في مخيم البص (علي علوش)
صور :
علي الجمل ليس فلسطينياً. الرجل الجالس في دكان السمانة عند مدخل مخيم البص لبناني منذ الولادة في لبونة الحدودية، في الناقورة. غادرت به عائلته القرية طفلاً حين بدأ أذى إسرائيل يشتد في بداية السبعينيات.
مذّاك الوقت وهو يعيش عند حدود المخيم. لبناني فلسطيني أو العكس. يمكنه أن يحكي اللهجتين، لكنه عاجز عن تحديد الهوية. يبدو انه ينتمي الى كليهما.
في النزوح الجنوبي من القرى، كان الرجل فلسطينياً. عمل مع اللجنة الشعبية على تنظيم شؤون الناس الذين وجدوا في مخيم البص ملجأ يقيهم شر إسرائيل. البص لم يفرغ من أهله، لأن نزوح الفلسطينيين أصعب من نزوح اللبنانيين. وهم كانوا على استعداد لاستقبال الضيوف. لا. الضيوف كلمة ما زال الفلسطينيون يرفضونها بعد سنة على الحرب. اللبنانيون أصحاب البيوت، نحن ضيوفهم، يقولون.
كأنما سنحت الفرصة للفلسطينيين لرد جميلين معاً. الجميل الأول هو استقبال الجنوب لهم في نزوحهم الأول، والجميل الثاني في الحرب نفسها، يعرفون أنها تقع مع الكيان الذي لا قبله ولا بعده عدو.
اللبنانيون وصلوا الى ثلاث مدارس وروضتين مشرعة الأبواب. نادت مكبرات الصوت في البص تطلب المساهمة. امتلأت في خلال ساعات أربع شاحنات صغيرة بالأغطية والفرش وغيرها من حاجيات أولية. «فرن القسطل» في مخيم الرشيدية مدّ بالخبز. مرت أيام الوصول الأولى على خير ما يرام، وبسرعة كبيرة نظم المخيم حياته الجديدة.
في هذه المساحات الصغيرة تكثر الجمعيات الأهلية والإنسانية. تقوم بسرعة لجان تنسيق للتنظيم. هيئة صحية تعنى بالنظافة والطبابة وما الى هنالك، وأخرى تعنى بتنظيم أمور النازحين، من مكان النوم إلى الحاجيات الى الغذاء الى حليب الأطفال، وصولاً الى حراسة المدارس ليلاً نهاراً... الى تنظيم نشاطات للأطفال.
وصلت المساعدات من رئيس بلدية صور الخال ابو ظافر الحسيني، ومن جهات أخرى، كلها غير حكومية. الحكومة غابت، كالعادة، تماماً.
في مدرسة الشجرة، قبل سنة، صب الناس جام غضبهم على الحكومة التي لم تنظر اليهم، وشكروا الفلسطينيين الذين «كادوا يحرمون أطفالهم اللقمة من أجلنا».
يقول علي الجمل ان المخيم عاد الى ما كان عليه سنة 1948: محطة. كان النازحون من فلسطين يبيتون لأيام في انتظار أن تحملهم السكة الحديد الى مخيمات أخرى والى سوريا وغيرها. ومن بقي في تلك النقطة ولم يغادر جعلها مخيماً.
اللبنانيون كانوا في أيام الحرب الأخيرة يمرون على المخيم هكذا. ينتظرون بضعة أيام ثم يغادرون الى أقارب وجدوا بيوتاً أو الى بيروت أو الشمال أو أي نقطة أكثر أماناً. لكن الكثيرين فضلوا البقاء لتوفر الحاجيات فيه، بالإضافة الى ان دكاكينه ظلت مفتوحة خلال الحرب، على العكس من مدينة صور.
المخيم كان محطة للشهداء ايضاً. في «الشاحنة ـ البراد» المركونة خارج مستشفى صور الحكومي الملاصق، كانت الجثث تتراصف بانتظار دفن جماعي مؤقت. رائحة الموت كانت تنبعث من الباب الذي يفتح كل يوم مرات عديدة من أجل شهداء جدد. لكن الحرب كانت أقسى. ولم يكن هناك من يتذمر. هذا واجب.
من الابتسامة
تصرف الفلسطينيون بسرعة إذاً. في مكان آخر، في مخيم «عين الحلوة» المخيف بالنسبة للبنانيين، وجد هؤلاء حياة تدب في أرجاء مكان آهل يظل مستيقظاً حتى آخر الليل.
حين ضاقت صيدا بالنازحين، دخلوا عين الحلوة، فنزل الاهالي لملاقاتهم وفتحوا المدارس وأذيعت طلبات المعونة بالمكبرات.
«كريستين ابو سالم» هي التي تحكي الآن، بعربية جيدة جداً، عن تلك الأيام. كريستين كوبية متزوجة فلسطينيا وتنشط في العمل الاجتماعي منذ أكثر من عشر سنوات. هي رئيسة لمركز التضامن الاجتماعي ومسؤولة العلاقات العامة في جمعية النداء الإنساني.
تعدد كريستين الجمعيات التي عملت مع اللبنانيين: النجدة الشعبية. اتحاد المرأة الفلسطينية. مركز التدريب المهني.
هذه الجمعيات سهلت العمل. حلّت مشاكل اللاجئين بأسرع مما حلت في مدينة صيدا نفسها. وارتاح الناس هنا وفضلوا المخيم على صيدا لأن عدد النازحين إليه أقل. ثم ان الحماسة الفلسطينية أدت دورها في جعل النازحين يشعرون بأنهم ضيوف مرحب بهم كثيراً.
تقول كريستين إن ولداً سحب المخدة من تحت رأس أمه وأخذها الى المدرسة، وان ولداً آخر أخذ قراره لوحده بسحب الفراش من البيت وحمله الى النازحين.
أما مدير جمعية النداء الإنساني الدكتور عامر السماك فيقول إن الجمعية التزمت العديد من المدارس في صيدا قبل بدء النزوح الى المخيم. حين تحرك وزملاءه الى صيدا، كانوا يحملون في أيديهم شيئاً مفيداً. جلبوا أدوية ترتبط مباشرة بالوقاية من الحالات التي ترافق النزوح، وجمعوا أدوية أخرى من تلك التي تأتي كنماذج مجانية للأطباء. وبدأوا بمسح شامل للحالات الطبية. المستشفى فتح أبوابه بطبيعة الحال.
حين دخل اللبنانيون الى الفلسطينيين وجدوا حالة استنفار إيجابي، كما يسميها الدكتور. رحب الفلسطينيون باللبنانيين. ذهبوا لزيارتهم وسألوهم رد الزيارة. لطف اجتماعي لا أرقى منه. ليست مسألة تعاطف مع كل من هم ضد إسرائيل فحسب، يقول، بل أكثر من ذلك: الفلسطيني متعود على التهجير والحروب. بالفطرة يعرف الحاجات وهي دائماً جاهزة، من الابتسامة الى فنجان القهوة... والى آخره.
أم قاسم
في البص، ينزل إبراهيم جمّال من سيارة الأجرة ليحيي علي الجمل. الرجل المستعجل أوقف سيارته في منتصف الطريق تقريباً، وما إن تلقف عبارة تحقيق عن استقبال الفلسطينيين للبنانيين حتى قال: «إلنا الشرف ومنرفع راسنا»، ثم تابع يخبر علي: «طلال تخانق مع عناصر الجيش اللبناني لأنه رآني واقفا الى اليمين. قال لهم: هؤلاء فتحوا لنا قلوبهم وبيوتهم بينما لم نر الحكومة». طلال شاب ممن نزحوا الى المخيم.
يتابع إبراهيم: «نحن لم نفعل شيئاً ولا رددنا جزءاً مما أعطونا إياه. هم الذين حملونا وأكرمونا..» الرجل المستعجل قال بعض عبارات أخرى صادقة قبل أن يعود الى سيارته ويغادر.
ثمة رجل أكثر هدوءاً يجلس في باحة مشجرة تطل على الطريق. ابو قاسم، فتحاوي عتيق. زوجته، أم قاسم، هي السيدة التي أدارت المطبخ الميداني في المخيم. تبرعت مؤسسة نروجية بأدوات المطبخ وبالمواد الغذائية وتكفلت أم قاسم بالطبخ وحدها.
سيدة المخيم، كما سيدة البيت، منعت أي يد أخرى من الاقتراب من القدور العملاقة للطبخ. تصل الى المطبخ، وهو علية مستعارة من مقهى صغير، عند الثامنة صباحاً وتغادره عند الثانية والنصف عصراً. طبخت المعكرونة ويخنة البطاطا واللحمة والكوسا ببيض وباذنجان مقلي. هذه طبخات تحتاج اليخنة فيها، مثلاً، الى 25 كيلو أرز، وكانت توزع كوجبات ساخنة يومية على أكثر من مئتي عائلة.
كانت أم قاسم تطل لتسأل عن طعامها: «أروح اقلهن، اذا بدكوش توكلوا أو الاكل ما عم يعجبكن، بلا ما نتعب. فيقولون الاكل منيح. حبوه. وأنا أطبخ وما اقبلش إلا أنا أجلي. هادول الطناجر كنت تشوفهن يلمعوا لمع، انا أجليهن».
لماذا قامت بكل هذا الجهد؟ «واجب علينا نساعدهن. قلنا هادا الشي قبل. تهجرنا أنا واعيي التهجير سنة اتنين وتمانين. سكنا في المدارس وفي الشوارع نمنا».
أم قاسم قالت لسيدة من البازروية إن بيتها سيظل مفتوحاً لها ولبناتها، يأتين ساعة يشأن للاغتسال وغسل الثياب. وظل البيت مفتوحاً للعائلة. انتهت الحرب وقد صارت ام قاسم وبناتها صديقات لأم حسين وبناتها.
بكت النسوة في الوداع. لكن الزيارات لم تنقطع. تذهب إليهن أم قاسم، وتنام عندهن أيضاً. وغيرهن زارتها صديقات من صديقين، جلبن معهن زيتوناً لأم قاسم.
الحديث مع ابي قاسم يأخذنا الى مكان آخر، الى مخيم البارد. «حر أن تصدق أو لا تصدق، حين أرى تشييع شبان الجيش اللبناني على التلفزيون تنزل دمعتي. أولاد. 18 و19 سنة. نحن لا نقبل بهذا».
حين نعود به الى موضوعنا، يقول: اللبنانيون استشهدوا معنا على التلال.
على أي تلال؟ «على تلة مسعود.. وتلة شلعبون».
هي التلال نفسها.
فرن القسطل
فرن القسطل في مخيم الرشيدية، عند هذا العصر المشمس من آب، لا يعمل. هذا الفرن، في تموز وآب العام الفائت، لم يهدأ عن العمل للحظة.
وصل عماله ساعات لليل بالنهار. خبزه ساعد كثيراً. ساعد النازحين، وأعطى شباناً يأتون على دراجات نارية، يأخذون ما يحتاجونه ويغادرون، ربما إلى رفاقهم في المعركة.
قصف الفرن في إحدى ليالي تموز. الشاب الجالس أمامه الآن يقول إن قصف الفرن كان رسالة للأخ اللواء «أبو رياض»، يقصد اللواء سلطان أبو العينين، مسؤول منظمة التحرير في لبنان.
لكن إسرائيل اختارت الفرن الوحيد الذي يعمل في المنطقة لتقصفه. لم تكن تبعث برسائل. كانت ببساطة، تريد منع الخبز عن الناس. يرفض الشاب أن يحكي عن استقبال الرشيدية للبنانيين. سببه لطيف: لا يريد التبجح بما قام به ناسه، ولا التحدث باسم اللبنانيين.
على بعد أمتار من الفرن، يجلس تحت شجرة ثلاثة رجال: شاب بقميص قطني عسكري وسلاح، ورجل خمسيني وثالث مسن بحطة وعقال.
عنصر «فتح» يقوم عن مقعده ليجلس ضيفه. الخمسيني، محمد عيسى الحاج موسى هو مسؤوله. يقول إن مخيم الرشيدية «استقبل اللبنانيين بأفضل ما يمكن. فالمخيم واسع ولديه إمكانات. والفرن موجود والأرض المزروعة أعطت خيراً وكان الشبان الفلسطينيون ينزلون اليها يومياً لجلب الخضار والفواكه وغيرها لتوزيعها». يحكي عنه وعن أولاده على أقل تقدير. نسجوا علاقات اجتماعية مع النازحين. شربوا القهوة والشاي وسهروا وأكلوا من طبق واحد.
كعادة كبار السن، يبدأون كلامهم حيث يشاؤون، ويختارون الفكرة التي يرونها مناسبة، كما تاريخ الحكاية، كما أي شيء آخر، وعلى الموجودين اللحاق بهم. هكذا يبدأ الحاج حسن الكلام عن العام 1918 حين كان ولداً في علما في فلسطين. 18؟ وكم كان عمره؟ سبع سنوات. يا عم. عمرك الآن خمسة وتسعون سنة. آه. خمسة وتسعون، ستة وتسعون.. «العمر القصير» يهمس المسلح مناكفاً. يجيبه محتداً: من الله ولا من عبده. السمع تمام والراس تمام. بس النظر شح شوي.
ما الاسم الكريم؟ يجيب: أي اسم، الأول أم التاني. ولله لبنان ضيّع الاسم. سجلنا الموظف حسن علي عجّاوي. يا عمي عجاوي اسم العائلة كلها.
حسناً، ما اسمك الاصلي إذاً؟ اسمي «حسن علي قاسم سعيد القاسم». من علما. يتدخل المسلح ليشرح عن علما، فيصرخ فيه الحاج حسن ويأمره بالسكوت لأنه لا يعرف عما يتحدث.
يضحك المسلح ويعود الحاج ليعدد أسماء القرى التي مر بها في نزوحه. تختلط حكايا الإنكليز بالعثمانيين. الإنكليز فتحوا مدارس وطلعوا هويات. عمل منيح الإنكليز.. ولبطه بإجره.
يسأله الشاب: إذا رجعوك على فلسطين بتعرف الأرض؟
يحتد مجدداً: «إلا كيف؟ أنا بضيّع الأرض يللي أنا راعي فيها؟ علــواه ياخدوني ورا الحدود ويطخوني هونيك. أموت على أرضي».
تعليقات: