«بنج» عمومي

هل يتّحد فقراء لبنان من أجل تحقيق التغيير؟
هل يتّحد فقراء لبنان من أجل تحقيق التغيير؟




لبنانيّون يحرقون أنفسهم لأسباب معيشيّة... حدث عابر

الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية يحرك ثورات عامة. أما في لبنان، فيعيش المواطنون على وقع الخطابات السياسية. يتلطون خلف منابر الزعماء. يحملون همّ طاولة الحوار، فيما طاولاتهم فارغة. لا كهرباء، لا مياه، لا ضمان اجتماعي، لا عمل، لا استقرار وظيفي، لا محروقات رخيصة، وضرائب ظالمة. ما هو نوع المخدّر القوي الذي يتعاطاه اللبنانيون لكي يصمتوا؟

رشا أبو زكي

«الأمر الوحيد الذي يطالب اللبناني بتغييره ويحقق مطلبه، هو حين يريد تغيير رأس النرجيلة». يتناقل «الفايسبوكيون» اللبنانيون هذه العبارة بكثافة هذه الفترة. يعبّرون عن غضبهم مما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. يعلّقون بهذه العبارة رفضاً للسياسات المعمول بها. رفضاً للتقنين الكهربائي غير المحتمل. رفضاً لارتفاع أسعار كافة المواد الاستهلاكية. رفضاً لعدم وجود ضمان صحي شامل. رفضاً لافتقاد مقومات الحياة الطبيعية كافة. وتنتهي القضية هنا. كل التحركات افتراضية.

حتى إن بعض الصفحات تحمل عنوان «تظاهرة فايسبوكية». حوداث انتحار كثيرة حدثت في لبنان لأسباب معيشية بحتة. بعض من حاولوا الانتحار أحرقوا أنفسهم، محاولين التمثّل بالبوعزيزي الذي أشعل الثورة التونسية. إلا أن هذه الحالات مرّت بلا أي ردّ فعل في الشارع. لم يتحول أحد من المنتحرين إلى «البوعزيزي». لم تثر هذه الحوادث سوى تعاطف محدود. بل إن البعض ممن يعانون من النظام الاقتصادي والاجتماعي ذاته رأى أن المنتحرين يحتاجون إلى أطباء نفسيين لا أكثر. ما القصة؟ ما هو نوع المخدّر الاجتماعي الجمعي الذي يكمّ أفواه اللبنانيين ويحصّنهم من تحقيق ثورتهم؟ هل هو مرض «الرؤوس المتقابلة»، الذي يعتبر أي مطلب اجتماعي استهدافاً لوزير أو حكومة ذات خط سياسي معين؟ هل هي شبكة المصالح النفعية الأخطبوطية التي تلازم علاقة الفرد بزعيمه وحزبه؟ وهل يمكن الوصول إلى تهالك أو تهاو لهذه المنظومة في ظل التعقيدات الفعلية المكبّلة للحراكات الاجتماعية في لبنان؟

فقد شهد عام 2012 حتى اللحظة هذه عدة محاولات انتحار لأسباب اجتماعية. أحدثت قضية زاهد زغيب ضجة إعلامية، بعد أن حاول الانتحار نتيجة مصادرة القوى الأمنية عربة بيع القهوة التي يملكها، ومن ثم سجنه لمدة شهر، ليخرج ويجد نفسه بلا أي فرصة للعمل. وقد سبقه إلى ذلك والده الذي توفي انتحاراً العام الماضي بعد أن طُرد من عمله ولم يجد أي بديل وظيفي. كذلك شهد شهر أيار الماضي 3 محاولات انتحار لأسباب معيشية. فقد أحرق شاب خيمته البحرية في صور، ثم رمى نفسه في النار، احتجاجاً على قيام القوى الأمنية بإزالتها، وبالتالي إفقاده مصدر رزقه. وفي الشهر نفسه، انتحر رب أسرة مؤلفة من ستة أبناء، وكتب رسالة على ورقة إفادة الضمان الاجتماعي، يشير فيها إلى أن انتحاره جاء بسبب فقدانه عمله والتغطية الصحية التي يقدمها الضمان له ولعائلته، لكونه بلغ 64 من العمر، فسحبت منه اللوحة الحمراء التي كانت تخوّله حق العمل على سيارة الأجرة. في أيار، كذلك، هدد أحد المعتصمين أمام مبنى مؤسسة الكهرباء بأنه سيحرق نفسه بسبب تهديده بالصرف من العمل. وبعد أيام من التهديد، أقدم شاب من المعتصمين على إحراق نفسه، فنجا بعد أن أنقذه أصدقاؤه. ورغم أن عدداً كبيراً من اللبنانيين يعانون من البطالة وفقدان التغطية الصحية وتهديد استمرارية عملهم باستمرار، لم يحرك أيّاً منهم ساكناً، للتعبير عن رفضهم لواقعهم.

يرى رئيس مؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان أن السر في لبنان هو أن مستوى الفقر المطلق والنسبي هو دون مستوياته في العديد من الدول العربية المحيطة، لا سيما مصر. وذلك، بحسب ما تشير إليه الإحصاءات المتاحة حول ظاهرة الفقر في المنطقة. كذلك تتنوع في لبنان المخارج المتاحة في مواجهة الفقر والبطالة. هذا التنوّع يرتدي الأشكال الآتية:

أولاً، الأسرة الممتدة والتضامن العائلي في بلد صغير مثل لبنان لا يزالان يؤديان دوراً مهماً في الحياة العامة.

ثانياً، المؤسسات الطائفية والمجتمع المسمّى «مدنياً» لا يقل دوره أهمية عن الدولة. فنسبة الجمعيات نسبة إلى الألف نسمة، بين الأعلى في الدول العربية، ومعظم أهدافها التعاطي مع الحالات الاجتماعية والمعيشية الصعبة.

ثالثاً، البيوتات والعائلات السياسية، وكذلك بعض الأحزاب السياسية، تمتهن توزيع المال السياسي الذي تسترده بمعدلات مضاعفة عن طريق تسلطها على المال العام بأشكال مختلفة. ثم هناك تيارات الهجرة إلى الخارج المفتوحة على مصراعيها، والتي تسهل عيش الكثير من مهمشي الأسر وفقرائها من خلال التحويلات الخارجية. كذلك هناك الطابع التوزيعي البسيط على العديد من الخدمات العامة، إذ هناك نفقات كثيرة وسياسات الدعم وغيرها من الأمور التسكينية البسيطة التي تترافق مع الكثير من الهدر. وغلبة هذا الطابع يتيح لفئات من الفقراء الإفادة ولو نسبياً من فتات هذه التوزيعات.

المشاكل المعيشية الكبرى في النقل والكهرباء وإيجاد فرص العمل وغيرها تسبّب قلقاً معيشياً دائماً دون أن تدفعهم إلى إنشاء قوة اجتماعية ضاغطة لفرض إصلاحات، وهذا مردّه إلى طبيعة النظام السياسي الطائفي الذي ألحق الأفراد بـ«كرّازيهم» وحال دون وعيهم لمصالحهم المشتركة. المخرج هو التوحد حول إسقاط النظام.

أما الباحث الاقتصادي جاد شعبان، الذي حاول إقامة عدد من النشاطات والتحركات حول البطالة والتغطية الصحية الشاملة، فيرى أن هناك مشكلة ثلاثية الأبعاد، إن كان في آلية التواصل مع المتضررين، أو في طبيعة النظام السياسي القائم، وكذلك في نظرة المتضررين أنفسهم إلى الحال الاجتماعية التي يعيشونها. ويلفت إلى أن المسيطرين على السلطة السياسية والمالية نجحوا في إنشاء شبكة مصالح لأسر المواطنين ضمنها، بحيث يمكن غير المضمونين الدخول إلى المستشفى مجاناً من خلال واسطة زعيم. بإمكانهم كذلك إدخال أولادهم إلى المدارس الطائفية. وكذلك، يستطيعون الحصول على دعم مالي مباشر في مواسم معينة أهمها الانتخابات. ومن خلال تهجير الشباب، يمكن العائلات اللبنانية العيش على نفقة التحويلات. في المقابل، جزء كبير من المواطنين استسلم للوضع وأصبح مدجناً بالمطلق، وذلك ربطاً بالخوف من تكرار الحرب، والخوف من البديل، والخوف من تكرار تجارب فاشلة للتغيير. يشرح شعبان أن لبنان شهد أخيراً تحركات مثلاً ضد التقنين الكهربائي، لكنّ المعتصمين كانوا يدعون زعيمهم إلى الضغط على زعماء آخرين لتأمين الكهرباء. كذا، لم تتحرك مناطق تابعة لزعيم معين لكونه يدير ملف الكهرباء. هذا الواقع ينسحب على الكثير من الملفات، بسبب غياب مفهوم المصلحة العامة لدى المواطنين، وتمدد اليأس إلى شرايين الشارع.

51.5%

هي نسبة الأُسر التي تنفق كامل الدخل قبل نهاية الشهر. في حين ان 30.6 في المئة من الأسر تضطرّ إلى الاستدانة قبل نهاية كل شهر لتوفير حاجاتها الأساسية، و4.6% تضطر إلى استخدام المدّخرات، وذلك وفق دراسة «الوضع الاجتماعي والاقتصادي

في لبنان»

لن نخون الزعماء

يقول وزير العمل السابق شربل نحاس إن المطالب الاجتماعية العامة تستدعي عادة تدخل الدولة، الا أن المواطنين فقدوا الثقة بهذا التدخل. فالدولة بمفهومها السلطوي أصبحت «جمعية تنفيعات» بين القوى التي تسيطر عليها. ونتيجة تقاسم القوى السياسية للمرافق التي تقدم الخدمات العامة، أصبح عدد كبير من اللبنانيين يعتبرون أن تحركهم للمطالبة بخدمة معينة هو خيانة للزعيم وكسر لموقعه الاقطاعي، فيسكتون بذلك عن الضرر اللاحق بهم، إثباتاً للولاء.

تعليقات: