من يعرف "حزب الله" جيدا، وكيف يفكر، لم يُفاجأ بالموقف الذي اتخذه الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله حيال مقتل عدد من كبار المسؤولين السوريين في تفجير دمشق.
قبل الخطاب الذي تصح تسميته بـ"خطاب الوفاء"، توقع البعض أن يتسم موقف نصرالله بالارتباك في التعامل مع التطورات السورية الدراماتيكية، ورجح آخرون أن يلوذ "السيد" في مثل هذه الظروف الى "البراغماتية"، بالحد الادنى، فيراجع حساباته بعد الزلزال الذي ضرب بنية النظام السوري، ويخفف من دعمه للرئيس بشار الأسد على قاعدة حفظ خط الرجعة تحسبا لاحتمال سقوطه قريبا.
لكن نصرالله اختار مرة أخرى ان يكون متصالحا مع نفسه وقناعاته، بمعزل عن أي تكتيكات أو مناورات سياسية، فقرر في لحظة تلقي النظام إحدى أكثر الضربات إيلاما ان يطل بخطاب متماسك وقوي وكل كلمة من كلماته كانت محسوبة بدقة، حتى صح القول إنه أطلق في يوم النصر خطاباً سورياً، كان بمثابة رد جميل لسوريا التي ناصرت المقاومة وساندتها من دون تردد، وذهب للمرة الأولى في الإضاءة على الدور العملاني للنظام السوري في دعم المقاومتين اللبنانية والفلسطينية بالسلاح، مستخدما أدبيات المقاومة في مخاطبته ضحايا التفجير، واصفاً إياهم بـ"الشهداء القادة" و"رفاق السلاح".
ويعتبر المقربون من "حزب الله" أن ما قاله نصرالله ينسجم مع ثوابته السياسية والمبدئية، لافتين الانتباه الى أن المعروف عنه أنه يُغلّب العامل الأخلاقي على ما عداه، لا سيما في الاوقات الصعبة، وبالتالي فلم يكن واردا لديه أن يتنكر للأدوار التي أداها ضحايا تفجير دمشق في مؤازرة المقاومة، تحت تأثير الحملة الكونية المتمادية والهادفة الى شيطنة صورة النظام.
ويلفت هؤلاء الانتباه الى أن المسؤولين السوريين الذين قُتلوا هم من ركائز المؤسسة العسكرية ومن بناة عقيدتها القتالية ضد إسرائيل، حتى قبل وصول الرئيس بشار الأسد الى السلطة، وبالتالي فمن الخطأ اختزال سيرهم الذاتية بالصراع الداخلي بين سلطة ومعارضة، وحتى لو كان هؤلاء يمثلون طرفا في نزاع داخلي مستحكم فإنه يجب ألا يقود ذلك الى خلط الأمور، وتقويض الجيش وضرب قيمته القتالية والعقائدية، لان مثل هذا الأمر يضر بكل السوريين موالين ومعارضين، ولا يفيد سوى واشنطن وتل أبيب اللتين لا تريدان جيشاً سورياً قوياً، يكون قادرا على مواجهة اسرائيل.
ويرى العارفون بمناخات "حزب الله" انه كان من البديهي أن يقف نصرالله الى جانب النظام السوري في هذه الأيام الصعبة، من دون الخوض في حسابات الربح والخسارة، تماما كما وقف هذا النظام الى جانب المقاومة في أدق الظروف، غير آبه بالتبعات والضغوط، ولا سيما خلال "حرب تموز" حين فعلت سوريا كل ما يمكن فعله لمؤازرة المقاومة سياسيا وعسكريا، يوم تخلى الكثيرون عنها مفترضين أن نهايتها اقتربت، لتبقى دمشق وحدها تقريبا في عين العاصفة الاقليمية والدولية، متحملة كلفة هذه المواجهة على كل المستويات.
ويتساءل المتحمسون لسلوك "حزب الله" عما إذا كان جائزا أن يتخلى الحزب عن القيادة السورية، وهي التي تتعرض أصلا لكل هذه الهجمة الخارجية بسبب تمسكها بـ"لاءاتها" المتعارضة مع المصالح الاميركية والاسرائيلية، وإصرارها على مساندة المقاومة في لبنان وغزة. وسأل هؤلاء: "هل ثمة عاقل يشك بأنه لو نفذ السوري كل الإصلاحات التي ينادي بها البعض في الداخل والخارج، كانت ستتوقف الحرب العالمية التي يتعرض اليها النظام بسبب خياراته السياسية وخاصة منذ لحظة غزو العراق حتى يومنا هذا"؟
ولما كانت المعركة، من وجهة نظر "حزب الله"، لا تستهدف فقط النظام السوري، بل الخيار الاستراتيجي الذي يمثله، فإن مؤدى ذلك أن الحزب أصبح يرى نفسه في دائرة الاستهداف ايضا، لأنه يتشارك والقيادة السورية في خيار المقاومة والممانعة ذاته، وهكذا فهو يشعر بأنه حين يدافع عن النظام السوري إنما يدافع عن نفسه في الوقت ذاته.
وتشير الأوساط المطلعة على نقاشات الحزب الى أن نصرالله يميز في طرحه بين مسألتين، الاولى، تتصل بالجانب الداخلي من الازمة السورية، وفي هذا المجال كان "السيد" واضحا في التشديد على المطالب المشروعة للشعب السوري وحقه في الديموقراطية والإصلاح، مجددا نبذه العنف وداعيا الى الحوار بأسرع وقت ممكن، أما المسألة الثانية، والتي تشكل جوهر المواجهة الحالية فتتعلق بالاستهداف الخارجي لدور سوريا وموقعها في الصراع مع إسرائيل، وهنا لا يستطيع "حزب الله" ان يكون على الحياد، لان الخيارات الاستراتيجية ووضعية محور المقاومة على المحك الآن، وبالتالي فإن الحزب أصبح بهذا المعنى جزءاً عضوياً من معركة الحفاظ على سوريا وحمايتها، بما تمثله من عنصر توازن حيوي وضروري، سواء على المستوى الاقليمي أو المستوى الدولي.
وضمن هذه الرؤية الشاملة، يلفت المقربون من "حزب الله" الانتباه الى أن موقف الحزب ليس استثناء، إذ ان روسيا كذلك ترفض التخلي عن القيادة السورية أو المساومة عليها، برغم كل الضغوط والإغراءات، وهي لا تزال تؤمن شبكة حماية في مجلس الأمن وخارجه للنظام السوري، بل كان ملاحظا أنها أصبحت أكثر عنادا في موقفها خلال الأيام الأخيرة، بالتزامن مع اشتداد الحملة على سوريا، ما يؤشر بوضوح الى أن خط الجبهة الفعلية يتجاوز الأرض السورية، ليمتد من موسكو وبكين الى دمشق مرورا بطهران وخط المقاومة، لان هذا المحور يدرك جيدا ان القضية في سوريا لم تعد قضية إصلاحات بل تحولت الى عملية تصفية حسابات، من شأنها أن تصيب في الصميم المصالح الحيوية لتلك العواصم، إذا لم يتم التعامل معها بالشكل المناسب.
وإذ يؤكد "حزب الله"، استنادا الى معطيات دقيقة، أن النظام السوري استوعب الضربة القاسية التي تلقاها، ولكنه يتوقع أن تطول الأزمة السورية، يعتبر أن هناك سؤالا جوهريا يجب أن يُطرح على "قوى 14 آذار" بالدرجة الاولى، وفحواه: هل تدين تفجير دمشق أم لا؟ وبرأي الحزب، فإن الكثير يتوقف على طبيعة الإجابة... من دون إغفال الكلام اللبناني للسيد نصرالله الذي حمل في طياته أشياء يقولها الحزب للمرة الأولى، وتحديدا على صعيد انتظام العلاقات الداخلية لفريق الأكثرية، وعلى وجه التحديد بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله".
تعليقات: