الحاج زهرة وابنتها زينب في المستشفى العام الماضي
الطيري:
تجلس الحـــاجة زهرة شعيتو عند حافـة السرير.
تلبس فستانا نظيفا، وتنظر صوب الشباك الوحيد المواجه لسريرها في الغرفة. تتدلى من عنقها سبحة صلاة. تبدو بعيدة، في عالم خاص بها.
ذلك أن الحاجة زهرة لم تعد ترى، وأضحت بالكاد تسمع النزر اليسير.
صار عالمها كله هو هــــذا السرير الملاصق لجدار من الاسمنت، في الغرفة الإسمنتية الخـــالية إلا من حصيرة قش وثلاثة كراسيّ بلاستيكية.
في هذه الغرفة عاشت الحاجة زهرة الأشهر العشرة المنصرمة، منذ خروجها من المستشفى. على هذا السرير تحديدا. فالحاجة فقدت أيضا القدرة على الوقوف والمشي.
في الغرفة المجاورة، التي تحـــولت قسرا إلى ما يشبه المطبخ، تنهمـــك ابنتاها زينب وخاتـــون في إعـــداد مؤن الشتاء من صعتر وورق العـــنب.
في هاتين الغرفتين الأرضيتين من منزل ابن أختهما الشهيدة فاطمة، في الطيري، تعيش السيدات الثلاث اليوم في انتظار إعادة بناء منزلهن في حي البركة في البلدة.
في مثل هذا اليوم من العـــام الماضي، وتحــديدا في ليل الجمعة 11 آب، فجر السبت 12 آب، كانت السيدات الثلاث، وفاطمة، وابنـــتها فريال وزوجها حسين، يصـــارعون الموت تحت ردم المنزل الذي دمرته إسرائيل فوق رؤوسهم عمدا.
في مثل هذا اليوم استشهدت فاطمة، وعلى امتداد ثلاثة أيام طويلة، كانت زينب تعمل على إزالة الركام بيديها من فوق أجساد أمها وأختيها وابنة أختها وصهرها، وحدها، بلا معين، على أمل أن تتمكن من إنقاذهم.
لم يخرجوا من تحت الردم إلا في الرابع عشر من آب. أمضوا أشهرا في المستشفيات، وأجريت لهم عشرات الجراحات، ثم حملوا المستديم مما أصابهم، والندوب، وعادوا إلى الطيري.
عام قاس مر على الأسرة التي فقدت ابنتها، وفقد كل فرد من أفرادها جزءاً من جسمه.
عام قاس مر على الأسرة التي باتت بلا مأوى.
تقول زينب، وشبه ابتسامة ترتســـم بخجل على شفتيها: «صُبَّ سقف المنزل، أخيـــرا. ما زال هناك الكثير من العمل، ولكننا سنــتدبر أمرنا».
حصلت أسرة الحاجة زينب شعيتو على ثمانية ملايين ليرة من مجلس الجنوب بدل ترميم. إلا أن الترميم كان مستحيلا، وكان يتعين هدم البيت وإعادة بنائه.
أضافت زينب إلى الملايين الثمانية، خمسة آلاف دولار قدمها «حزب الله» بدل إيواء، وخمسة آلاف دولار أخرى قدمتها إحدى الجمعيات الأهلية الأجنبية. فانتصبت جدران المنزل يعلوها السطح.
«اضطررنا لاستخدام بعض أموال التعويضات لاستكمال العلاجات وشراء الأدوية لي ولخاتون وللحاجة»، تقول زينب.
تطبق بحياء وتضيف: «أضفت إلى ما حصّلناه مبلغا كنت أقتصده لأداء فريضة الحج».
تستدين الأسرة اليوم ما يسعفها على استكمال بناء المنزل. تقول زينب ذلك بلا تملل: «الله بيعين»، وتظهر البسمة الصغيرة مجددا على الشفتين.
«لا أعرف كم مرة في اليوم تطلب أمي أن تعيش ولو يوما واحدا أخيرا في المنزل قبل أن تموت. هذا هو سبب استعجالي».
تعود البســـمة الصغيرة لتظهر على شفـــتيها، تشوبها ومضة سخــرية: «قدروا «بدل» إصابتي بأربعمئة ألف ليــــرة، وألغوا بدل إصابة خاتون، وما زالوا يدرسون ملف الحاجة...».
تختلط الأسماء في تحديد الجهة التي «قدرت» التعويضات المناسبة. تقول: «هم، جماعة السنيورة، يعني الإغاثة، خطيب وعلمي . لست أدري، كل ما أعرفه هو أنهم استدعونا إلى صور، لتقييم إصاباتنا والتحقق منها. ذهبت وحدي، فأمي مقعدة، ولا يكمن تركها بمفردها، فبقيت معها خاتون وهي عاجزة ذهنيا. فقالوا إن تعويضي هو أربعمئة ألف ليرة، وألغوا أي تعويض لخاتون التي ما زال يصيبها الصداع دوريا جراء وقوع الردم على رأسها، وأبقوا موضوع أمي معلقا، على الرغم من أنها فقدت بصرها ...».
ولكن الحاجة زهرة وابنتيها لا يتبرمن. يكملن حياتهن، كما أضحت: «الله بيدبر»، يرددن. تسعى زينب لتأمين بعض الرزق، تعمل في مستشفى تبنين، تؤمن ثمن الأدوية الأساسية، وتجهد كي تنهي بناء البيت سريعاً.
إسرائيل دفنــــت الحاجة زهرة وأسرتها وهم أحياء، لمدة ثلاثة أيام، تحــــت ردم منزل ابنتها الشهيدة فاطمة، خلال الصيف الماضي.
لبنــان يعوّض على زيـــنب بأربعمئة ألف ليرة.
وفي بيتهما هذا الصيف (عباس سلمان)
تعليقات: