كنا في حقبة ما قبل اتفاق الطائف نقول إن رئيس الجمهورية اللبنانية ملك على جمهورية، وذلك بالنظر إلى السلطات والصلاحيات الواسعة جداً التي كان يتمتع بها بموجب الدستور من دون أن يكون مسؤولاً إلاّ في حالتين: الخيانة العظمى وخرق الدستور. فهو كاد يكون الحاكم المطلق، ولكن على الورق. أما في الحقيقة فإن رئيس الجمهورية، مع استئثاره بكل تلك السلطات والصلاحيات كاد ألا يستطيع ممارسة أي منها إلا بمشاركة رئيس الوزراء والوزراء الذين يشاركونه في توقيع المراسيم. فما من مرسوم يصدر عرفاً، ولو ضمن صلاحيات رئيس البلاد، إلا إذا اقترن بتوقيع من رئيس الوزراء والوزير المختص. هذا اللهم في حالة واحدة لم تكن للرئيس فيها سلطة مطلقة، هي تسمية رئيس الوزراء عند تأليف حكومة جديدة بعد استشارات نيابية يجريها، والمفروض أن تكون التسمية نتاجاً للمشاورات. هكذا كان رئيس الجمهورية قبل الطائف ملكاً على جمهورية، بحسب الدستور، ولكنه كان أول بين متساوين، إلى جانب رئيس الوزراء والوزير المختص، في واقع الحال. لم يكن الحاكم الأوحد بل كان له شركاء، تتوقف فاعليتهم على أشخاصهم وعلى قوة إرادتهم وإيمانهم بالمشاركة في الحكم.
أما بعد الطائف فلم يعد ثمة ملك على الجمهورية، ولا حتى في النص الدستوري. فصلاحيات رئيس البلاد تقلصت حتى الذوبان. ويلاحظ أن الصلاحيات المحسوبة للرئيس بات له شريك صريح فيها، إذ ينص الدستور على اتخاذ رئيس الجمهورية قراراته إما بالاتفاق مع رئيس الوزراء وإما بموافقة مجلس الوزراء. ولكن نفوذه يبقى عريضاً باعتباره رئيس البلاد المؤتمن على الدستور وباعتبار أن من حقه ترؤس جلسات مجلس الوزراء. وهو الدائم طيلة عهده فيما الوزراء ورئيسهم عرضة للتبدل في أي لحظة.
ولكن لبنان يبقى جمهورية ذات ممالك. ملوك لبنان هم أمراء الطوائف. إننا نردد القول إن اللبنانيين، منذ بزوغ فجر الاستقلال، لم يتصرّفوا تصرف الشعب الواحد، بل تصرف القبائل، وقبائل العصر تسمى طوائف. كل طائفة لها أميرها أو ملكها. وفي حالات معينة تكون للمملكة الطائفية حدودها الجغرافية، بالنظر إلى غلبة لون مذهبي أو طائفي معين على مناطق معينة. هكذا إلى حد بعيد الجنوب، وإلى حد ما الجبل، وإلى حد، ولو أقل، البقاع. فالجنوب مملكة إسلامية شيعية مع أن عاصمتها يطغى عليها السنّة. وفي الجبل مملكة مارونية ومملكة درزية. وفي البقاع غالبية شيعية مع وجود كثرة سنية ومسيحية. أما بيروت فيُرجّح فيها العنصر المسلم السنّي. وفي الشمال تعايش بين ممالك مسيحية وإسلامية سنّية. فعكار والمنية والضنية وإلى حد ملحوظ طرابلس ممالك سنّية. أما زغرتا وبشري، وملحقاتهما في البترون والكورة، فممالك يغلب عليها اللون المسيحي الماروني والأرثوذكسي.
المملكة يتربع على عرشها ملك. وفي كل من ممالك لبنان ملك، وفي بعضها ملك ينافسه. ونظام لبنان المسمى زوراً ديموقراطياً محكوم في واقع الحال من ملوك الطوائف. صحيح أن مجلس النواب يتشكل من 128 نائباً، وأن مجلس الوزراء يتألف أحياناً كثيرة من 30 وزيراً. ولكن أصحاب الصول والطول، أصحاب القرار، بين هؤلاء لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة أو ربما اليدين. فأكثر اللبنانيين لا يعرفون من النواب أو الوزراء أسماءهم سوى هذا العدد والبقية من الملحقين الأتباع. إنهم يصلون إلى المقاعد النيابية أو الوزارية عبر ما يسمى الجرّافة أو المحدلة الانتخابية، أي القائمة الانتخابية التي يشكلها أمير القبيلة أو الطائفة في منطقته. هكذا يبدو أن حق الانتخاب يعود للمواطن، ولكن الذي يمارسه فعلياً هو ملك طائفته أو قبيلته أو عشيرته. من هنا فإن أخبار السياسة التي تحفل بها الصحف اليومية إنما تتمحور على بضعة زعماء لا يتجاوز عددهم الخمسة إلى العشرة. ويسمى نظام لبـــــنان ديموقراطياً !!!
والأمير أو الملك أو الزعيم هو في معظم الأحيان الأكثر ثراءً أو هو الذي يحسن استدرار المال من مصادره داخلياً أو خارجياً. والمال السياسي مصطلح لبناني صرف، والمقصود المال المستخدم في خدمة أغراض سياسية. والمال السياسي هو الإسم الملطف للرشوة. ومع أن الرشوة تهمة لا يرتضيها لبناني لنفسه، فإن المال السياسي أداة مُقرّة، لا بل مشروعة، في العمل السياسي في لبنان. فالذي يتقبل الرشوة على معاملة يُعيّر بها في المجتمع. لذا تُصرف الرشوة تحت الطاولة. ولكن المستفيد من المال السياسي يبقى محترماً، يمارس السياسة من أبوابها الواسعة لا يخفي استزلامه لأصحاب الثروات وانتماءه إليهم والسير في ركابهم ولو على الباطل.
نحن لا نرى فارقاً بين الرشوة والمال السياسي. ويضيع الفارق على نحو صارخ، خصوصاً في الانتخابات النيابية والرئاسية. إذ يغدو للصوت ثمن، وكأنما الصوت مجرد سلعة تُشرى وتُباع. ونسمي ذلك ديموقراطية، وتتحدث الإدارة الأميركية عن حكومة لبنان المنتخبة ديموقراطياً تعبيراً عن رضاها عن تركيبتها وأدائها. هذا مع العلم أن الحكومة في نظامنا لا تُنتخب انتخاباً، والانتخابات في أي حال ما كانت يوماً في لبنان ديموقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة، بل بمعنى التماهي والمصلحة الأميركية الإسرائيلية الآنية.
لبنان لا يعود جمهورية ممالك يوم يصبح جمهورية ديموقراطية حقيقية. فمتى سيكون ذلك؟ سيكون ذلك يوم يسير لبنان على طريق تجاوز الحالة الفئوية، الطائفية والمذهبية، ويوم يصدر قانون للانتخابات النيابية يؤمن التمثيل الشعبي الصحيح، ويضع ضوابط لفعل المال السياسي الفاسد والمفسد بتحديد سقف للإنفاق الانتخابي يخضع احترامه للرقابة تحت طائلة إبطال نيابة من يفوز بتجاوز السقف. وكذلك يفترض بالقانون أن ينظم الإعلام والإعلان الانتخابيين، فقطاع الإعلام والإعلان يقع عملياً إلى حد ملحوظ في قبضة المتمولين، أي المال السياسي. فالمرشح الذي يمتلك وسيلة إعلامية يستطيع أن يقتحم غرفة كل ناخب من دون استئذان، أما المرشح الذي لا يمتلك مثل هذه الوسيلة فقد تعبر الانتخابات من دون أن يسمع الناخب باسمه.
إننا نرى في قانون الانتخاب مفتاحاً للإصلاح السياسي، ونرى في الإصلاح السياسي مدخلاً طبيعياً للإصلاح الشامل، أي الإصلاح الإداري والاقتصادي والمالي والتربوي وما إلى ذلك. ولكن الإصلاح بهذا المعنى يبدو أسير مأزق في بلادنا. فقرار الإصلاح، بما فيه قانون الانتخاب، هو في يد الطبقة السياسية، التي تنبثق منها الطبقة الحاكمة. والإصلاح يتطلب وجود صالحين مصلحين. فأين هم الصالحون المصلحون بين ساسة لبنان؟ وأي إصلاح حقيقي، بدءاً بقانون انتخاب عادل وفاعل سيكون من شأنه القضاء على الطبقة السياسية الفاسدة. والسؤال الكبير هو: لماذا يتخذ قرار الإصلاح من ليس له مصلحة فيه؟ لا بل من سيقضي قرار الإصلاح على وجوده؟
لا فكاك من هذا المأزق إلا بالتعبئة، بتنمية رأي عام ضاغط في اتجاه الإصلاح، فيفرض الإصلاح على الطبقة السياسية فرضاً ولو لم يكن من مصلحتها. والتعبئة المنشودة تستوجب تطوير نظام تربوي صالح كما تقتضي تنزيه وسائل الإعلام من أدران التبعية السياسية.
تعليقات: