الانتخابات، بما تحمل من أمل بتطور المجتمعات سياسياً، وتعبيرها ديموقراطياً عن نفسها، وحسن تظهيرها لتنوعها، تصغر في لبنان إلى حدود صراع الديكة بين مجموعة من المراهنين الذين لا يرون أبعد من أنوفهم.
هؤلاء لديهم مفاهيم للديموقراطية ترى إلى الناس، كالعادة، بصفتها قطعاناً يفترض بالانتخابات أن تنظم مرورها إلى الحظائر، حيث تقدم راضية حليبها ولحمها وصوفها. ولا ترى في الناس جماعات لها مشيئة وحق اختيار من يمثلها، كما لها القدرة على محاسبته ومعاقبته.
بمثل هذه الذهنية، تتعاطى غالبية القوى السياسية في لبنان مع الانتخابات ومع الديموقراطية نفسها. مفردات مثل «الاصلاحات» و«النسبية» و«ذوو الاحتياجات الاضافية» لها وقع ثقيل على آذان شديدة المحافظة، وشديدة الحذر حين الاقتراب من الحلبة الاساسية للصراع، أي المجلس النيابي.
هنا، يعمل العقل السياسي اللبناني بمنطق الرعب من أي مجهول. ما لا يعرفه هذا العقل هو بالضرورة ضد مصالحه. والخطر لا يأتي إلا من التغيير. ولأن السياسة اللبنانية أقرب إلى العاب الخفة، فهم يمارسون كل انواع الألعاب، كي لا يقع اي شرخ في النظام القائم الذي جهدوا في نصبه، على علّاته، حامياً لوجودهم.
في صراعهم، يرفضون الاساس: الانتخابات ليست من أجلهم، بل من اجل المواطنين. والانتخابات يجب ان تبقى بعد انسلاخ السياسيين، طبقة بعد طبقة، عن الحياة العامة. ومع أنهم ليسوا غاية الانتخابات، فهم يقررون اشكالها ومضمونها واسلوبها، وهم غالباً ما يفسدون الشكل والمضمون معاً.
بعيداً عن صراع الديكة، ثمة نقاش حقيقي وممتد منذ سنوات حول الاصلاح الانتخابي، يخوضه ناشطون واكاديميون وسياسيون من خارج العلب الجاهزة. وهو نقاش ـ نشاط بشّر ببعض الخير سابقاً، وينبغي أن يبشّر به لاحقاً. نشاط فيه الكثير من العلوم السياسية والاجتماعية، يمضي على هامش الصراع السياسي، غير أنه يظل ارسخ وأعمق منه.
زياد بارود هو واحد من ابرز وجوه هذا النقاش. بات خبيرا محلّفاً في كل ما يتعلق بالانتخابات، ومرجعاً يذكر اسمه اول ما يذكر حين التطرق الى القانون والى الاصلاحات.
«الكاريزما» التي صنعت نجوميته، لا تعني أنه حالة فردية. هو واحد من مجموعة افراد وهيئات خاضوا ويخوضون في هذا الشأن منذ أعوام. ما يميز بارود أنه صار مقرراً حين صار وزيراً للداخلية اشرف على عملية انتخابية كانت الافضل حتى تاريخها.
لا شك أن بارود عنده كلام كثير، لكن لديه أسئلة أكثر.
المحامي الذي أتى الى وزارة الداخلية من المجتمع المدني، غارق في شجون الانتخابات منذ العام 1996على الاقل. يعود في بداية حوار «السفير» معه إلى استعادة ما يسميها «المرحلة المفصلية» في ذاك العام مع التأسيس الرسمي لـ«الجمعية اللبنانية لديموقراطية الانتخابات».
بعد سنة من تأسيسها، سجّلت «الجمعية» نجاحها الاول عبر حملة «بلدي بلدتي بلديتي». التف حولها الاعلام وطلاب جامعات وقادة رأي وغيرهم وجمعت مئة الف توقيع، واستطاعت ان تكون ظهراً داعماً لنواب تقدموا بطعن الى المجلس الدستوري الذي اصدر قراره بابطال قانون مدد للمجالس البلدية والاختيارية. وكان يمدد للانتخابات منذ عقود من دون اعتراض. أُلزمت الحكومة بانتخابات بلدية في العام 1998 وهي بداية جيدة».
وليس من قبيل الصدفة، كما يرى وزير الداخلية السابق، أن ثلاثة اعضاء مؤسسين في الجمعية عينوا لاحقاً في «الهيئة الوطنية لقانون الانتخاب» برئاسة الوزير السابق فؤاد بطرس وهم نواف سلام وبول سالم وبارود نفسه. مما سمح لهؤلاء بنقل كل ما عملوا من أجله إلى هيئة بهذا الحجم ووجد كل ما حكوا ورفاقهم فيه منذ العام 1996 طريقه الى مشروع قانون اصلاحي للانتخابات. وبحسب بارود، فإن قسما كبيراً مما خرجت به «الهيئة الوطنية» كان بفضل الحالة التي وجدت في العام 1996 والتي سمحت للتشريع في لبنان بأن يخرج من اللغة الخشبية ومن رتابة تقسيم الدوائر إلى الحكي في النسبية بتفاصيلها، حيث لديك تركيبة معقدة لا تستطيع ان تقدم لها نظاماً انتخابياً بسيطاً. وقد استفادت «هيئة بطرس» من التراكم على مستوى الثقافة الانتخابية وخرجت بما خرجت به، والذي سقط طبعاً».
يرصد بارود لـ«الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات» نجاحات واخفاقات. يقول إنها نجحت «في التغيير في الذهنيات الانتخابية وفي ادخال مفاهيم جديدة لم تكن متداولة ومعروفة ومفهومة لدى الناس ومنها النسبية وحقوق ذوي الاحتياجات الاضافية، والورقة المطبوعة سلفاً، والاعلام والانفاق الانتخابي، وغيرها».
لكن الجهد أخفق في الدفع في اتجاه تطبيق الاصلاحات بقوة لأن هذا الدفع يحتاج الى النزول الى الشارع. ولا يمكن ان تقوم باصلاح بالتمني، بل هو معركة لها ادوات وعدة شغل».
ما البديل عن النسبية؟
تعادي القوى السياسية اللبنانية النسبية. ولها اسبابها بالطبع. يقول بارود إن «النسبية منطق اصلاحي يحسّن تمثيل الجميع ولا سيما الاقليات السياسية، قبل الطائفية. وتسمح بادارة افضل للتنوع، وتشجع على قيام حالات لا نراها في النظام الاكثري على مستوى الترشح والاقتراع. حين تطبيق نظام نسبي، ستجد أناساً لم يترشحوا في النظام الاكثري يترشحون، واخرين لم يقترعوا سيقترعون. المشهد سيختلف تماماً. بهذا المعنى هي اصلاح من دون ان نحملها اكثر من ذلك. في المقابل، يتابع بارود، «قد يكون هناك اصلاح في النظام الاكثري شرط ان يكون خاضعاً لمعايير معينة. من يريد اصلاحا في النظام الاكثري عليه ان يفكّر بصحة التمثيل المباشر. السؤال هو هذا: من حق القوى ان تكون ضد النسبية، لكن ما بديلها؟ ليس عندها بديل اصلاحي حقيقي».
يتابع: «القادة السياسيون ينظرون الى قانون الانتخاب من زاوية تحصيل النتائج فحسب. ويقع البلد تالياً في حلقة مفرغة: من يقرّ القانون الانتخابي هو الذي يترشح على أساسه، وهذا يفضل ان تُحسم النتائج قبل اجراء الانتخابات اصلاً. في النسبية لا يمكن أن تُحسم النتائج مسبقاً. التحالفات تختلف، والاقليات حتى لو بلغت نسبتها العشرة في المئة تغير في النتائج وقد تعطي مقعداً لكتلة منافسة. المشهد ينقلب كلياً عن المعتاد. وهذا ما لا تريده القوى. هي تريد أن تُجرى الانتخابات في الدوحة (اتفاق الدوحة 2008) وتبقى بضعة مقاعد للانتخابات الفرعية» يقول متهكماً.
الاصلاحات تقنياً... وسياسياً
وما دام الخلل القائم، جيداً للمستفيدين منه، فلا أحد يفضل الاقلاع عن الخلل. يسوق بارود مثلاً عن الضراوة في معاندة الاصلاح، في ظاهره تقني وفي عمقه سياسي: ورقة الاقتراع المطبوعة سلفاً. من المفترض أن يكون مثل هذا الامر تفصيلاً، وحتى أنه بديهي. لكن...
عندما ناقش بارود قانون الانتخاب في مجلس النواب في تشرين الاول 2008 جلب معه 128 نموذجاً من هذه الاوراق المطبوعة سلفاً ووزعها على النواب. في الليلة نفسها، زاره نائبان من طرفين خصمين. كلاهما قال له إن المجلس لن يقر هذه الاوراق. وهذا ما حصل لاحقا.
لماذا؟ لأن ورقة الاقتراع تضبط التحكم بحركة التصويت. المندوبون لديهم لوائح لمتابعة الفرز، ويميزون بين اوراقهم التي يوزعونها على الناس وبين اللوائح الاخرى، من خلال الاسم الاول للمرشح أو نوع الخط وحجمه. يمكنهم دائماً معرفة نمط تصويت المقترعين خلال فرز الاصوات. وفي اقلام صغيرة، يمكنهم ان يعرفوا كل عائلة من انتخبت ومدى التزامها معهم أو ضدهم.
نحكي عن حركة تصويت في اقلام طائفية لا تتعدى 400 او 500 ناخب. واذا كان من السهل اكتشاف خيار الناخبين، فمن الاسهل، بالتالي مكافأتهم أو معاقبتهم او رشوتهم لاحقاً.
كم يؤثر غياب هذه التقنية المفترض انها بسيطة وعملية على الناخب نفسه وعلى حرية الانتخاب؟ كثيراً على ما يبدو. الى ذلك، فهناك 16 في المئة من اللبنانيين من الاميين. هؤلاء كيف سيكون لهم حرية الاختيار بعدم وجود صورة المرشح أو اللون الخاص بتحالف ما أو غيرها من الرموز التي تسمح للمقترع ان ينتقي مرشحيه او لائحته بنفسه من دون مساعدة أحد؟»، ما نظنه بسيطاً، هو في الحسابات اللبنانية شديد التعقيد.
تفصيل آخر اساسي يدل إلى الذهنية اللبنانية التي تحتاج إلى تعديل. يقول بارود إن «المادة 24 التي تحكي عن المناصفة بين المسيحيين والمسلمين هي غير ميثاقية. فماذا عن اليهود اللبنانيين وهؤلاء معهم بطاقة هوية لبنانية ولهم الحق بالتمثيل وهم غير ممثلين دستورياً والدستور يمنعهم من الترشح او الحصول على مقعد؟ وماذا عن اللاطائفيين الذين سمح لهم القانون بان يكونوا موجودين منذ العام 1936 ضمن خانة «طائفة القانون العادي». هؤلاء غير ممثلين بدورهم ويحق لهم ان يكونوا ممثلين، مهما كان عددهم».
على مستوى الذهنيات؟
يعوّل بارود على ما يسميه «خرقاً على مستوى الذهنيات». فالناس باتت تعرف اكثر. وهناك اجيال جديدة مهتمة وتتعلم وتتطور. لكن في مرحلة القرار الامر ليس عند الباحثين والناشطين ولا عند الناس بل عند القيادات السياسية، التي لا تريد انظمة غير قابلة للتحكم بها مسبقاً. هذا هو العائق الرئيسي برأيه.
في لبنان حالة ديموقراطية، وبرغم مساوئها ونواقصها، هذا البلد كان وحيداً بين ديكتاتوريات وكان لديه دائماً فرصة لتطوير حالته هذه. لكن المحاولات تصطدم في اللحظة الاخيرة بالمجموعات السياسية التي لا يناسبها أي تعديل. واليوم، وبينما النقاش مستعر حول القانون الانتخابي، فالدنيا ليست بخير على مستوى تحسينه. لا ينقصنا خبراء ولا قانونيين ولا مشاريع. لدينا كم هائل من المشاريع وكثير منها جيد ويمكن البناء عليه، لكننا بحاجة الى قرار سياسي يحسم هذا الموضوع. وهو موجود عند القوى السياسية ولا يبدو انها تريد اصلاحاً.
في المقابل: هل الناخب اللبناني مستعد للمحاسبة ولأن يرى من وعده ولم يف بوعده أم ليس مستعداً؟ اغلب الظن أن لا. لذا لا داع لبرنامج انتخابي لأنه ليس جيداً بيئياً. يطبع على أوراق ترمى لاحقا بلا جدوى»، يقول ويضحك.
تعليقات: