ريما خشيش في \"مسرح المدينة\": قوّة التراث وبهاء الآنيّ (بلال قبلان)
من الموشح إلى الأغنية اللبنانية ومن الكلاسيك إلى الابتكار الحديث
ريما خشيش.. نضج الصوت سحر الأداء
تُختَزل الأمسيتان الغنائيتان لريما خشيش، اللتان أحيتهما في "مسرح المدينة" يومي الجمعة والسبت الفائتين بتنظيم "عِرَب، جمعية عربية للموسيقى"، بكونهما خلاصة انصهار صوتيّ في المدى الأوسع للنصّ الملحَّن. تُختزلان بكونهما شكلاً آخر لحوار ذاتيّ بين نبرة صوتية، وأغنية طالعة من تراث كلاسيكيّ أو ابتكار حديث، وآلات موسيقية خاطبت كلُّ واحدة منها ريما خشيش بنسق مجبول برخاء في قول الأشياء، وبلمعان النبرة في رسم ملامح الحكايات المغنّاة. إنه حوار بين غناء مفتوح على سحر الكلمات وعبق النشيد الإنساني، وآلة موسيقية تمتد إيقاعاتها داخل الصوت، فيتحوّل الصوت معها، في هذا الحوار تحديداً، إلى مناجاة تتكامل في صوغ اللحظة الشفّافة، المعقودة على أعماق روح منبثقة من ألم الخيبة، أو من قسوة العشق. قالت ريما خشيش إن حفلها الغنائي "دويتو" يجمعها مع كل موسيقيّ على حدة. أرى الـ"دويتو" حواراً متناغماً في تفعيل مغزى التواصل الخفيّ بين الآلة والصوت، وبين العازف والمغنية. أراه حواراً أجمل من أن يبقى مجرّد "دويتو" عادي، أو عابر. لأنه، بتثبيت انفعال الحالات الموصوفة في الأغنيات، جعل النوتة صوتاً يعلو في مسام الحكاية وفضائها. ولأنه، بتأكيد الانسياب الخفيّ للنغم والأداء، دفع الصوت إلى تخوم أخرى، متمثّلة بالتمرين على إضفاء شيء من جمال غريب على الحياة وقسوتها، وعلى العشق وصدماته، وعلى الانفصال الأخير لمتعة الحبّ الذاوي.
إحدى عشرة أغنية مختارة من روائع قديمة (محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، زكي ناصيف وآخرون) واشتغال حديث (ربيع مروّة)، أنشدتها ريما خشيش في تفاعل إنساني أخذ من داخلها بعض أجمل ما في صوتها، وعاد إلى هذا الداخل مُحمَّلاً بلذّة الاستماع، وبشوق الانصياع لمتعة العزف على وتر القلب، ونغمة الروح. إحدى عشرة أغنية منطلقة من إرث كثّف شيئاً من زواج النصّ واللحن والأداء والصوت، جاعلاً خفّة الإبداع محطّة ابتكار منطلق في شدوٍ وهيام داخل أروقة الانفعال، وغصّة الحنين إلى المُفتَقَد في يوميات رازحة تحت ثقل الخراب. إحدى عشرة أغنية صنعها انعدام الحدّ الفاصل بين المتخيّل والواقع، أو بين العقل والعاطفة، فإذا بهذا الصنيع يعكس معنى الاختيار، ومدى قدرته على التمدّد في صوت المغنية، كما في أدائها وحركتها وهيبتها. من موشّح قديم بعنوان "غضّي جفونك" إلى صفاء الأغنية اللبنانية، بمعانيها الثقافية والفنية والاجتماعية، التي ألّفها زكي ناصيف ("في وردة بين الوردات" و"يا ليلى")، بدت ريما خشيش حاضنة جميلة المُحيَّا في نقل الثقل الإبداعي للنصوص المختارة إلى لحظة الانشداد نحو متاهة الحب الخائب، والصُوَر المرسومة على جبين الخيال. من اصطفاف التعابير العاكسة ألم العشق المبتور وقسوة انفضاض العلاقة، كما في "أحبّه، مهما أشوف منّو" (كلمات حسين السيّد، ألحان محمد عبد الوهاب)، إلى بساطة الألفة العاطفية والحزن المخضّب بسكينة الرأفة، كما في "أحبّك ياني" (كلمات عبد العزيز سلام، ألحان فريد الأطرش، من فيلم "إزاي أنساك" الذي أخرجه أحمد بدرخان في العام 1956)، بدت ريما خشيش مجبولة بهذا المسار الذاتيّ الموصوف بكلمات مصقولة بزخم الرقّة والانفعال.
لم تكن ريما خشيش وحيدة في غنائها. فالحوار المبتكر بينها وبين الآلات الموسيقية، نابعٌ من كثافة الاشتغال الثنائي بينها وبين كل عازف على حدة: رائد الخازن (غيتار) وسلمان بعلبكي (رقّ) وأنطوان خليفة (كمان) وإيمان حمصي (قانون) وعفيف مرهج (عود)، مانحة كل واحد منهم قدسية التواصل الخفيّ بينه وبين آلته، قبل أن تسبغ على لقائها به شيئاً من سحر طفولة مخبّأة في ثنايا نضج خامتها الصوتية، ورقّة حضورها البهيّ.
..
نديم جرجوره
تعليقات: