كنت في مقتبل العمر لما كنت ذاهبة إلى بيت خالتي الواقع بالقرب من التكنة (الذي يسمّى حالياً معتقل الخيام) والذي يطلّ على جبل الشيخ ابتداءً من الجولان المحتل حتى أعلى قمة فيه في مزارع شبعا..
كان في حوزتنا منظار يساعدنا على مراقبة العدو وهو يشق طريقاً من أسفل الجبل حتى أعلاه ..
كانت الجرّافات تعمل ليل نهار في الأرض اللبنانية ومن دون أي عائق من دون أن يزعجها أحد من اللبنانيين أصحاب الحكم والسيادة والأرض، وقد أقامت مركزاً للتزلج تجني منه الملايين في موسم السياحة الشتوية، إضافة الى أنه موقع استراتيجي مهم جداً، لأنه يسيطر على فضاء نصف مساحة لبنان كاشفاً ذلك بالعين المجردة ..
في تلك الأيام كان الدوام المدرسي على مرحلتين تفصل بينهما فرصة الغداء التي نعود بعدها إلى المدرسة، وفي أكثر المرات نعود أدراجنا خائفين عندما كانت طائرات العدو كانت تقصف قرى العرقوب وتلاله ...
إسرائيل تقصف القرى ولبنان يرد رداًعنيفاً بإرسال شكاوى إلى الأمم المتحدة..
إسرائيل تقضم الأراضي وتشق الطرق ولبنان يشتكي..
إنها معادلة "قوة لبنان في ضعفه" ...
كنا نحن أبناء الجنوب نعاني الأمّرين في ظل هذه المعادلة ،
كانت أرضنا ومياهنا وسماءنا مسرحاً للاعتداءات، والجنوب يزف الشهداء بلا انقطاع منذ السيتنيات .
ولعلّ ما هو محفور في أعماق الذاكرة، مشهد طائرة الفانتوم الإسرائيلية التي أصيبت في 9 تشرين الأول عام 1973، ععدما كانت تستبيح سماءنا، وسقطت فوق ملجأ أحد البيوت في بلدتنا مسببّة كارثة ذهب ضحيتها تسعة شهداء وأصيب آخرون بحروق بالغة في حين سقط الطياّر بمظلته في أحد الحقول، وسرعان ما وجدته القوى الأمنية، وسارعت بتسليمه إلى العدو خوفاً من أن تدمر لبنان "فوق رؤوس أهله" بغض النظر عن استباحتها لمجالنا الجوي... هذا في الماضي !
لقد ثار فضولي حتى كتبت هذه المقالة بعد التحدث إلى أحد أبناء العائلة المنكوبة، وهو السيد أبو حسين علي حسين الأمين الذي أخبرني بتفاصيل الحادثة التي تقشعرّ لها الأبدان وإليكم التفاصيل :
كانت الوالدة (واسمها نايفة أسعد غريب - ثمانية وأربعون عاماً) تجلس على الشرفة الشرقية للبيت
والوالد حسين علي الأمين (واحد وخمسون عاماً) نائم في غرفته ،بعد سماع صوت الطائرات المخيف هرع إلى الملجأ كلّ من عبدو حسين الأمين (ثمانية عشر عاماً)وعدنان حسين الأمين (تسعة أعوام ) وحفيدهم حسين علي الأمين (أربعة أعوام). لقد اصطدمت الطائرة بدرج البيت وأزاحت سيارة أحد الأبناء المتوقفة أمامه حتى استقرت فوق سطح الملجأ فانفجرت وقضوا جميعهم احتراقاً..
وما حصل أن الأم كان من الممكن أن تنجو ولكنها رمت نفسها في النار لإنقاذ عائلتها واحترقت معهم.
كان في الباحة طفلتان اسمهما سناء حسين خشيش (إثنا عشر عاما)وميساء سامي عياش (أحد عشر عاماً)كانتا تلعبان، وعندما سمعتا صوت الطائرات خافتا واختبأتا تحت الذي سقط فوقهما مع طفلين آخرين هما هشام البصبوص (ثلاثة عشر عاماً وأخوه نديم البصبوص (أحد عشر عاماً)كانا عائدين من السوق وصادف مرورهما هناك، وكذلك خافا وهرعا إلى المكان الذي سقطت فوقه الطائرة، فاستشهد الأربعة الذين لم يتم انتشال جثتهم حتى اليوم التالي.
والمؤلم المرّوع ان والد الطفلين المدعو عبدالله البصبوص (خمسون عاماً)عندما رآهما جثتين سقط ميتاً ولم يتحمل رؤيتهما وشيع الثلاثة في اللحظة ذاتها والجدير بالملاحظة أنهما من الطائفة المسيحية فالمتضررون من أسرائيل من كل الطوائف والمذاهب.
وكذلك نجا بعد إصابته بحروق بالغة كل من محمد حسين الأمين (عشرون عاماً)حسن الأمين (خمسة وعشرون عاماً) ومريم حسين الأمين (عامان) وفاطمة زيبارة الأمين (واحد وعشرين عاماً) وهي زوجة الابن الأكبر الذي روى لنا الحادثة.
وبالرغم من مرور السنين لا يزال منظر الحريق أمام عيني، لأننا رأينا الطائرة وهي تهوي مشتعلة، وذهبنا فوراً إلى مكان الحادث لأنه يبعد عن بيتي حوالى عشر دقائق سيراً على الأقدام... كنا ننظر ومشاعر الأسى والحزن تغمرنا ،هذا الإختراق الأمني للسيادة كان سائداً في الماضي ، اليوم تغيرت المعادلة وأصبحت قوة لبنان في قوته ،وكي لا يصبح هؤلاء الشهداء في مهب النسيان ،علينا أن نتذكرهم ونضمهم إلى قائمة الشهداء المتضررين من إسرائيل .
رحم الله الشهداء أينما ومتى كانوا ،علينا أن نتذكرهم إسوة بغيرهم وضمن أي نشاط .
تعليقات: