الزحف العمراني يتمدّد جنوباً: خلدة على طريق الضاحية

الطلب يزداد على خلدة منذ مطلع العقد الماضي (مروان طحطح)
الطلب يزداد على خلدة منذ مطلع العقد الماضي (مروان طحطح)




«يوم كانت أشجار الضاحية أكثر من بناياتها». عبارة يردّدها من عاشوا في الضاحية الجنوبية لبيروت زمناً جميلاً أخضر. يذكر سامر كيف كانوا يلهون صغاراً، على التلال الرملية، وبين أشجار الجوافة المنقرضة. المشهد يتكرّر اليوم في خلدة القريبة

بضع شجرات معمّرة. منازل قديمة، تلفظ أنفاسها، في انتظار توقيع صفقة بيعها لأحد «فجّار» البناء، كما يحلو لناصر حمدان تسمية تجار البناء. مشاهد تذكّر بالضاحية الجنوبية القديمة لبيروت. أما «النيو ضاحية»، فتضمّ اليوم ما يزيد على أربعمئة ألف مواطن، ويذهب بعض رؤساء البلديات إلى الحديث عن مليون مقيم! زحفت الأطراف، وأغرت طواحين المدينة المحرومين بالعبور. عبروا وأقاموا. ولكن كيف استمروا؟ يسأل المهندس سامر سلوم، ابن الضاحية القديمة. تكدّست الطبقات فوق الطبقات، تراجعت البساتين تراجعات غير منصفة، لا بل فاضحة، لمصلحة الزحف العمراني. وقعت الحرب، وما بعدها كان أعظم، في القضاء على ما بقي من مساحات خضراء. وجود مساحة فارغة، «بور» طبعاً، لأن الشجر أُعدم منذ زمن، في بئر العبد أو حارة حريك أو الشياح أو الغبيري، يثير التعجب.

عبارة تختصر الموقف: «أكيد مختلفين مش عم يبيعوا». يُسأل رؤساء البلديات عن تخفيف الخسائر. يأتي الجواب منسجماً مع «التضخم السكاني وحاجة السوق». ولكن، كيف يعيش هؤلاء الناس في ظل غابات الباطون، التي تجرف في طريقها كل ما هو قديم، وكل ما يذكّر بالطبيعة؟ لا تصنيف لأيّ حي أو حتى مبنى في الضاحية، على أنه ذو طابع تراثي، على الرغم من وجود الكثير من الأبنية القديمة، ولا سيما في برج البراجنة، التي لا تزال أكثريتها العمرانية، مصنّفة كمنازل وأبنية، لا عمارات وبنايات ومجمّعات سكنية. «يبدو أن المنطقة مصنّفة بكونها ذات طابع استثماري»، يعلّق أحمد مرعي، أحد سكان حارة حريك، مع العلم أن بإمكان البلديات، بالقانون، أن تضع حداً لهذه الفوضى العمرانية، من خلال وضع إشارات عقارية، على أي عقار، للحفاظ على المساحات الخضراء، سواء لاستغلالها كمواقف سيارات، أو ربما حدائق عامة تصبح متنفساً لأهالي المنطقة. إلا أن نائب رئيس بلدية حارة حريك أحمد حاطوم يرفض هذا الأمر، فهو يرى أنه «لا يجوز للبلدية أن تمنع الناس من التصرّف بأملاكهم». ولكن، يتساءل أحد المهندسين، الذين لا ناقة ولا جمل لهم في مجال المقاولات وتجارة البناء: هل يجوز أن تتكدّس الناس على بعضها البعض، في علب باطونية، تُشبه علب السردين، حيث لا مجال لتنشق الهواء، وكلّ يغلق عليه بابه، ولا علاقة له بالعالم الخارجي؟

الحل برأي رئيس اتحاد بلديات الضاحية، محمد سعيد الخنسا، هو «الخروج من الضاحية، نحو الضواحي القريبة، والفصل بين مقرّ العمل ومكان السكن». ويرى أن تضخم حركة البناء هو نتيجة طبيعية لازدياد عدد السكان، والنزوح الدائم من المناطق للاستقرار في العاصمة وضواحيها. يترتب على ذلك عجز في الخدمات: محطات كهرباء تخطت قدرتها على التحمل. نقص حاد في المياه. أوقات ذروة على مدار الساعة، ونشاط سياحي غير منظور في ظل تكاثر المطاعم والمؤسسات السياحية والمجمّعات التجارية، وبروز أسواق جديدة بعد إعادة الإعمار، بحسب نقيب أصحاب المؤسسات السياحية، ابراهيم الزايدي.

ومن المعروف أن حركة تمدّد مواطني العاصمة والضاحية، باتجاه الضواحي القريبة، في خلدة والشويفات وعرمون والدوحة والقماطية وكيفون وغيرها، ناشطة منذ مطلع العقد الماضي، حين أخذ الطلب يزداد على تلك المناطق، نظراً إلى تفاوت الأسعار. ولكن يبدو أن ما أصاب الضاحية الجنوبية، ينتظر بعض تلك المناطق. ففي خلدة، يشكو كثيرون من الطفرة التي شهدتها المنطقة في السنتين الأخيرتين، وصارت وبالاً على منطقة تصنّف بيئية، ومكاناً صالحاً للاصطياف، حين زحفت جرافات المقاولين، لتقضم ما بقي من ثروة حرجية، إذ يجري اقتلاع مئات الأشجار المعمّرة، لاستغلالها كحطب للشتاء. يصف أحد السكان المشهد: عملية إبادة لغابة الصنوبر، واستباحة بيئية، وتغيير لمعالم المنطقة. ولا من يلتزم بقرار وزارة الزراعة «ازرع بديلاً عما تقطع». فمن المعلوم أن الوزارة تلزم المقاولين، في المناطق الحرجية، بالتشجير بعد إنجاز البناء، في محيطه وفي الحد الفاصل بينه وبين الشارع، في محاولة لتعويض عملية التجريف التي يفرضها إنشاء البناء. كذلك فإنه في بعض أحياء خلدة، سمح بزيادة الاستثمار لبعض المجمعات الناشئة حديثاً عمودياً، على أن يقابل هذا التمدّد العمودي، التعويض أفقياً عبر إنشاء حدائق عامة ومواقف سيارات، تكون متنفساً للسكان، وتخفف من حدة الازدحام في المستقبل مع تكاثر السكان وازدياد عدد السيارات. إلا أن سكان المنطقة يشككون في الالتزام بهذه المعايير أصلاً، إلا في ما يخص زيادة الاستثمار! ويستشهد أحدهم بالزيادة غير الشرعية على البنايات المنشأة سابقاً، من دون حسيب أو رقيب، ففي حين أن المسموح به هو خمس طبقات بناء، تشمل الطبقة الأرضية، إلا أن الداخل إلى المنطقة يلحظ الطبقات التي زيدت في المدة الأخيرة، على عدد من البنايات، إذ بلغت بعض الزيادات 4 و5 طبقات. كذلك يُلاحظ ضيق بعض الطرقات الرئيسية، حيث يصبح حرم بعض البنايات ملاصقاً للطريق تماماً، الأمر الذي يعني عدم التزام أصحابها بالتراجعات القانونية، أو من الممكن أن تكون أملاكاً خاصة استُغلت حتى آخر شبر.

ولكن، يفرض سؤال نفسه هنا: أليس هناك من مخطط توجيهي ومدني، يلحظ تنظيم هذه المنطقة؟ يطلق السكان هنا «نداء استغاثة: كي لا نكون أمام حيّ سلّم جديد، أو ضاحية جديدة، تنذر هذه الممارسات العشوائية بوصولنا إليها قريباً». ويستذكر أحدهم استهجان إنشاء حديقة عامة في منطقة حرجية، لكنهم يدركون الآن أنه سيأتي يوم نشكر فيه من خصّص هذا المكان، مهما كان ضئيلاً، لحديقة عامة.

وبمراجعة رئيس بلدية عرمون، فضيل الجوهري، أفاد بأن هذا الأمر غير ممكن أصلاً، إذ «ماذا يستفيد صاحب الملك من ضرب بنائه بهذا الشكل، وتعطيل معاملاته المصرفية والعقارية؟». كذلك نفى رئيس بلدية الشويفات، ملحم السوقي، أن تكون هذه المخالفات والتجاوزات تقع ضمن النطاق الإداري للمدينة. والحقيقة أنه، في قلب البلديتين، لا مجال لوقوع مثل هذه التجاوزات، ولكنّ هناك «خراجاً» ممتداً بين الطريق الرئيسية ومسجد خلدة، وصولاً إلى محيط حديقة الرضوان وما بعدها، ضاعت فيه المسؤولية، واختلطت الأمور حتى على أهالي المنطقة.

لكن المهندس حسن الخنسا يضع المشكلة عند بلدية عرمون، التي يتبع الجزء الأكبر من خلدة لنطاقها الإداري، فـ«المواطن والتاجر يتفلتان من القيود بسبب غياب النظام، في حين أن البلدية قادرة على فرض التراجعات القانونية، وتثبيت وجود طريق بعرض عشرة أمتار، علماً بأنها تقلصت إلى ستة أمتار».

وبين بلديتي عرمون والشويفات والوزارات المعنية، لا يمكن الحسم على من تقع مسؤولية حفظ ما بقي من تصنيف بيئي لمنطقة قد يأتي يوم على سكانها يترحّمون فيه على شجر كان يربو على بناياتها، وعلى هواء نظيف قد يصبح رفاهية، إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه. خذوا عبرة من الضاحية.

«وين بدنا نلعب؟»

«وين بدنا نلعب؟»، عنوان كليب أنتجته قناة «طه» للأطفال، للمخرجة سارة قصير. يختصر الكليب معاناة الضاحية الجنوبية، المكتظة بشرياً وباطونياً، من خلال معاناة مجموعة من الأطفال، تحار أين تلعب بالكرة. تدور فكرة الكليب حول التمدّد الباطوني في المدينة، على حساب الحياة، ولا سيما الأطفال، الذين لا يجدون مكاناً، مهما صغر، لكي يلعبوا فيه: لا أمام البنايات، ولا خلفها، ولا في الحي الذي يسكنونه. المدينة بأسرها لا تحتوي على أي مكان لائق لمطلب بسيط جداً، اللعب. إذ تعدّ فكرة ساذجة جداً أن تطمئن لخروج أولادك خارج باب منزلك للهو واللعب في الضاحية الجنوبية، من دون أن تتوقع الأسوأ. يقول علي. ويتحسّر جاره إبراهيم: من الصعوبة بمكان أن تفكر في اصطحاب عائلتك لتنشق الهواء، فالحدائق في هذه المنطقة الخضراء سابقاً، نادرة جداً، ندرة وجود مواقف السيارات، وساحات لعب الأطفال في حرم البنايات، فكل مساحة مهما صغرت تذهب لحساب هذه الأخيرة، حرصاً من تجار البناء على استغلال كل متر مربع في استثمار مربح.

تعليقات: