الشهيد بشير مع والدته وشقيقته على شرفة منزلهم
إنه السادس من آب 2006، وبشير علوية يرابط وحده في «دشمته» في البياضة كما فرضت خطة تقسيم المجاهدين إلى مجموعات صغيرة. يشتد القصف، يمشّط العدو المكان ويتأكد من عدم وجود أحد في تلك النقطة. تقترب وحدة مظلية مؤلّفة من 83 شخصاً بثقة واطمئنان. يشعر بشير بأنّ الجنود الإسرائيليين باتوا على مرمى حجر منه. يتصل بقيادته ليُبلغها أنّه في مكان ما والعدو يدنو منه. تترك القيادة له تشخيص الموقف وتخيّره بين الانسحاب أو المواجهة. «يا علي» يقول بشير ويخرج من دشمته متقدّماً في اتجاه الوحدة، فيرميها بنيرانه التي أردت ضابط الوحدة قتيلاً وأوقعت خمسة جرحى، قبل أن يستشهد على بعد 50 متراً من موقع الدشمة ويجد رفاقه قرب جثته بقايا عظام وأسلحة من نوع M15 وثياباً ممزقة للصهاينة.
يحرص دانيال، شقيق بشير الأكبر، على سرد هذه التفاصيل بدقة، مبدياً حماسة للحديث عن شقيقه، لا لشخصه، بل لكونه نموذج المجاهدين الشهداء.
يعود بالذاكرة إلى يوم أسر الجندييْن الاسرائيليين. يومها عاد بشير من عمله باكراً وجلس قبالة التلفزيون يستمع إلى الأخبار. شعرت الوالدة بأنّه ينتظر أمراً ما. عند الرابعة من بعد الظهر يتلقى بشير اتصالاً، يوضّب على إثره أغراضه، يحمل حقيبته ويمضي. ينتاب الوالد قلق شديد قبل أن يجري اتصالاً بأحد الأشخاص الذي يبلغه أنّ بشيراً في مكان آمن و«إن شاء الله ما بتطوّل القصة» اعتقاداً حقيقياً منه بأنّ القصة لن تطول.
اختفى بشير ولم يعاود الاطمئنان إلى وضع أسرته إلا في اليوم الرابع للحرب. كانت مدة المكالمة دقيقة واحدة رفض بعدها بشير أن يجري أي اتصال آخر بأهله «علماً بأنّ الفرصة سنحت له أكثر من مرة»، يقول دانيال بتأثر. ثم يبرر لأخيه: «لم يكن يريد أن يقلقنا، وخصوصاً أنّ الشباب قالوا لنا إنّ عينيه دمعتا قي تلك اللحظات وهو لم يكن يريد أن يعيش الحالة مرةً أخرى».
عاشت أسرة بشير أياماً قاسية وخصوصاً أنّه لم يكن لديها أدنى فكرة عن وضع ابنها الجهادي. فراح دانيال يتلقف الأخبار بصعوبة ولا سيما أنّ كل رفاقه اختفوا في الوقت نفسه. لكنه تمكّن من الوصول إلى بعض الخيوط البسيطة وعلم أنّ عمل بشير يقتصر على إطلاق الصواريخ.
يقول دانيال: «أروي قصة بشير لا لأغذي الجانب العاطفي بل لأُبرز أي نوع من الناس يقاتل هؤلاء الاسرائيليون وماذا تعني حرب الصواريخ، ذاك الاختصاص العسكري الذي يحتاج إلى كثير من الخبرة والعلم ويعتمد على الرياضيات والفيزياء، وبشير لو لم يكن متفوقاً في هذا المجال لما اختير لهذه المهمة».
انتهت الحرب، ولم يُعلَن بشير شهيداً. و«هنا كانت المشاعر تختلط لدينا بين الحزن على الشباب الذين يستشهدون والطمأنينة الخفية. رحنا نترقب عودته وخصوصاً أنّ لدينا الكثير لنخبره إياه وننتظر منه الخبريات: ماذا حصل معه؟ أين عاش؟ إلى أين ذهب؟ كيف صمد المقاومون 33 يوماً؟ كيف أكلوا؟ ماذا فعلوا في أوقات الفراغ؟ كنا نظن أننا لا نستطيع أن نطرح كل هذه الأسئلة على أي مجاهد آخر، فبشير سيجيبنا عنها ولكن يبدو أننا كنا على خطأ حتى بشير ما كان ليفعل ذلك».
بشير لم يعد. لكنّ من عاد «أخبرنا بأنّ بشير واجه الحرب بمعنويات مرتفعة وكان يمضي وقت الفراغ في رسم الصواريخ وراجمات السلاح والهامر»...
يقول دانيال إن ميول بشير الفنية برزت في سنيه الأولى «كان يقرأ النص على أنّه صورة ويرسم الأحرف بالمقلوب. وحين كبر راح يرسم أموراً كثيرة أعجبت المعلمين الذين تنبّؤوا له بمستقبل مهم». أنهى بشير المرحلة الثانوية وكان يرغب في التخصص في المجال الفني لكن والده أصرّ على دفعه في الاتجاه العلمي لأنه «بيطعمي خبز». نزل بشير عند رغبة أبيه والتحق بكلية العلوم في الجامعة اللبنانية حيث نال الجدارة في المعلوماتية. ومع أنّه لم يكن يهوى علوم الكومبيوتر، إلاّ أنّه أنجز السنوات الأربع بتفوق وسلّم الشهادة لوالده قائلاً: «أنا هلق خلصت اختصاصك تركني أعمل اختصاصي»، وقال إنه ينوي دراسة الغرافيك ديزاين والانتساب إلى جامعة BCU.
مرّة جديدة وجد بشير نفسه أمام خياريْن إما متابعة الدراسات العليا في مجال اختصاصه الأول في فرنسا بناء على طلب الوالد ودعمه، أو اختيار الاختصاص الذي يريد. لم يُغضب بشير أباه فقدّم أوراقه إلى عدة جامعات فرنسية ونال قبولاً في إحداها. لكنّه اختار هذه المرّة البقاء في لبنان متسلحاً بدعم الوالدة التي كانت تحتضنه بمعزة خاصة. وهكذا أنهى بشير آخر مقرر في BCU في أواخر حزيران 2006. وصدرت النتيجة في 10 تموز أي قبل يومين من اندلاع الحرب. وهنا يستدرك دانيال: «وقتا إجا على البيت وجاب لأهلو الحلويني وما أكلوها راحت بالحرب».
بعد النجاح في BCU فاتح بشير أباه برغبته في الزواج بعدما أنجز اختصاصه، ولا سيما أنّه كان يعمل في الأنشطة الإعلامية لحزب الله ويدرّس مادة الرياضيات في معهد بيبلوس، ويملك شركة خاصة مع رفيقه. والمفارقة أنّ بشير كان ينوي أن يستقر في بيت والده ويقول له دائماً «قديش الواحد بدو يعيش ليشتري شقة، الواحد مش مطول كلن هالكم سنة وبتكل على الله خليني عيشُن معكن». «هالكم سنة» لم تتجاوز الشهر فاستشهد بشير في 6 آب وووري في الثرى في روضة الشهيدين بتاريخ 22 آب حيث تسلّم شهادة الغرافيك ديزاين خلال التشييع.
بالعودة إلى الجانب الفني، كان بشير مهندس مَعارِض المقاومة في الجامعة اللبنانية التي يحوّلها إلى محاور يعيش معها الزائر الجو العسكري بامتياز، «علماً بأنّه لم يكن ابن محاور في تلك الفترة»، على حد تعبير دانيال.
هذه المعارض كانت أحد إبداعاته التي جعلت الناس تسأل عنه، وأصبح معروفاً في الأوساط الطالبية التي كانت تستعين به في أي نشاط فيلبّيها ولو بعد منتصف الليل.
من هنا، مثّل بشير نموذجاً للشهداء الذين يعملون لحياتهم ومستقبلهم و«كأنو بدو يعيش 100 سنة». كان منتجاً والمستقبل أمامه، «والدليل أنّه كان يغتنم كل فرصة، فهو اجتاز الامتحان النفسي في الدورة الحربية بنجاح، وقبلته إحدى مدارس إفريقيا مدرّساً بعد استشهاده، لقد كان يحب الحياة بكل تفاصيلها، وفي لحظة واحدة تركها كلها»، إيماناً بمقولة إنّ الغني ليس من يمتلك الشيء، بل من لا يمتلكه الشيء.
اليوم بعد الاستشهاد، يشعر دانيال بأنّه أصبح أكثر تعلقاً بالأرض، وهو إذا كان فكر في يوم من الأيام بالسفر فقد عدل عن هذه الفكرة اليوم.
تعليقات: