دورية نسائية لقوى الأمن الداخلي تجول أمس، للمرة الأولى، في شارع مار الياس في العاصمة (مصطفى جمال الدين)
«الـدوالـيـب» تحـرق الدولـة .. والشـارع لـ«الـزعـران»!
لعل أكثر المتشائمين لم يتوقعوا ان تتعرض الخطة الامنية لخروقات واسعة، في اليوم الاول للمباشرة في تطبيقها، حتى كادت تفقد «عذريتها» سريعا. وإذا كان معروفا ان الامن هو هيبة بالدرجة الأولى، فإنه يمكن القول ان هذه الهيبة خسرت جولة إضافية، أمس، في مواجهة.. «الدولاب».
لم تمر ساعات قليلة على قص شريط شهر «التسوق الأمني»، بدءا من الضاحية الجنوبية، حتى عادت «الدواليب» المشتعلة الى الشارع، وخصوصا طريق المطار، في تحد صارخ لكل الإجراءات المتخذة ولـ«وقار» القوى الأمنية والعسكرية، فيما قرر محتجون من لون آخر أن يعتصموا عند مدخل صيدا الشمالي ويقفلوه بأجسادهم اعتراضاً على «هيمنة السلاح». إنها لعبة الشارع.. على حافة الهاوية.
وحتى مجلس الوزراء، أُسقط في يده، وهو الذي كان يعد نفسه للاحتفال بإنجاز أمني يعوض عن قصوره وتقصيره في مجالات كثيرة، فإذا بدخان «الدواليب» يصيب المجلس بـ«ضيق تنفس»، استوجب استدعاء قادة الاجهزة الامنية على عجل، سعيا الى فك رموز «اللغز الامني»، والحفاظ على حد أدنى من ماء وجه السلطة، قبل ان يتبخر كليا تحت وطأة حرارة الإطارات المشتعلة.
والمفارقة الغريبة هنا، انه وبرغم الانتشار الامني أمس، المعطوف على غطاء رسمي وحزبي، فإن عشرات من الشبان العابثين و«مكتومي القيد» سياسيا (من حيث المبدأ)، استطاعوا انتزاع المبادرة، وتنفيذ عمليات «إنزال» في اكثر من مكان، نهارا وليلا، ما يدفع الى التساؤل عن السر الكامن خلف «هامش الحركة» الذي ما يزال يتمتع به هؤلاء، فيما الاجهزة المختصة تعلن، في الوقت ذاته، عن وقف العمل بنظرية «الأمن بالتراضي»، و«حركة أمل» و«حزب الله» يؤكدان رفض «الارتهان لعدد من الزعران ومرتكبي الاعمال المشينة»، كما جاء على لسان ممثليهما في مجلس الوزراء، فهل يعقل ان هذه القلة أقوى من الجيش وقوى الامن و«حزب الله» و«حركة أمل» مجتمعين، وأين تكمن الحلقة المفقودة؟
لقد بات واضحا، ان البلد افلت من «الجاذبية» الامنية، منذ أشهر، ليسبح في فضاء الفوضى غير الخلاقة، وغير المنظمة، بحيث اصبحت كرامة المواطن مستباحة بشكل غير مسبوق، الى حد انها استحالت «حقل تجارب» لفنون الفلتان على أنواعه: قطع طرق، حرق اطارات، خطف أشخاص بالجملة، سرقة مصارف وسيارات وما شابه، اشتباكات عائلية وعشائرية..
ولعله لم يعد مستغربا، في ظل هذا المناخ، ان يتطور أي شجار محتمل بين رجل وزوجته الى إحراق الإطارات، لتنفيس الاحتقان العائلي في الشارع، الذي غدا مشاعا لكل من يملك «دولابا» مستعملا.
والأخطر من ذلك كله، هو ان الدولة نفسها كانت اول الخارجين على القانون، ففقدت القدرة على تطبيقه او فرضه، بعدما اصبحت هي «متهمة» و«مطلوبة للعدالة»، شأنها شأن أي مرتكب آخر، فوقع الفراغ الذي ملأه تارة «أصحاب حقوق»، أخطأوا في طريقة الدفاع عنها، من دون التنكر لمشروعية مطالبهم، وملأه طورا «أصحاب سوابق» استغلوا حالة انعدام الوزن، للقبض على الشارع وأخذه «رهينة» للتفاوض.
نعم.. ضربت الدولة مصداقيتها بنفسها عندما اعتمدت سياسة «6 و6 مكرر» في الإفراج عن المحكومين بتهمة العمالة لإسرائيل، حتى استحالت العمالة مجرد جنحة او جنوح، بل ان وزيرا مخضرما لم يتردد في المشاركة باستقبال أحد هؤلاء، الامر الذي فتح الباب امام المطالبة بإطلاق سراح سجناء ارتكبوا جرائم اقل وطأة وخطورة.
وضربت الدولة مصداقيتها عندما أفرجت، تحت الضغط، عن موقوف خرج من السجن بسيارة وزير، واستقبله رئيس حكومة، فأصبحت هذه السابقة «أداة قياس» للتعامل مع حالات مماثلة، بحيث لم يجد أنصار وسام علاء الدين، على سبيل المثال، أي حرج في النزول الى الشارع بكل ثقلهم وشغبهم، للمطالبة بإطلاق سراحه، في مسعى لتكرار سيناريو الافراج عن شادي المولوي.
وضربت الدولة مصداقيتها عندما شاركت أطرافها، على ضفتي الموالاة والمعارضة، في تغذية الخطاب التحريضي بكل أنواع «الفيتامينات» الفئوية، ما انعكس تشنجا وغليانا في
الشارع المفروز الى محميات طائفية ومذهبية، وليس خافيا ان بعض القوى السياسية هي التي ساهمت أصلا في إنتاج أمراء الزواريب و«قبضايات» الأحياء لاستخدامهم ضد الخصوم، فإذا بها تفقد السيطرة عليهم، بعدما كبرت تجربتهم وخبرتهم.
وضربت الدولة مصداقيتها حين حولت مؤسساتها الدستورية الى ساحات لـ«حروب استنزاف» شلت فعاليتها، وعطلت إنتاجيتها، حتى بات اتخاذ هذا القرار او ذاك، يحتاج الى مفاوضات عسيرة وتفاهمات صعبة، كأن مجلس الوزراء يضم ممثلين عن أوطان، وليس شركاء في وطن واحد.
وضربت الدولة مصداقيتها عندما أخفقت في إيجاد حلول لأزمات معيشية خانقة، تأتي في طليعتها أزمة التقنين الكهربائي القاسي الذي أنهك المواطنين في مختلف المناطق، ودفع الكثيرين منهم، تحت ضغط الاحتقان والغضب، الى «لحس المبرد» عبر قطع الطرق على أنفسهم، وأقربائهم وجيرانهم، قبل الآخرين، من دون ان يعني توصيف الواقع تبريرا له، بأي حال من الاحوال.
وضربت الدولة مصداقيتها عندما بالغت في التهاون مع العابثين بالامن، إما بحجة النقص في الغطاء السياسي، وإما بذريعة عدم الانزلاق الى فخ المواجهة الدموية، فصار دخول الجيش وقوى الامن الى جبل محسن وباب التبانة يتطلب إذنا من قوى الامر الواقع، وأصبح منع إحراق الإطارات وقطع الطرق يتطلب وفاقا وطنيا.
وإذا كان وزير الداخلية مروان شربل قد انتهز فرصة المباشرة في تطبيق الخطة الامنية لتفجير غضبه على السياسيين، فإن المعلومات تشير الى ان انفعال الوزير يتجاوز حدود التعبير عن مشاعر شخصية، ليعكس حالة من التململ والاستياء تسود الأجهزة الامنية، اعتراضا على سلوك بعض رجال السياسة «الذين لا يجيدون سوى المزايدة والتنظير، من دون ان يتمتعوا بمؤهلات تتيح لهم إعطاء الدروس في الاستراتيجيات الامنية».
ووفق ما يتردد في أوساط الاجهزة، فإن تطبيق خطة أمنية مستدامة، لكل أيام السنة، يحتاج الى 50 ألف عنصر، غير متوافرين في الوقت الحاضر، «والأسوأ من ذلك - كما يروي القيّمون على الاجهزة - هو ان آلافا من العناصر الموجودة في الخدمة تتوزع، كمرافقة ومواكبة، على النواب والوزراء والقضاة والسفارات، بما يؤدي الى هدر جزء مهم من الطاقة الامنية في مهمات غير مفيدة، بات معظمها يصب في خانة تأمين الـ«بريستيج» الفردي للشخصيات العامة». ويكشف مصدر أمني واسع الاطلاع في هذا الاطار عن ان هناك 500 عنصر موضوعين بتصرف 4مسؤولين فقط!
.. يبقى انه إذا كان مرفوضا إلحاق الضرر بمصالح المواطنين وأعصابهم، عبر أعمال الشغب في الشارع، فإن ذلك لا يلغي طبعا الحق المشروع في الاعتصام والتظاهر بطريقة حضارية للتعبير عن موقف، او للضغط من أجل قضية مطلبية. ولعل المطلب الملح الذي يجمع كل اللبنانيين الآن، برغم خلافاتهم الكثيرة، هو استعادة الأمن المفقود، وهذا يتطلب بالدرجة الاولى ان تحزم الدولة أمرها و«ترمم» هالتها المتـصدعة، قبل فوات الأوان.. فهل تفعل؟
تعليقات: