رسالة إلى الشعب التونسي + VDU

مارسيل خليفة في تونس
مارسيل خليفة في تونس


صباح الخير

أتذكر ماليا مسار القطار الطويل الذي حملني ذات مساء من صيف سنة 1981 إلى تونس الشعب. كنت في أواخر العشرينات من عمر سريع استعجل الوقت والزمن لأكبر ولأدخل عالم الكبار. اليوم نطلب من الوقت والزمن أن يستمهلنا قليلا لنكمل القصيدة و لنبقى صغارا.

لن أنسى دفاع الشعب التونسي ومنذ اللقاء الأول عن المشروع الإبداعي الملتزم بقضايا الخبز والورد حيث دفعنا إلى تطوير لغتنا و حمايتها من التكرار و الإرهاق. ولقد تم ذالك بثقة متبادلة و بعلاقة متميزة مع تجدد الذائقة والعصر والزمن.

ومنذ البداية لم نستطع أن نتصالح مع النظام العربي الرسمي والذي كشف عن مدى زيفه وانحطاطه وكان الواقع يسير من سيئ إلى أسوء . إلى أن أتت الثورة الشعبية التونسية مع هؤلاء الأبطال والشباب والتلامذة بعمر الورود يثيرون الإعجاب والدهشة. عشاق المستحيل يؤمنون ببساطة بان الحياة إذا لم تكن حياة عز فهي لا تستحق أن تعاش.

ثورتكم يا أحبابي في تونس أصبحت بمثابة الجوهر الكامن في عمق تجربتنا الفنية والإنسانية على السواء ولا غرابة أن وجدت أعمالنا عندكم الترحاب كأعمال تخاطب إرادة الشعب.

الفن رسالته الوحيدة هو الفن نفسه بأشكاله وبقدرته على تحريك المشاعر وإيصال الفكرة أو حفر الأنفاق في الواقع وفي قلب الإنسان وفي معنى الحياة.

لا أحد يستطيع تغيير التاريخ ا وان يعمل ثورة ما لم يكن مدعوما بريشة بوتر بقصيدة بأغنية ليستدل على الحلم ويصل إلى تحقيقه.

إن الإنسان الحر هو الذي يستطيع أن يفارق ذاته الذيقة ذاهبا إلى المطلق كمسافر جوال و الحياة تكتسب معناها من تحقق هذا السفر المستمر.

أصدقائي في تونس الشعب

أحييكم في خفقة جناحي فراشة، على سياج جسر خشبي بين عشبتين، في ضوء شمعة خافتة وراء نافذة صغيرة في منزل البوعزيزي قريبا من الينبوع، في خرير مياه الساقية في ارتطام جناحي الحمام بسطح الفضاء، هذا الفضاء هو فضاءكم المفتوح نحو السماء بلا أسيجة وبلا سواتر لنتسلق الأفق البعيد معكم.

نأتي إليكم رغبة في اكتشاف ذواتنا التي تجمعنا بكم يا شعب تونس الحي النابض الحر، وهي أيضا ذاتا ثقافية تعبر عنها القصيدة والموسيقى والغنية والثورة. نخلق الشك، نخلع الأقنعة، نشكل فعل مشاغبة، عصيانا وجوديا، نزعة حادة للإفلات من القطيع ودعوة الآخرين إلى ارتكاب الشغب نفسه. صرخة جريئة من أجل الحرية لنشتبك مع هذا الدوران المدهش الذي يحدث للعالم وان لم نكن منخرطين فعليا في الشغب الذي لابد منه لن نتمكن من المساهمة في ايجابية عن الأسئلة المطروحة والى التعبير وخلق الحوافز في لغة جديدة توصلنا إلى وعي حركة المجتمع والناس.

لقد حملت معي التزامي بقضاياكم – قضايانا، وقدمت مساهمة في التعبير عن الألم في صناعة مستقبل إنساني مختلف، يليق بنا ويترجم طموحاتنا.

وعندما كنت أتابع وقائع كافة الثورات الشعبية في الوطن العربي كنت اشعر بالمسؤولية تطوقني كي أبوح بشعور الغضب تجاه حمامات التي أغرقت بها أجهزة القمع العربية مدننا وقرانا وشوارعنا ردا وحشيا على مطالب جماهير شبابنا وكهولنا ونساءنا العادلة والمشروعة في الحرية والديمقراطية والغد الأفضل.

لا يمكن أن نكون إلا مع شعوبنا في كل قطر عربي ولا نستطيع أن نكون إلا في معسكر الحرية والمطالبة بالديمقراطية و الغد الأفضل.

وها أن الحزن والغضب يعتصران قلبي، واحسب أنهما يعتصران قلوبكم جميعا، ونحن نعاين هذا القدر من العدوان الوحشي على كرامة و أدامية الفلسطنين وهاهو الدم المسفوك يوحدنا في الألم، وعسانا نشعر بجمعنا العصي عن الانقسام ليدعونا نغضب ونصرخ ونستنهض بالهمم ونستصرخ الضمائر الحية في وجه هذه الجريمة الا وهي احتلال فلسطين وإنشاء الدولة الصهيونية على ارض فلسطين.

أصدقائي

ماذا سأفعل بما هو مطلوب مني في هذا المؤتمر الصحفي الا وهو تقديم شرح بالكلمات ما أريد أن أقدمه بالمهرجانات الصيفية.

لا استطيع أن اشرح إعمالي الفنية ، وان فعلت ذلك، فلكي أوضح بالكلمات، الفارق الجميل بينما أود أن أقوله عن المنجز الفني وبين ما يقوله هذا المنجز من خلال سماعه.

فكثيرا ما تفلت الموسيقى من سياق التفكير بها ومن مشروعها الذهني ، ولا تخضع خضوعا كاملا لوضوح الفكر الذي يحركها وكأنها إذ تستقل في سيرورتها الذاتية وتستقل أيضا عن مؤلفها.

إنما يعنيني في هذه الأمسيات أن تكون أمينة وصادقة في تمثيل تجربة موسيقية وتطورها زمنيا و جماليا. ومازلت ورغم كل هذه السنوات وهذه التجارب أتعلم المشي العسير على الطريق الطويل إلى موسيقى لم اكتبها بعد. اعلم بان هذه الأمسيات ستزود الخصم بزيد من أسلحة الاغتيال المعنوي الشائعة في ثقافة الكراهية الناشطة. سنعترف أمام ألقضى المهجم و المتجهم بأننا تخلينا عن سلام العصافير دون أن نتخلى عن رؤيتنا الجمالية بالمعنى الواسع للكلمة.

لا نريد أن نتوقف عن مطلب الحرية والعدالة والديمقراطية وعن تطوير أدواتنا الفنية رغم السهام الموجهة بعناية فائقة إلى الذين يبدعون بشفافية. نكتب حياتنا كما نعيشها وكما نراها ونلون أحلامنا بالحرية ونصر على أن نكون كما نريد لا كما يريدون أن نكون.

لقد ولدت الموسيقى من أولى أسئلة الدهشة عن وجودنا ، من تلك الصرخة الإنسانية حين تساءل فيه طفلنا عن سر وجودنا الأول.

إن التعبير عن حق الذات في التعرف إلى نفسها وسط الجماعة هو شكل من أشكال البحث عن حرية الأفراد الذين تتكون منهم الجماعة. ومن هنا فان الإبداع المعبر عن سماءنا الإنسانية وهمومنا الفردية – وهي ليست فردية تماما – في سياق التصارع الطويل، يمثل البعد الإنساني الذاتي من فعل المقاومة الفنية، حتى لو كانت أغنية حب أو مطر أو تأملا في وردة أو خوفا من موت عادي أو إصغاء إلى نداء الجسد ا أو الناي البعيد.

إن استيعاب الفن لقدرة الحياة فينا على النهوض هو فعل إبداعي مقاوم يتطلع إلى ما فينا من جماليات حسية وحرية وخيالية لمقاومة البشاعة والحقد والحسد والكراهية بالجمال.

وان الفن متعة وفرح غامض بالتغلب عن الصعوبة والخسارة وانه رحلة لا تنتهي إلى البحث عن نفسه في المجهول والفن مثل الحب أي تعرف الذات على ذاتها في حوارها مع أخر يخرجها من الصدفة إلى الوجود. وعلى هذه الضفاف حيث تقيم تونس الشعب، يتسلح النرجس بالمقاومة وتعلو قافلة الثورة في عذوبة قسوة الحرير وانتحار الأنهار في البحار. سوف لن ننتبه إلى الغبار الذي ستثيرها العربات الفارغة إلا أننا واثقون من صواب قولبنا.

في النهاية لا اعرف أصوغ شكرا مناسبا بالكلمات لشعب تونس العظيم وسنحتفي بالمشترك الإنساني والجمالي التي تحققه الموسيقى والأغنية و القصيدة.

يسعدني أن اشهد معكم بداية ميلاد جديد لبلد أحببناه من كل قلوبنا.

هل نسيت شيئا ؟

نعم .

نسيت تلفت القلب نحوكم.

أحبكم وأحب تونس لأنها شديدة الوفاء لذاكرتها النضالية وللحياة في آن.

والى أن ننثر الورد في ليالينا التونسية الجوالة لكم مني كل الحب .

مارسيل خليفة

سهرة خاصة مع مارسيل خليفة على التلفزة الوطنية التونسية بعنوان "تونس...نشيد الخبز والورد"

تعليقات: