الوزير السابق الفضل شلق
غريب أمر اللبنانيين. الغرابة في كيفية التعامل مع أموالهم. أموال الدولة هي أموالهم، تجبى منهم كي تُنفق على أمور تفيدهم من طرقات يسلكونها إلى مدارس لتعليم أولادهم، إلى أجهزة أمن تحميهم، الخ... تجبي الدولة هذه الأموال وتقدّم سنوياً جردة بالموارد والنفقات. تسمى هذه الجردة موازنة.
تقدّم الموازنة وزارة المالية، يناقشها مجلس الوزراء، ثم تُعرض على مجلس النواب لمناقشتها والموافقة عليها. يفترض أن لا ينفق قرش واحد من خارج الموازنة، ومن دون موافقة مجلس النواب، ولكن...
تستدين الحكومة إذا حصل عجز في الموازنة لسد العجز، تطلب بعض المؤسسات سلفات خزينة إذا احتاجت لتمويل قبل الأوان. الأموال جميعها تدخل وتخرج من المصرف المركزي. ما يدخل إلى المصرف المركزي يفترض أن يوافق ما خرج منه، وما دخل إلى الخزينة يُفترض أن يطابق ما خرج منه.
نعرف أن الدولة استدانت في التسعينيات من أجل الإعمار، ونعرف أن القسم الأكبر من الاستدانة كان لعجز في الاستهلاك (أي للحاجة على الإنفاق من أجل الرواتب والنفقات الجارية للدولة). وبعضنا يعرف أن الاستدانة كان حجمها المالي أقل بكثير من مجمل رأس المال المدين، أي أننا استدنا مبلغاً ودفعنا للدائنين أضعاف المبلغ كفوائد على هذا الدين. هذا ما يُسمّى خدمات الدين، وهو أكثر بكثير من أصل الدين العام. من كان دائناً للدولة منذ بداية التسعينيات حتى اليوم اغتنى حتى ولو كان المبلغ الذي أدانه للدولة في البداية ضئيلاً. كل ما عدا الدائنين ساء وضعهم المادي، سوى بعض مالكي العقارات الذين جنوا مبالغ طائلة من ارتفاع الأسعار مع ارتفاع منافع الديون.
أكثرية اللبنانيين يعملون. يكدّون في العمل في ما تبقى من الصناعة والزراعة وفي الخدمات، وفي القطاعات الرسمية. ناضلوا طويلاً في الأشهر الأخيرة من أجل زيادة الحد الأدنى للأجور، الذي تنخفض قيمته كلما ازداد التضخم الذي يسببه عادة ازدياد ودائع البنوك وازدياد الفوائد والأسعار العقارية. طار وزير، جاء آخر محله. وسيحدث الأمر نفسه فيما لو كبَّر أي شخص رأسه ضد النظام مهما علت مرتبته العلمية والثقافية، ومهما كثرت شهاداته. الكادحون في لبنان لا يفقهون لماذا يزدادون فقراً. وهم الأكثرية الغالبة من اللبنانيين، والأقلية ذات راس مال المالي تُسر بما يحدث، والأرجح أنهم لا يفهمون ماذا يجري أيضاً. وهذا لا يعني أنهم لو فهموا سيفعلون شيئاً يخفف من حدة الفوارق.
لبنان بلد جميل، عزيز على أبنائه: لكن الكثرة من هؤلاء يهاجرون نظراً لانعدام فرص العمل في لبنان. من لا يهاجر يضطر للعيش في الفاقة، أو خدمة الأغنياء، والأغنياء قلة ينعمون بما لديهم. من جملة مقتنيات الأغنياء طبقة سياسية تجعل كل تلك الأوضاع حالة مقبولة لدى اللبنانيين. وأهم ما في هذه الطبقة السياسية أنها تنقسم إلى حكومة لا تنجز الكثير، ومجلس نواب لا يشرع إلا عند الحاجة القصوى، وبالتحديد لا يهمه أمر الموازنة وأموال اللبنانيين؛ وبيروقراطية لا تعمل إلا كما تطلب منها الطبقة السياسية وإلا فقدت حمايتها الطائفية؛ وأجهزة أمنية تحافظ على الأمن عند اللزوم، وحسب ما يطلب منها أيضاً.
ينعقد مجلس الوزراء كل أسبوع. لا نفهم من مداولاته سوى بعض القرارات التي تتلى علينا بشكل مملّ. مجلس النواب ينعقد كل بضعة أشهر. يناقش الوزراء (سوى قلة قليلة منهم) كل شيء إلا الموازنة. أما الإنجاز، إنجاز ما ينفع الناس، فلا أحد يبالي به.
الموازنة المالية هي أهم أداة لإدارة أمور الدولة. نعلم أننا خلال السنوات الماضية لم تكن لدينا موازنة موافق عليها في مجلس النواب (بعد مجلس الوزراء طبعاً). ونعلم أن قسماً كبيراً من الإنفاق يجري حسب القاعدة الاثني عشرية. وهذا أمر يفترض أن لا يطبق إلا في أحوال طارئة حين تفرض ظروف قاهرة تأخر الموازنة؛ كما يفترض أن لا يطبق إلا نادراً لأن الأحوال الطارئة هي بطبيعة أمرها نادرة الحدوث. لكنهم يطبقون القاعدة الاثني عشرية منذ سنوات. أصبح الشذوذ دائماً، وأصبح هو الحالة الطبيعية.
وأعلمنا النواب أخيراً، شيئاً نعلمه منذ سنوات أيضاً، أن في الموازنة السنوية غير المتفق عليها مخالفات، وأن أرقام الخزينة والمصرف والمركزي غير متطابقة، وأن النفقات الفعلية هي غير المعلن عنها، وأن النفقات غير المعلن عنها ربما تفوق المعلن عنها، الخ... ونعلم أيضاً، كما يقول لنا النواب، إن هناك مخالفات قانونية ودستورية، علماً بأن مخالفة الدستور مخالفة أكبر بكثير من المخالفة القانونية. كل ذلك يقال في مجلس النواب.
يفترض بالأرقام، أرقام الموازنة أو غيرها، أن تعبر عن حقائق أو وقائع، وأن تخبرنا عن واقع الحال، واقع الحال المالي والاقتصادي. لكن الأرقام مشوشة، ومتناقضة ومتلاعَب بها، حتى أنها لم تعد تعبر عن شيء سوى أن وراء الأكمة ما وراءها. ما تعبر عنه الأرقام، هو أننا لا نعرف، أو أن غياب الموازنة يراد له أن يقودنا إلى أن لا نعرف حقائق المجتمع الاقتصادية وحقائق الدولة المالية. لا نعرف حقيقة الدخل الوطني والفردي، كما لا نعرف حقيقة الدين العام، ولا ما هو داخلي وما هو خارجي منه، فكأن في الأمر تعتيماً مقصوداً. ليس أسهل من الحساب بالأرقام؛ وليس أصعب من أن تعبر الأرقام عن الوقائع الحقيقية في ظل هذا النظام السياسي في لبنان. ما قيل في المجلس النيابي في اليومين الأخيرين يكفي لإدانة، أو توجيه التهمة لفريق يقول لنا إنه استعان بخيرة المؤسسات والعقول الدولية لتنظيم الحسابات الوطنية.
لكن النظام السياسي يحمي الجميع، بمن في ذلك المرتكبون. الحماية تأتي من تغيير الحكومات. كلما تغيرت أكثرية، تتغير الحكومة، وتلقي الأكثرية الجديدة باللائمة على الأقلية النيابية الحالية التي كانت أكثرية. تضيع المسؤولية خاصة أن جزءاً من هذه الأكثرية كان جزءاً من الأكثرية السابقة. وإذا صادف أن انحشر بعضهم تتدخل الطائفية لتكون الملجأ الأخير للحماية. رجال السياسة يمثلون الطوائف واتهامهم يعتبر تعدياً على الطوائف، والمس بالطوائف تدنيس للمقدسات. وهكذا تصبح أرقام الموازنة دون معنى. وكل ذلك جزء من عملية تعمية واسعة تمنع على اللبنانيين أن يعرفوا حقيقة أوضاعهم، أوضاع دولتهم المالية، وبالتالي الاقتصادية.
نادراً ما يمارس اللصوص نشاطهم في وضح النهار. ينتظرون العتمة. فيما يتعلق بمالية الدولة، العتمة معرفية. تشويش الأرقام يخلق عتمة، والعتمة تستدعي لصوص الليل.
تعليقات: