مزرعة إبن القليعة أبو شربل للأسماك تساعده رفيقة عمره \"سامية\"
المسافة بين مدينة النبطية ومزرعة طمرا على ضفة الليطاني لا تتعدى ربع الساعة من الوقت أو أقل، ربما يرتبط قياس المسافة بحماسة سائق السيارة وثقته بدواسة البنزين أو ربما بتوقه للتخلص من ضوضاء المدينة والإسراع في التفلت من ضغوطها، وفي الحالين تتبدى مزرعة طمرا لقاصديها في بطن الجبال التي تحتضنها من كل الجهات كما "تبدت لنا وسط الرصافة نخلة"، مرجة خضراء مترامية، حدودها أحراج صنوبر وحقول قمح وماء رقراق، تتبختر بينها قطعان ماشية ورعيان وبعض سطوح قرميدية، فيرتفع في النفس منسوب الحنين إلى أقصى حدوده، كالماء المتدفق في مجرى الليطاني هذه الأيام.
تحط السيارة من عل عند جسر الخردلي بحثا عن ممر يأخذ إلى قلب المزرعة، وفي الجو تصفق صقور تبحث عن صخرة تريح عليها أجنحتها من تعب البحث عن فريسة جديدة لهذا اليوم.
هناك إلى يسار الجسر ممر ترابي لم يصله زفت الحكومة بعد، رغم أن كل ما حوله "زفت" كما يشير الدليل، الطريق وعرة قد تضر بسيارتك "كرجيها على مهل" ينبهني الدليل، آخرها سوف تجدين ضالتك.
من المجحف وصف مزرعة "أبوشربل" بالضالة فهي وصاحبها أشهر من نار على رأس جبل، فقد شكلا سويا منذ أكثر من عشرين سنة معلما مهما من معالم المنطقة، التي لا تنقصها المعالم إنما العالمون بها والعاملون فيها.
"أبو شربل" العسكري العتيق الذي يخطو نحو السبعين بكثير من الظرافة واللطف خلافا لطبائع العسكريين، الذي تشع ملامحه شبابا، ويزيده شغفه بالماء والخضار حسنا، أخذ على عاتقه منذ أن سحب تقاعده من الجيش اللبناني، كما يقول، أن يقيم أول مزرعة للأسماك النهرية في منطقة النبطية، كان الحلم كبيرا في البداية ومازال - يقولها بتردد -، حقق جزءا بسيطا منه، ورغم الخيبات والعوائق التي حالت دون تحقيق البقية، لم يتخل عن الأمل، "العسكري إرادته صلبة هكذا تعلمت عندما كنت جنديا في الجيش، صحيح أني خلعت البدلة باكرا لكني ما زلت متدثرا بكل القيم التي تعلمتها هناك، لذلك ما زلت مستمرا".
مزرعة أبو شربل للأسماك النهرية هي المزرعة الأولى في منطقة النبطية التي تقوم على ضفة الليطاني، بناها أبو شربل حجرا حجرا واعتنى بأسماكها واحدة واحدة، رغم الإمكانيات المادية الضعيفة والمؤهلات المتواضعة والغياب التام لوزارة الزراعة، الجهة المعنية بهذا النوع من المشاريع الصغيرة الحجم، الكبيرة الهدف، ولأنها الوحيدة في المنطقة اشتهرت وذاع صيتها.
يتحدث "أبو شربل" دون توقف عن عذاباته في هذه المهنة التي اختارها لنفسه والتي يطلق عليها رسالته في الحياة، يسحب نفسا من الأركيلة أمامه، فتحاكي كركرتها كركرة مياه النهر إلى جانبه، ويروي: أخذت تعويضي من الجيش منذ عشرين عاما، كان الجنوب وبالتحديد بلدتي "القليعة" ما زال تحت الإحتلال، فرص العمل كانت ضئيلة، أو أنها كانت متوافرة لمن يهادن الإحتلال، من أجل لقمة العيش بالطبع، يزفر دخانه ويأخذ نفسا آخر ويتابع: كنا في الجنوب نعيش بين نارين، إما أن تكون متعاملا أو مهادنا، وإما أن يرمى بك في السجن، وفي أحسن الأحوال كان النزوح هو الخيار المتبقي مع كل ما يرافق هذا الخيار من "شرشحة"، لذلك قررت أن أبتعد عن كل هذه الأجواء، فاشتريت ببعض تعويضي قطعة الأرض هذه، وعزمت على إقامة مزرعة للأسماك النهرية، بنيت عددا من الأحواض وصرت أشتري البيوض والعلف من تجار في الهرمل، وشيئا فشيئا "قال لي الكريم خوذ"، كسبت في وقت قليل شهرة لا بأس بها، صارت مزرعتي مقصدا لمحبي وجبة السمك النهري، فتضاعفت أرباحي، لذلك وسعت مهنتي وقمت ببناء أحواض إضافية، ولم أعد أصعد إلى بلدتي إلا للضرورة، عائلتي انتقلت للعيش معي هنا، حيث بنيت أيضا بيتا متواضعا، أبعدنا كلنا عما كان يجري "فوق".
بعد التحرير، "عادت الدولة" إلى هذه المنطقة، وكانت أول مكافأة تلقيتها من دولتنا الكريمة، تهديم كل ما بنيته، البيت الصغير وبعض أحواض السمك بحجة التعدي على الأملاك النهرية! يضيف "أبو شربل": لست ضد هذا القرار بشرط أن يشمل الجميع، هدموا مزرعتي وبيتي الصغير، في الوقت الذي تغاضوا فيه عن مخالفات أشد تعديا، يبتسم ويكمل: عدت واستجمعت قواي وتجاوزت هذه المحنة، وانطلقت مجددا تساعدني رفيقة عمري "سامية" وأولادي الأربعة، إلى أن حل شهر تموز 2006، فتدمرت المزرعة بالكامل، لن أقول إني كنت مغبونا بالتعويضات، فهذا حال الجنوبيين الذين لا سند لهم، وأنا منهم، على أي حال، مرة أخرى كنت بعد تموز على موعد مع بداية جديدة، أتمنى أن تكون الأخيرة.
اليوم تضم مزرعة "أبو شربل" ستة أحواض أو برك إسمنتية لتربية الأسماك النهرية أو الترويت، من نوع قوس قزح، وحاضنة للبيوض المستوردة من إيطاليا، وغرفة جانبية للعلف، يوزع "أبو شربل" الأسماك في الأحواض تبعا لأحجامها وأوزانها، وفي مقدمة كل حوض يضع مصفاة منعا لخروج الأسماك المستزرعة باتجاه النهر أو دخول أسماك نهرية غريبة، وكذلك لتنقية مياه البرك من الشوائب والأوساخ، وفي مواسم تساقط أوراق الشجر أو حين تجن الرياح، تلتصق الأوراق بفتحات المصافي فيضطر إلى النزول إلى داخل البرك لتنظيفها يدويا، خشية انخفاض نسبة الأوكسجين في الماء وارتفاع حرارته ما يتسبب بموت الأسماك، أما البيوض التي يصل 30% منها تالفا بعد الشراء، فيضعها في الحاضنة بدايات الشهر الأول من السنة، على درجة حرارة معدلة ما بين 6 إلى 10، وتكون جاهزة في أوائل آذار للعيش في محيطها الجديد، وهناك تبدأ رحلة إطعامها، فتسمن ويزداد وزنها ليصل إلى الوزن التسويقي المناسب.
هذا كله "مقدور عليه" توضح "أم شربل"، لكن ما هو غير "مقدور عليه" برأيها، هو الرمل الذي تحمله المياه من المرملة القريبة من مجرى النهر، حيث تتجند العائلة كلها ليل نهار، حين يقوم عمال المرملة بغسل الرمل ورمي فضلاته في المياه الجارية، ليتسلل عبر المصافي إلى برك الأسماك، ما يؤدي إلى موت معظمها في غضون ساعات.
على مدخل المزرعة إرتأت "أم شربل" إقامة مطعم صغير، تقتصر موائده على تقديم السمك النهري كوجبة أساسية، وهي تسمح للزبون باختيار سمكته بنفسه، وتحضرها له مشبعة بالتوابل والحامض إلى جانب بعض المازات اللبنانية الشهيرة، إضافة إلى كل ذلك يشغل المزرعة مولد يعمل على توليد الطاقة الكهربائية من الماء، كما أن أفراد العائلة يعتبرون مجرى النهر امتدادا لمساحة اهتمامهم، حيث يعملون يوميا على تنظيفه وما يعلق على ضفتيه من الأتربة والأوساخ والرمول والنفايات التي يخلفها المتنزهون، فيبدو كأنه خارج الخريطة المائية في لبنان.
مزرعة إبن القليعة أبو شربل للأسماك على الليطاني..تعاند الخيبات
تعليقات: