نازحون من الجنوب (أرشيف ــ وائل اللادقي)
على مدار 59 عاماً لم تشهد الحياة اليومية أي اندماج أو مشاركة فعلية بين اللبنانيين والفلسطينيين. لكن ما فشلت فيه أيام السلم حققته أيّام الحرب بعدما ساد اعتقاد أن المخيمات لن تتعرض للقصف كما جرى في عدوان نيسان 1996، ما دفع بآلاف العائلات اللبنانية إلى اللجوء إلى أكبر ثلاثة مخيمات في صور هي الرشيدية، البص والبرج الشمالي، وقدّرت الإحصائيات الفلسطينية عدد النازحين اللبنانيين بستة آلاف عائلة من قرى قضاء صور
عدد كبير من النازحين اللبنانيين إلى المخيمات الفلسطينية كان يزورها للمرة الأولى، ويتعرّف عن كثب بالفلسطيني الذي نجحت التجاذبات السياسية مدى عقود في تقديم صورة مشوهة عنه وعن واقعه.
يعترف علي الحاج، الذي نزح وعائلته المؤلفة من سبعة أشخاص الى مخيم الرشيدية بعدما أصبحت بلدته جبال البطم تحت خط النار، بأنه عندما دخل إلى المخيم كان ينوي التزوّد بالوقود فقط، لكن حسن الاستقبال الذي فوجئ به دفعه للبقاء. «سارع أهالي المخيم إلى تقديم الماء والطعام لنا وبادروا الى توفير مأوى وتزويدنا بكلّ احتياجاتنا اليومية فشعرنا بالاطمئنان على رغم أنها كانت المرّة الأولى التي أدخل فيها المخيم».
وتروي الحاجة أم خضر نجدي كيف أنقذ الفلسطينيون حياتها بعدما أصيبت إصابة بالغة على مفرق بلدة معركة صباح ليلة الإنزال الفاشل (6 آب) في مشروع الرز السكني الواقع عند مفرق العباسية. كانت تقف على شرفة منزلها عندما استهدف العدو دراجة نارية كان يقودها الشهيدان محمد فاخوري وأحمد مهنا بصاروخ موجّه، فأصيبت ونقلت إلى مستوصف حمزة في مخيم البص للمعالجة: «الدم الفلسطيني هو الذي أنقذ حياتي، فقد أصبت بعدة شظايا في جسدي ونزفت بشكل كبير، واضطرني وضعي الصحي لملازمة الفراش لمدة أسبوع ففوجئت برفض الفريق الطبي عودتي الى منزلي قبل ان أصبح في حالة صحية جيدة. وقد تخلى أبو إبراهيم عن منزله القريب من المستوصف لي ولبناتي الأربع».
ولفتت أم خضر الغشارة إلى الصورة المشوهة التي كانت راسخة في ذهنها عن المخيمات الفلسطينية، «إنها مليئة بالمسلحين، ويوميات المخيمات مشاكل وخلافات دائمة، والشعب الفلسطيني فوضوي ومشاكس. لقد تبين لي بعد عشرتهم أنهم شعب مظلوم بالدرجة الأولى وجميع حقوقهم مهدورة وأنهم الحلقة الأضعف في لبنان».
ولعل أسف أبي حسين عياد من بلدة طيرفلسيه على عدم معاشرته الشعب الفلسطيني سابقاً هي أكبر بكثير من غيره، بل إنه اليوم يشعر بذنب كبير لرفضه منذ ثلاث سنوات شاباً فلسطينياً تقدّم للزواج من ابنته: «في ما مضى رفضت عريساً لابنتي لأنه فلسطيني، وذلك لعدة أسباب وأبرزها ما نجح أهل السياسة من زرعه في عقولنا عن الفلسطينيين، ولكنني اليوم ومنذ أن نزحت إلى مخيم البص في العدوان الماضي أشعر بالذنب الكبير والخجل من كل الشعب الفلسطيني لأنه سعى بكل ما يملك لمساندة جميع النازحين وتوفير كل ما يلزمنا ويخفف من آلامنا ولم يبخل بتقديم منازله وحتى مراكز الجمعيات والمؤسسات الخدماتية والاجتماعية، بالإضافة إلى مدارس الأونروا».
ولم يقتصر دور المخيمات على إيواء النازحين ومساعدتهم بل تعدّاه الى إيصال المؤن من خبز ومواد غذائية إلى الصامدين في قراهم ودعم المستشفيات بالوقود واللوازم الطبية.
فكان لمخيم الرشيدية دور بارز في توفير الخبز في الجنوب عبر «فرن القسطل»، الفرن الوحيد الذي بقي يعمل طوال فترة العدوان لساعات متواصلة خلال اليوم الواحد.
يقول أبو رجب المسؤول عن الفرن إنه «بدعم وإصرار من اللواء سلطان أبو العينين استمر بتصنيع الخبز وتوزيعه على المخيمات والمناطق الجنوبية». وكان يعمل يومياً أكثر من 18 ساعة، «وأحياناً كنا نعمل 24 ساعة على 24 كي نوفر احتياجات الناس، الأمر الذي أزعج العدو الاسرائيلي ودفعه الى إنذارنا عبر صاروخ سقط بين الفرن والمستشفى».
السائق أبو جاد عز الدين من دير قانون النهر كان يغامر بحياته من أجل الوصول الى مدينة صور لتسلّم حصصه من الخبز وتوزيعها على الصامدين في بلدته والبلدات المجاورة لدير قانون. يقول إن المسؤولين عن فرن القسطل كانوا يساعدونه في تسلّم الخبز، وفي كل مرة كان يتسلّم ما يزيد على مئة ربطة خبز ويحرص على إيصالها الى الصامدين وخاصة في بلدات جناتا والحلوسية وبدياس وبرج رحال والعباسية. ويضيف ان تلك العلاقة التي بنيت من دون سابق معرفة «خلقت مودة وثقة بينا وبين إخواننا الفلسطينيين وحتى اليوم ما زلنا محافظين عليها وما زال خبز القسطل رفيق سفرتنا».
في الشأن الطبي نوّه مدير مستشفى نجم في صور الدكتور جواد نجم بالمواقف الفلسطينية: «تحدى الهلال الأحمر الفلسطيني والمسؤولون عن مستشفى بلسم في الرشيدية كلّ خطوط النار من أجل مدّنا بكل النواقص الطبية، التي افتقر إليها المستشفى في خضم المعركة، بأسرع وقت ممكن، بالإضافة الى الوقود الذي ارتفع ثمنه الى أقصى الحدود وندر وجوده».
أما في مخيم البص، وتحديداً في المستشفى الحكومي، فقد كانت المهمة صعبة كما وصفها مدير المستشفى الرائد سلمان زين الدين: «فاق عدد جثث الشهداء مساحة البرادات التي عطّل انقطاع التيار الكهربائي دورها، ما استدعى القيام بدفن الوديعة الذي احتاج الى جهود كبيرة». وفي ظلّ الامكانيات الضئيلة لم يجد غير سواعد الشعب الفلسطيني الذي «همّ الى المساعدة».
وأعرب رئيس اتحاد بلديات صور عبد المحسن الحسيني عن فخره بأبناء الشعب الفلسطيني «رمز الوفاء والشهامة»، وتمنى على الدولة اللبنانية أن تعتبر الشعب الفلسطيني جزءاً من الشعب اللبناني وتمنحه جميع الحقوق المدنية والإنسانية.
جندي لبناني يحمل جثمان أحد الشهداء في مخي
البص للاجئين الفلسطينيين (رويترز)
تعليقات: