانه، وهو يتأمّل بتأني أطياف الأضواء المنبعثة من النجوم البعيدة. كان يرى في كلّ مرّةٍ نفس طيف الضوء ينبعِث من كل نجمٍ يراقبه، وهو الطيف الأحمر. مشاهدة إنبعاث الطيف الأحمر للضوء من نجمٍ بعيد، لأمرٌ مشوّق بالنسبة إلى فلكي هاوٍ، ولٰكن لِ"إدوين هابل" العالم والفيزيائي المخضرم ما هو إلا لغز محيّر يحتاج إلى تفسير.

وجد "هابل" فعلاً تفسيراً لهٰذه الظاهرة وكَتب حينها: "اذا كان النجم ثابت في السماء، فالضوء المنبعث منه سيصل الى الأرض بأطيافه العادية، أما أن يصل ضوء هذا النجم بالطيف الأحمر فمن المؤكد حتماً أنّ النجم يبتعد عن كوكب الأرض بسرعة كبيرة". فسّر "هابل" هذه الظاهرة مُستنداً الى نظرية "دوبلر" المنسوبة للعالم النمساوي "كريستيان دوبلر"، والتي تتحدث عن تغير التردد للصوت (او حتى للضوء) مع تغير سرعة الجسم المُصدر له. أردف "هابل" في كتاباته قائلاً: "تُسافر هذه النجوم بعيداً عن كوكبنا وعن بعضها البعض باستمرار، هذا يعني أننا لو عدنا بالزمن إلى الوراء إلى نقطة الصفر، لوجدنا ان جميع هذه النجوم والكواكب كانت عبارةً عن مجموعة متلاحمة او جسم واحد، إذاً الكون في توسع دائم". وُلِدت حينها اولى معالِم النظرية الأهم عن كوننا، نظرية الإنفجار الكوني العظيم ال..(بغ بانغ).

لم يتقبل عُلماء تلك الحقبة (ومن بينهم أينشتاين) نظرية "هابل" عن توسع الكون، ولم تؤخذ على محمل الجد، لا بل رُفضت من جميع شرائح المجتمع العلمي لخلوها من البراهين الدامغة، وفُسّرت مشاهدات "هابل" للطيف الأحمر والإختلاف في وميض النجوم بأسبابٍ أخرى. بقيت هذه النظرية محل اختلاف عند جميع عُلماء الفلك من مختلف أقطار الأرض حتى عام ١٩٨٠، حين اجتمعت خُلاصة استنتاجاتهم وحساباتهم عند مفترقٍ واحد لا غير: الكون في توسع مستمر لا محال، وقد ابتدأ من نقطة واحدة اجتمعت فيها الطاقة والمادة كما الزمان والمكان، وحدث حينها إنفجار لم تُعرف أسبابه حتى اليوم. كان لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا" الثقل الأكبر في إثبات هٰذه النظرية، وابتدأت حينها حقبة علمية جديدة بدّلت مفاهيمنا عن الكون، وأعادت صياغة المعادلات الكونية آخذةً بعين الإعتبار الإنفجار العظيم كنقطة بداية. قدّروا عمر الكون لاحقاً بِ ١٤ مليار سنة زمنيّة وعرضه بِ ١٤ مليار سنة ضوئية، وانه يحوي مليارات المجرات التي تحوي بدورها مليارات النجوم والكواكب.

اذا كُنت على اطلاعٍ بعلوم الفيزياء وآخر ما توصل إليه علم الفلك، وقرأت مثلاً في القرآن الكريم: {والسماءَ بنينٰها بأيدٍ وإنّا لمَوسِعُون} (الذاريات:٤٧) ألا يلْفت انتباهك معنى هٰذه الآية ويدعوك للتفكر بها وفَهم معناها! السماء في الآية اتت بمعنى الكون ككُل (في القرآن الكريم يُستدل على الكون بكلمة السماء)، والبناء بأيدٍ هو البناء بقوة إلٰهية جبارة ومُقتدِرة وضعت كل شيئ بموضعه الدقيق وأحكمت القبضة عليه، امّا عِبارة {وإنا لموسعون} تدل على التوسع في بناء الكون، والفعل استُعمِل بصيغة الحاضر والمستقبل (أي أننا نوسِع الآن)، فالفعل بصيغته يدل على الإستمراريّة بحدوث الشيء. فُهمت هٰذه الآية قديماً من عُلماء التفسير على أنّ الله يوسع في خلقه ورِزقه وفي رحمته، ولكن لو أُخذ المعنى حرفياً لوصلوا إلى نفس الإستنتاج الذي توصل إليه عُلماء الفلك في القرن العشرين.

اجتهد الفيزيائيون لاحقاً في البحث عن سيناريوهات نهاية الكون، كيف سينهار بنيانه!؟ وإلى أين سيؤل؟ توصّلوا إلى خلاصة تُفيد بأنّ الجاذبية هي القوة الأعظم وعبارة عن حِبال وأعمدة غير مرئيّة، تربط بُنيان الكون بعضه ببعض فلولاها لانهار الكون بجميع أجزائه ومن ثمّ ابتلع نفسه، ويكون حينها قد عاد الى نقطة الصفر التي بدأ منها. هذا السيناريو يُرجحه العُلماء وهم على اقتناع بحدوثه لا محال، هذا ما قامت بمحاكاته أيضاً الحواسيب العملاقة.

تقرأ في آية أخرى قوله تعالى {‏‏ويُمسكُ السماء أن تقعَ علي الأرضِ إلاّ بإذنِه إنّ الله بالناسِ لرءوفٌ رحيمٌ‏} (الحج:٦٥) هٰذه القوة التي يُمسك الله بها الكون هي الجاذبية الكونية، وهي قوّة من قوى الله، التي لا تفسير حِسّي أو مرئي لها، انّما نشعر بوجودها فقط.

وقوله أيضاً {يومَ نطوي السماءَ كطِيّ السّجلِ للكُتُبْ كما بدأنا أوَل خلقٍ نُعيدُه وعداً علينا إنّا كنّا فاعِلين} (الأنبياء:١٠٤) ألا تُشير هذه الآية بصراحة إلا انهيار الكون، حين تُطوى السماء على نفسها بسبب فُقدانها عامل الجاذبية الكونية، كما تُطوى صفحات الكتاب على بعضها، فتنهارُ حينها جميع المجرات وتتلاشى، ويخلق الله سبحانه خلقاً غير الخلق الذي نعرفه! في قوله {‏يومَ تُبدّل الأرضُ غيرَ الأرضِ والسمٰواتُ وبرزوا لله الواحدِ القهّارِ} ‏(‏إبراهيم‏:48)‏ أليسَ الذي أبدع هذ الكون قادرٌ على افنائه وعلى إعادة خلقه من جديد؟

إذا كانت الأفكار الدينية الكنَسيّة في العصور الوسطى قد حاربت النظريات العلمية المستنتجة من حسابات دقيقة ومنطقية، فلِما يُحارب اليوم القرآن الكريم من قِبل المشككين به! الذي لم يُنزل إلاّ بالحق على قلب أصدق البشر. هذا القرآن الذي أشارت العديد من آياته إلى حقائق علمية لم نتمكن من معرفتها وحل ألغازِها إلاٌ على يد عُلماء عصرنا؟! علّ الجواب على هذا السؤال قديم جديد: سيظل الحق يُكذّب ويُحارب إلى قيام الساعة.

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (سورة آل عمران:١٩١-١٩٠)

أحمد رضا مهدي - ألمانيا

تعليقات: