واجب الكاهن أن يمنح سرّ الزواج ولو مجّاناً
«سرّ الزواج» دخل سوق البورصة، بعدما بات له مؤشرٌ خاص للأسعار يتنافس عليه بعض الكهنة. تصرّف يناقض سلوك السيد المسيح، ما يدفع إلى التساؤل: هل يأتي يومٌ مشابهٌ لذاك النهار الذي صنع فيه يسوع سوطاً من حبال ليطرد التجّار من الهيكل، ويصرخ بهم قائلاً: لا تجعلوا بيت أبي تجارة!
مع قدوم موسم الأعراس، تزدهر السوق السوداء لدى مانحي «سرّ الزواج». فقد باتت الكنيسة هاجس العبء المادي الأكبر الذي يُثقل كاهل كثيرين من الراغبين في الزواج أو العمادة، رغم تأكيد مرجعيات روحية أن جميع الخدمات التي تمنحها الكنيسة مجانية، وتشديدها على أنها لا تُلزم المؤمنين بدفع أيّ مبلغ مالي. هذا في الشكل. أما في الواقع، فيبدو أن روح الاستهلاك تجاوزت كلّ الحدود في ظل ارتفاع رسوم الزواج على نحو ملحوظ. تضاعف منها مظاهر البهرجة التي حوّلت بيت الله إلى صالة زفاف، لها سماسرتها وتسعيرتها الخاصة. فصار مزادها يراوح بين عدة مئات من الدولار ليتجاوز أحياناً ستة آلاف دولار.
إزاء تفشي هذه الظاهرة، بدأ اليأس يتسلّل إلى معظم الشبان الراغبين في تكوين أسرة، مشكّلاً حالة من الإحباط، ولا سيما لدى أصحاب الدخل المحدود منهم. زيادة الأعباء هذه دفعت البعض إلى العزوف عن فكرة الارتباط. «لم أعد أريد الزواج»، يقول فادي، شارحاً أن الأعباء المادية المترتبة عليه أكبر من قدرته على الاحتمال. يُخبر الشاب أن معظم الكهنة الذين قابلهم خلال رحلة البحث عن كنيسة تقبل تزويجه، اشترطوا عليه دفع مبلغ لا يقل عن 800 دولار. وأشار إلى أنهم تذرّعوا بتقديم خدمة الإنارة وتشغيل المولد، إضافة إلى ذكرهم أعمال الصيانة والتنظيف في مرحلة ما بعد انتهاء رتبة الإكليل. لم يشأ فادي أن يُخبرهم أنه على استعداد للقيام بأعمال التنظيفات وحده لو خفّفوا المبلغ قليلاً، إلا أن ما أورده يُعد نسخة مكررة عن تجارب عدد غير قليل من الشبان الذين قرروا عقد رباط ديني.
يخبر أندريه أن كاهناً نصحه بالبحث عن كنيسة صغيرة إذا كان عاجزاً عن دفع مبلغ ألف دولار. يقول: «كأن الكنيسة ملكه»، مستغرباً هذا السلوك «رتبة الإكليل هي سر من أسرار الكنيسة، ومن واجب الكاهن أن يمنح هذا السر ولو مجّاناً». نقد اندريه لرجال الدين لاذع، لكنه لا يتورّع عن ذلك، بل يستشهد بكلام السيد المسيح عندما أطلق عبارة تجار الهيكل رفضاً لسلوك نخبة من الرؤساء. حال أندريه تنسحب على ميرنا، التي تروي قصة مشابهة بعدما أجبرها كاهن الرعية الصيف المنصرم على دفع مبلغ إضافي عن المتفق عليه، لأنها طلبت تشغيل المكيّف وإنارة الكنيسة بشكل كامل. ليس هذا فحسب، بل كاد «يرفض إعطاءها شهادة الدورة الروحية إذا تخلفت عن دفع 50 ألف ليرة إضافية». تُبدي ميرنا استغرابها، ولا سيما أنها دفعت ما يفوق الـ600 دولار لوقف الرعية.
هذا الكمّ من النقد اللاذع لا يغيب عن لسان أحد ممن التقيناهم. وحين يُوجّه إلى السلطة الكنسيّة، ترى الأخيرة أنه «وإن كان محقاً في وجه من الوجوه، إلا أنه مجحف في أوجه عديدة». بحسب المسؤول عن المركز الأبرشي للزواج في جبيل الأب طوني خوري، فإن «الخدمة الكهنوتية خدمة مجّانية في الأساس»، موضحاً أن «الأسرار المقدّسة لا يُفترض أن تُثمّن بمبلغ مادّي، لكن بإمكان الكهنة أن يقبلوا هبات المؤمنين». يرى خوري أنه يتحتم على المؤمنين واجب ضميري وأخلاقيّ يفرض عليهم المشاركة في الخدمة الكهنوتية مع مَن يُشاركونهم في الخيرات الإلهية. ويُعفى من هذا الواجب غير المقتدر بسبب وضعه الاجتماعي.
موجة الاستياء، التي غالباً ما تحضر خلال الجلسات العامة، لا تطاول الزواج فقط، بل تتعدّاه لتصل إلى سرّ العماد ورتبة دفن الموتى.
هنا تجدر الإشارة الى أن كلفة مراسم الإكليل تتفاوت بين كنيسة وأخرى، وذلك بحسب حجمها وموقعها الجغرافي ومدى «رقيّها». وهنا أيضاً ينقسم اللبنانيون إلى فئات طبقية، إذ ليس أمام الفقير سوى اختيار كنيسة الرعية، فيما يختار من ينتمي إلى الطبقة الوسطى كنيسة أفضل حالاً. أما المترَف، فيكون أمامه مروحة أوسع من الخيارات. كأن سرّ الزواج أدرج في خانة الكماليات، فبات هؤلاء من رجال دين وغيرهم يُمسكون بالقشور ضاربين الجوهر بعرض الحائط، إذ يختلف البدل المالي بين كاهن وآخر، تبعاً للرتبة الكهنوتية. فمن هم برتبة مطران يتقاضون مبلغاً مضاعفاً عمّن هم برتبة كاهن.
واللافت أن بعض الشبان يربطون الأمر بـ«البرستيج»، كما جوليان الذي يصرّ على نيل سرّ الزواج على يد مطرانين، علماً أنه لا يملك ثمن منزل. وهنا يقع اللوم عليه، بحسب الشماس إيلي، الذي يقول: «لا يقع الذنب على المطران إذا كان الراغب بالزواج على دراية مسبقة بالمبلغ المفروض». ويتابع أن حال جوليان تعكس ثقافة منتشرة بين كثيرين ممن يعشقون المظاهر ولفت الأنظار. كلام الشماس يؤكده الأب خوري مستشهداً بالمثل القائل: «اللي بدو يعمل جمال بدو يعلي باب داره». لا شك أن الكهنة هم خدام الله، بحسب خوري، إلا أن الكنيسة في توفيرها خير البشر الروحيّ تحتاج إلى خيرات زمنيّة، ويرى أن من حقّها الطبيعي أن تكتسب وتملك وتنقل إلى غيرها تلك الخيرات الضرورية لأهدافها الخاصّة، ولا سيما المعيشة اللائقة لخدّامها». ويتابع خوري «لكل إنسان الحق في أن يقتات من ثمار تعبِه»، مشيراً إلى أنه «لِكُلّ خادم للمذبح الحقّ في أن يقتات من الهيكل، ويُقاسم المذبح». لا يكتفي الخوري بذلك، بل يستشهد بالحديث الذي كلّم به يسوع رسله عندما دعاهم إلى الذهاب اثنين اثنين إلى الرسالة قائلاً: «اذهبوا إلى المدن والقُرى، لا تحملوا نقوداً ولا كيساً في الطريق ولا ثوباً آخر ولا حذاءً ولا عصا، لأنّ العامل يستحقُّ طعامه» (متى 1010). فالثور الذي يُكَم فمه أثناء دياسه، سيأتي وقتٌ ينهار فيه ويتوقّف عن العمل. وبالتالي «يحقّ للأسقف أن يُحدّد رسوماً لشتّى أعمال السياسة الرعوية، بِداعي إقامة الليتورجيا الإلهية والأسرار، وأشباه الأسرار، أو أيٍّ من الاحتفالات الليتورجيّة الأُخرى». من هُنا باستطاعة المؤسّسات الكنسيّة المؤتمنة على الخيرات الزمنية، رسم الخطة الماليّة الخاصة بكلّ مؤسّسة أو وقف من الأوقاف، ضمن القانون العامّ الذي يتحكّم في الكنيسة، بُغية تأمين ما يلزم من احتياجات خاصّة تؤَمّن استمرارية الخدمات الكنسيّة. أما المال الذي يُجنى من المؤمنين، فيعود إلى الكنيسة كمؤسّسة إلهية ذات وجه بشري، ويُستثمر في خدمة الإنسان في بُعديه الروحي والمادّي. «إذ علينا تأمين ما تقتضيه هذه الاحتفالات من مواد وتقنيّات خاصّة».
وحول ما يُقال اليوم في شأن استثمار الكنيسة كسلطة للمؤمنين، بحسب بعض أبناء الكنيسة، يرى خوري أن ذلك يدخل ضمن خانة الشحّ في المحبّة ليس إلاّ.
يؤكد أنَّ الأمور ليست طوباوية في عدد من الأحيان، لكن يجزم بأن الأخطاء لا تتحمّلها الكنيسة كمؤسسة، بل يلام الفرد الذي سوّلت له نفسه التصرّف على نحو غير لائق بالمسؤولية المُلقاة على عاتقه. ويختم الأب خوري أنه «في حال حصول أي مخالفة يمكن توجيه الشكوى الى الأسقف، الذي بدوره سيتخذ التدابير اللازمة».
..
.
عرس جماعي في بكركي
48 عروساً وعريساً تكللوا أمس في كابيلا القيامة في الصرح البطريركي في بكركي. «فكرة الزواج الجماعي في الجو المسيحي ليست بالأمر السهل، لكن الرابطة المارونية تسعى لتحويلها الى قناعة عند الشباب». هكذا أراد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي (الصورة) وبحضور الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير ترؤس الاحتفال الديني تشجيعاً منه على ترسيخ الفكرة، وخصوصاً أن «تبعات الزواج في عصرنا لم يعد للشباب القدرة على تحمّلها، ما دفع بهم إلى العدول عن فكرة الارتباط». لذلك ارتأت الرابطة المارونية أن تقوم بمبادرة لتشجيع هذا النوع من الزواج. يوضح المسؤول الإعلامي في الرابطة جوزف القصيفي إن «الموانع الاقتصادية والاجتماعية تجعل كلفة الزواج باهظة، لذلك ولدت الفكرة قبل ثلاث سنوات من خلال تجارب مماثلة عديدة في أماكن ومناطق أخرى». ويشير إلى أن هدفها «حث الشباب على تكوين أسرة لتشجيع الزواج المبكر والتخفيف من العنوسة».
في موازاة ذلك، قدّمت الرابطة للمشاركين حوافز معنوية ومادية.
تعليقات: