تقيم الوحدة الإسبانية سوقاً أسبوعياً داخل أسوار قاعدتها (حسن بحسون)
بعد أيام، تصلّي الوحدة الإسبانية لراحة أنفس ستة من جنودها قضوا في انفجار استهدف آليتهم قبل خمس سنوات في سهل الخيام. على مذبح آخر، يصلي «جنوبيو الليطاني» على نية أن تعدل قيادة الوحدة عن قرارها بسحب أو خفض عديدها العاملين ضمن «اليونيفيل»، لما له من تداعيات اقتصادية واجتماعية عليهم
مطلع الشهر الماضي، كشف وزير الدفاع الإسباني عن توجه حكومته لخفض عديد الجنود الإسبان العاملين ضمن قوات اليونيفيل في جنوب لبنان. هو ما فصّله السفير الإسباني في بيروت خوان كارلوس غافو قبل أيام، موضحاً أنه وبسبب «الأزمة الاقتصادية التي تواجهها بلاده ومنطقة اليورو، ستخفض إسبانيا 140 عنصراً من جنودها في اليونيفيل، من الآن وحتى نهاية العام الجاري». واستناداً إلى الكلام الرسمي، تصبح الوحدة عند تبديلها المرتقب في تموز المقبل، تعدّ 1050 جندياً.
فيما تكشف مصادر مطلعة عن قرار إسباني بـ«حصر المشاركة بكتيبة صغيرة بحلول أواخر العام. وقد تسحب بشكل نهائي في العام المقبل». لكن السبب الاقتصادي الذي يقف وراء الخطوة الإسبانية، سيؤدي بدوره إلى نتائج اقتصادية سلبية في منطقة عمل الوحدة في القطاع الشرقي، في بلدات قضاءي مرجعيون وحاصبيا تحديداً.
لا يختلف المشهد في أي يوم من أيام الأسبوع، أمام المطعم الواقع في الشارع الرئيسي لبلدة كوكبا (قضاء حاصبيا). قصدناه ساعة الغداء فوجدنا بابه مغلقاً. برغم أن نوافذه الزجاجية الواسعة تظهر من خلفها، مطعماً لبناني الطراز جاهزاً لاستقبال الرواد. لكن الكراسي والطاولات النظيفة والموزعة بترتيب بين أحواض الشتول، لا تستقطب سوى الفراغ الذي يخلّف هدوءاً قاتلاً في المكان. وقبل أن نغادر المكان لاعتقادنا أن المطعم مهجور، ينادينا رجل متثاقل الخطوات، ويدعونا إلى ضيافته وعلى وجهه علامات الاستغراب من «زبائن الغفلة». يعرّف عن نفسه: ملحم القلعاني، صاحب المطعم الذي افتتحه في الثمانينيات في مسقط رأسه، على شرف جنود الوحدة النرويجية الذين استقروا في بلدة إبل السقي المجاورة ومحيطها منذ التحاقهم بقوات الطوارئ الدولية في العام 1978. هو والعشرات من أبناء بلدته والجوار «استثمروا» الحضور النرويجي على مختلف الصعد. بالنسبة لشيف المطبخ، كان هذا الأمر حافزاً لكي يعود للإقامة في بلدته رغم خضوعها للاحتلال الإسرائيلي، طمعاً بـ«النعيم النرويجي». بداية، افتتح القلعاني محلاً لبيع العطور والمشروبات الكحولية والهدايا. ازدهار مشروعه، دفعه في الوقت ذاته إلى افتتاح المطعم الذي قدّم فيه المأكولات اللبنانية والبيتزا ومختلف الأطباق التي يطلبها الجنود النرويجيون. بعد تعليق النرويج حينها مشاركتها في قوات الطوارئ وسحب جنودها من المنطقة في العام 1998، «وقف حالنا» يقول القلعاني بحسرة. حال لم ينقذه التحرير الذي حلّ بعد عامين من دون أن يصطحب معه الدولة ومؤسساتها وخدماتها أو القطاع الخاص واستثماراته. تقليص عديد وحدات قوات الطوارئ تدريجياً بين العامين 2000 و2001، في مقابل ندرة عودة أبناء المنطقة للاستقرار في ديارهم، عزّز الأزمة الاقتصادية للقلعاني وسواه من أصحاب المحال والمقاهي والمطاعم التي كانت تعتمد حركتها على الجنود الدوليين. تعزيز تلك القوات بعد عدوان تموز، بموجب القرار 1701، ووصول وحدات جديدة، في طليعتها الوحدة الإسبانية التي استقرت بين بلدتي بلاط وإبل السقي، حرّكا الواقع الاقتصادي الراكد. لكن في حال تكررت التجربة النرويجية، ما الذي يحيي اقتصاد المنطقة المنسية؟.
في عام 2000، افتتح غسان غبار مطعماً مع شقيقه في شارع «الداون تاون» في بلدته إبل السقي (قضاء مرجعيون). هذا الشارع لم يكن شرياناً رئيسياً للبلدة فحسب، بل للمنطقة برمتها لكونه يحاذي مراكز القوات الدولية التي شجعت سكانها على «اصطياد» الجنود وجذبهم من خلال تلبية حاجاتهم من الملابس إلى المصاغ مروراً بالطعام والسهر. يقرّ غبار بأن الازدهار بدأ منذ تمركز ما يزيد على ألف جندي إسباني في جواره. ولمزيد من الجذب، أسقط على مطعمه الصبغة الإسبانية. الجدران والزوايا مطلية بالأعلام الإسبانية الموقعة من الجنود الذين أصبحوا أبرز زبائنه، إضافة إلى صور تجمعه معهم. في حديثه اليومي، تنزلق عبارات إسبانية التقطها إما قصداً عبر تعلّم اللغة من خلال الكتب والدورات والأشرطة، أو تلقائياً من خلال التواصل اليومي مع الجنود. التعاون الاقتصادي ليس خارجياً فحسب، بل يتخطى أسوار قاعدة الوحدة الإسبانية الضخمة التي تقيم أسبوعياً سوقاً شعبياً «ميركديو بالإسبانية»، تدعو خلاله أصحاب المحال والتجار إلى عرض بضاعتهم ومنتجاتهم داخل المقر للجنود والموظفين. وإذا كان الحضور الدولي قد جذب الأموال إلى جيب غسان وزملائه من أصحاب المحال، إلا أنه سحب منهم مبالغ أخرى. فقد زادت قيمة الإيجارات وتسعيرة اشتراك الكهرباء منذ عام 2006 حتى الآن. بالنسبة لغسان، فإنه يتكبد مبلغاً شهرياً يفوق الألف دولار بدل مصاريف من دون أجور العمال.
«ماذا ستفعل في حال غادر الإسبان؟». تتجهم ملامح غسان فور طرح السؤال ويجيب تلقائياً: «بفلّ أنا أيضاً». لا يملك احتمالات أخرى للإجابة. يدعونا إلى حساب الواقع المستجد بالأرقام. يؤكد أنه لن ينتج مبلغاً قريباً للمصاريف المترتبة عليه شهرياً. لذا «من الأفضل أن أقفل المطعم وأسافر سعياً وراء فرصة عمل في الاغتراب ما دامت الفرص في المنطقة معدومة». «المصيبة» لن تحل بغسان وحده، بل بالكثير من زملائه الذين يؤكدون أنه «وإن استبدل الإسبان بجنود من كتيبة أخرى فإنهم لن يمتلكوا القدرة المالية أو العددية ذاتها». الأزمة ستضرب حوالى 220 موظفاً وعاملاً من أبناء المنطقة، يعملون لدى الإسبان في قطاعات مختلفة، من الإدارة والترجمة وصولاً إلى التنظيف والحلاقة. ويلفت البعض إلى أن الكثير من هؤلاء كانوا قد استغنوا عن وظائفهم السابقة كرمى للوظيفة الإسبانية. وفي الإطار ذاته، تبحث بلديات المنطقة عن بديل للنعيم الإسباني، الذي كان يغدق عليهم مشاريع حيوية وتنموية من إنارة وتكرير مياه وتأهيل مدارس وتعبيد طرقات واستحداث برك زراعية وإنشاء أرصفة إلخ...
الماليزيون أيضاً وداعاً
في وقت قريب، تستعدّ الوحدة الماليزية العاملة في اليونيفيل للمغادرة أيضاً. ليس مركزها الرئيسي في كوكبا وحده الذي سيشغر برحيلها، بل عيادات مستوصفات البلدات المجاورة، نظراً للخدمات الطبية التي كان يقدمها الفريق الطبي التابع لها من معاينات وأدوية مجانية، فضلاً عن المشاريع التنموية التي دعمت بها البلديات.
تعليقات: