العميد أبي نصر: البحر مقفل تماماً أمام تهريب الأسلحة.
"البحر مقفل تماما". عندما يتكلم قائد القوات البحرية العميد الركن البحري بطرس ابي نصر على "اقفال" البحر، فانه يعني امرا واحدا. لا تهريب للاسحلة الى لبنان عبر البحر. "أجزم بذلك"، على ما يؤكد. البحر الواسع الممتد الى الافق هو مساحة عمل القوات البحرية في الجيش اللبناني. الدفاع، مراقبة الملاحة، دعم بقية وحدات الجيش، في البحر وعبره، من المهمات الرئيسية التي تتولاها القوات البحرية، يوميا، وعلى مدار الساعة... "بلا توقف".
على امتداد 100 ميل بحري، هي طول الشاطىء اللبناني (بخط مستقيم)، وعلى عمق 12 ميلاً (عرض المياه الاقليمية اللبنانية)، تمتد منطقة العمل الرئيسية للقوات البحرية. "الاسطول" العسكري اللبناني يتألف في شكل اساسي من زوارق حربية صغيرة وسريعة. "المجموعة لا بأس بها"، على قول العميد ابي نصر. فهي تضم زوارق فرنسية وبريطانية الصنع. "واخيرا، تعززت المجموعة بزوارق اخرى تقدمت بها دولة الامارات العربية المتحدة الى القوات البحرية. كذلك، ينتظر وصول زورقي دورية هبة من الدولة الالمانية".
عند رصيف القاعدة البحرية في بيروت، اصطفت زوارق رمادية تحمل العلم اللبناني. ابنية القاعدة تطل على البحر. الحركة دبّت في المكاتب، فيما تأهب عدد من الجنود في مراكزهم. اما المراقبة البحرية الفعلية فتحصل في غرف عمليات بحرية، حيث تُرصَد حركة الملاحة عبر رادارات تشرف على المسطح المائي اللبناني. وفي العمق، على بعد اميال بحرية عدة، تجوب البحر زوارق حربية للمراقبة والقيام بدوريات.
بحسب الارقام المتوافرة، تغطي الـ 12 ميلا، مساحة المياه الاقليمية اللبنانية، شبكة رادارات وعدداً من الزوارق اللبنانية (لـ6 اميال داخلية للمياه الاقليمية)، تؤازرها 19 مركبا دوليا (لـ6 اميال خارجية للمياه الاقليمية)، بينها 3 للدعم اللوجيستي، في اطار التعاون اللبناني - الدولي في مراقبة الشواطىء اللبنانية، تطبيقا للقرار 1701. منذ الحديث عن ضرورة ضبط الحدود البرية، ولا سيما البحرية، منعا لتهريب السلاح الى لبنان، استعدت القوات البحرية لاتمام ما يتوجب عليها، وخصوصا في الاميال الـ 6 التي تشرف عليها مباشرة، "من دون التخلي عن صلاحياتها وواجباتها على المسطح المائي كله الذي يكوّن المياه الاقليمية".
"مطلوب منا مراقبة حركة الملاحة. وننسق في ذلك مع مختلف الوزارات والاجهزة المعنية، في اطار غرفة العمليات البحرية المشتركة التي اعيد تفعيلها بقرار وزاري"، يقول العميد ابي نصر. وبموجب هذا التنسيق، تُعلَم قيادة القوات البحرية بوصول مراكب، بمواصفات وتفاصيل ومواعيد محددة. "نجمع هذه التفاصيل، ونراقب الحركة في البحر وندقق فيها".
شبكة الرادارات عنصر اساسي في عملية المراقبة البحرية. وقد استعادت القوات البحرية في الاشهر الاخيرة قدراتها، "بعدما دّمر العدوان الاسرائيلي نحو 90 في المئة من الرادارات"، على ما يفيد العميد ابي نصر. "لقد تمكّنا من ذلك في فترة وجيزة جدا، وبما توافر من عتاد في مخازننا... لا بل عمدنا الى توسيعها". الشبكة تغطي اليوم كل الشاطىء اللبناني، من الشمال الى الجنوب، وصولا حتى الناقورة.
ثلاثة خطوط للملاحة
قدرة التغطية الرادارية اللبنانية تزيد او تقل بحسب الاحوال الجوية. اذا كانت جيدة، "فيمكن احيانا رصد حدود الجزيرة القبرصية. وفي الظروف النوعية، يبدأ الرصد من 90 ميلا، والاّ فانه ينخفض الى نحو 36 ميلا. وحتى بهذه القدرة يمكن ان نغطي المياه الاقليمية اللبنانية بكل ارتياح"، على قوله. وفي كل الاحوال، تتيح الرادارات تقديم صورة واضحة عن المسطح المائي، بحيث يمكن رصد "اي تحرك على سطح البحر. نراه نقطة على الرادار. ونعمد الى التحقق منها عبر الدوريات والاتصال الراديوي ومطابقة المعلومات".
عملية المراقبة والرصد... هكذا تتم. عندما يصل مركب الى مشارف المياه الاقليمية اللبنانية، يعرّف الربان عن المركب ومواصفاته للقوات البحرية، عبر الاتصال الراديوي. وبدورها، تعمد القوات الى المقارنة بين المعلومات التي ادلى بها، والمعلومات المتوافرة لديها بموجب طلب تقدمت به وكالة بحرية بخصوص المركب والمستوعبات التي ينقلها وموعد الوصول. "اذا تطابقت المعلومات، فهذا يعني ان هذا المركب هو المنتظر، ويسمح له بالمرور تحت المراقبة، وعبر ممرات حددتها القوات البحرية للوصول الى المرفأ المقصود".
لكن ثمة حالات اخرى قد تواجهها القوات البحرية. فاذا لم تتطابق المعلومات، ولم يكن لديها اي علم او خبر بالمركب، "لا نسمح بدخوله المياه الاقليمية قبل التأكد منه. نطلب من المركب المجهول البقاء مكانه، في انتظار توضيح الصورة. يحصل اتصال بالوكالة. فاما يتبين ان المركب شرعي، لكن حصل تعديل في موعد وصوله، اما يعمد الوكيل الى قوننة وضعه بعد ان يكون تأخر في الابلاغ عن وصوله". اما اذا تبين ان لا اذن له بدخول لبنان، "وحاول رغم ذلك الدخول، فهذا يعني انه مشبوه، ونعمد الى تفتيشه، شكاً منا في انه مركب تهريب. ونطبق عليه القوانين المرعية في مثل هذه الحالات... وصولا الى مصادرته"، على ما يشرح العميد ابي نصر.
خطة المراقبة البحرية واضحة تماما. على كل المراكب الواصلة الى لبنان او الخارجة منه سلوك أحد الخطوط الثلاثة: خط من الغرب في اتجاه بيروت، خط في اتجاه صيدا، وخط في اتجاه طرابلس. "واي ملاحة خارج هذه الخطوط تصبح مشبوهة... ونتدخل"، يقول العميد ابي نصر. غير انه منذ بدء تطبيق هذه الخطة، لم يسجل اي خرق على الخطوط الثلاثة. "الجميع يلتزمونها". اي طلب للخروج عنها يتوجب تحديد سبب ذلك ونيل موافقة من القوات البحرية ومتابعة ومراقبة منها. "عادة يكون السبب تقنيا. واحيانا اذا شككنا في الامر، نتأكد من السبب الذي ادعاه المركب. واذا تبين ان ما شككنا فيه يقين، لا نسمح له بالخروج عن المسار المحدد، بل يصبح تحت المراقبة المشددة. وقد تصل الى زيارة المركب وتفتيشه".
في الاشهر الماضية، لم يخل الامر من بعض الاشتباه والتفتيش. "اي مركب اشتبهنا فيه، فتشناه. لدينا على سبيل المثال مراكب مشبوهة بسبب ملفات قديمة او معلومات امنية تردنا. وفي هذه الحال، نراقبه، ونفتشه". وتضاف "تقنية السبر"، عبر اقامة تفتيش طارىء لمركب او مركبين او اكثر. وكانت الحصيلة "ضبط محاولات عدة لتهريب الدخان عبر منطقة الشمال"، على ما يفيد العميد ابي نصر. وعدا ذلك، لا شيء آخر يذكر، "واجزم ان لا تهريب للسلاح الى لبنان عبر البحر".
الامر محسوم بالنسبة الى العميد. "انا مطمئن"، على قوله. ومرد اطمئنانه الى "طريقة انتشار الرادارات البحرية، ومراكب القوات البحرية، والتعاون بيننا وبين القوة البحرية الدولية. وبذلك استطيع ان اقول ان البحر مقفل تماما". حصول التهريب في الماضي وامكان وجود ثغرة معينة اتاحت ذلك تقابلها اليوم "عملية امساك مُحْكَمة بالشاطىء اللبناني تمنع اي محاولة لامرار اي شيء غير شرعي"، يحلو له ان يقول.
بين البحريتين الاسرائيلية والسورية
لكن "الهفوات" ممكنة في البحر. وما حوادث اطلاق نار او خطف صيادين لبنانيين التي حصلت في الاشهر الماضية، على يد البحرية الاسرائيلية، الا دليل على ذلك. فمقابل تأكيد عسكري لبناني ان "اي خرق اسرائيلي بحري للمياه الاقليمية اللبنانية لم يسجل اطلاقاً" في ظل انتشار القوات البحرية والبحرية التابعة للقوات الدولية، يبرز تحد آخر امام القوات البحرية: منع الصيادين من الخروج من المياه الاقليمية اللبنانية، "ليس حفاظا على الاسرائيليين، انما خشية على حياة الصيادين، لكونهم يتعرضون لاطلاق نار من الجانب الاسرائيلي"، على قول العميد ابي نصر.
الصيادون هم ايضا تحت مراقبة القوات البحرية. القانون واضح: يحظر عليهم الخروج من المياه الاقليمية من دون ترخيص. "واذا خرجوا من دون ترخيص، فهذا يعني ان الهدف لم يعد الصيد". اما الوقت المسموح لهم حاليا بالخروج في البحر فهو 24 ساعة. "تسجل مفارز خاصة لنا اوقات الخروج والعودة. واذا تجاوزوا الوقت المحدد لهم، فيتوجب علينا التحقق من الامر".
ومع ذلك، لا يمكن ان يكون الامر مثاليا مئة في المئة. ومقتل صياد بنيران سورية قبل مدة "ليس مرده الى ضعف في المراقبة لدى القوات البحرية او الجانب السوري"، انما يرتبط "بوضع يتطلب قرارا نهائيا من الدولة اللبنانية والدولة السورية، في ما خص مصب النهر الكبير عند الحدود"، على ما يشرح العميد. ويوضح: "الصيادون موجودين في النهر من مدة طويلة، علما انه ليس مرفأ. وعندما يخرجون من النهر للصيد، قد يحصل خلل ما". وهو يعني بذلك أنهم يتجاوزون الحدود اللبنانية من دون قصد. "والمطلوب قرار. اما اعتبار النهر مرفأ صيد شرعيا وتطبق عليه القوانين، واما تحديد تعامل آخر في هذه الحالة، واما اعتبار النهر مرفأ غير شرعي واخلاؤه. والقوات البحرية مستعدة لتنفيذ اي قرار يصدر في هذا الاطار".
حاليا، يقدّر قائد القوات البحرية "الحركة البحرية التي تراقبها القوات البحرية بنحو 75 حالة يوميا، كمعدل وسطي، على طول الشاطىء اللبناني، علما ان حركة الملاحة تزيد او تقل بحسب الاحوال الجوية". قاعدتاها في بيروت وجونية ومراكزها البحرية المنتشرة من الناقورة جنوبا، وصولا الى القليعات شمالا تحقق المراقبة والمتابعة والتدقيق والتوجيه والملاحقة. وتتكامل مهمتها مع مهمة القوة البحرية الدولية في مراقبة الشاطىء اللبناني، من خلال خلية او غرفة عمليات بحرية تضم ضباطا دوليين ولبنانيين. وبحسب الاتفاقات، البحرية اللبنانية مكلفة المراقبة من 0 ميل الى 6 اميال من المياه الاقليمية، فيما تتولى القوة البحرية الدولية المراقبة من 6 اميال الى 12 ميلا، "من دون ان ينفي ذلك مسؤوليات القوات البحرية اللبنانية حتى 12 ميلا"، على ما يؤكد العميد ابي نصر.
مركب صنع في لبنان
بوادر مشجعة تلوح في الافق لجهة تعزيز القوات البحرية. وتتجسد بعد اشهر قليلة في مركب جديد، حربي "بكل معنى الكلمة"، لبناني الصنع، وتبنيه حاليا شركة لبنانية خاصة. النموذج الاول صنعته الشركة لمصلحة احدى الدول. "واكبنا كل مراحل تصنيعه. وعندما لمسنا ان هناك كفاية في الصناعة، اقترحنا الفكرة على قيادة الجيش". وكانت النتيجة: موافقة القيادة، والآن نموذج مماثل لمصلحة البحرية اللبنانية.
ومن المتوقع ان تتسلمه القوات البحرية بعد نحو ثلاثة اشهر. والمؤكد انه سيحمل، كما بقية زوارق القوات البحرية، اسم إحدى المدن اللبنانية. طرابلس، وجونيه، وبيروت، والدامور، وصور... مأخوذة. ولا تزال الاسماء المقترحة قيد البحث. ايا يكن، المركب الجديد يدعو قيادة القوات الى "الافتخار". "نحن سعداء به، ومتحمسون لكونه صنع في لبنان"، يؤكد العميد ابي نصر.
قبل نحو ثلاثة اعوام، احتفلت القوات البحرية بيوبيلها الذهبي. القوات البحرية تجوب البحر اللبناني من 53 عاما. في 23/9/1954، رُفع العلم اللبناني على اول مركب عسكري. كان فرنسي الصنع، وصنع خصيصا للبنان. وخلال كل هذه الاعوام، تجدد اسطول القوات البحرية مرات عدة. الاول كان يضم زوارق فرنسية الصنع. ثم جُدِّد عام 1985، ولاحقا في التسعينات، واخيرا مع الهبة الاماراتية بعد عدوان تموز 2006.
وبعد 34 عاما من الخدمة في البحرية، يؤمن العميد ابي نصر بان "الجيش هو عصبه وخشبة خلاصه". في الخارج، انتصف النهار، والبحر استراح عند رصيف القاعدة البحرية. الحياة البحرية لا تعرف الهدوء. هنا يعرف جنود البحرية جيدا اين ينامون ويعملون. بيتهم سكنته الامواج المتكسرة على الشاطىء.
تعليقات: