لم يبنِ درويش ملجأً يحميه من مجزرة ثانية (حسن بحسون)
لم تمرّ ساعات على خطاب السيّد حسن نصر الله في يوم القدس، الذي أعلن فيه عما تستطيع المقاومة الوصول إليه في إسرائيل، حتى أعلنت الأخيرة اتخاذ تدابير احترازية تحسّباً للحرب المقبلة. من شقّ طريق يسلكها مستوطنو المطلة عند هروبهم، إلى تشييد أكبر ملجأ محصّن في حيفا. هذا بالنسبة إلى العدو. ماذا عن خطة الطوارئ اللبنانية وتحضيرات الجنوبيين؟
قبل عامين، صدر كتاب «ملاجئ جمهورية الخوف» الذي يكشف أسرار الملاجئ والأنفاق التي شيّدها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خلال الحروب التي خاضها منذ الثمانينيات. سلسلة من الأنفاق والملاجئ، شيّدت، بطبقات متعددة تحت الأرض وبطول عشرات الكيلومترات، محمية بطبقات من الاسفلت والفولاذ وأبواب مقاومة للانفجار وقادرة على تحمّل درجات عالية من الحرارة.
قد يرفض الكثيرون في جنوب لبنان استعارة «ملاجئ جمهورية الخوف»، لأننا «شعب لا يخاف ونقبل على الموت بأقدامنا». لكن، وبالنظر إلى المجازر التي ارتكبها الإسرائيليون خلال عدوان تموز 2006، يمكن القول إن الملاجئ فيما لو توافرت، لكانت أنقذت أرواح عشرات الشهداء المدنيين الذين سقطوا تحت أنقاض مبان سكنية استهدفتها غارات الطائرات الحربية.
شهداء مجازر صريفا وسلعا والحوش والحلوسية ومبنى الدفاع المدني في صور ومجمّع الإمام الحسن في الضاحية الجنوبية والبرج الشمالي وبافليه وياطر ودير قانون النهر وقانا الثانية ومعروب والنبطية وعبا والدوير والنميرية وأنصار وكفرتبنيت والنبي شيت وبريتال وعين عرب ومعربون والشميس في شحيم واللويزة والغسانية والغازية والشياح وعيترون وحداثا ويارون وعيناتا وبنت جبيل والطيبة وحولا إلخ. جميعها كان مسرحها منازل وأبنية سكنية تجمّع أصحابها والجيران والأقارب في طبقاتها الأولى، ظناً منهم أنهم يتقون شر القصف. انتهى عدوان تموز بانتصار المقاومة والشعب والجيش. انكبّ الناس على إعادة إعمار ما تهدّم على رؤوس بعض عائلاتهم. ورشة الخروج من تحت الأنقاض بسرعة قياسية، شكلت حينها هزيمة أخرى للعدو. اليوم وبعد ست سنوات، محيت آثار العدوان من البلدات الجنوبية. «بدل البيت طلع بيوت» أجمل مما كانت، يقول الجنوبيون بفخر. لكنهم يعترفون بأنها ليست أكثر أماناً مما كانت، ولا تساهم في تخفيف الخسائر التي قد تنجم عن أعمال القصف في الحرب المقبلة التي يلوّح بها العدو الإسرائيلي في كل حين.
من المجازر الأولى التي دشنت العدوان، زبقين حيث قضى ثلاثة عشر شهيداً من نساء وأطفال وشبان من آل بزيع تحت أنقاض ثلاث طبقات سكنية في يومه الثاني. العائلة، كسائر الجنوبيين، «خرجت من الموت منتصرة، أهلها يحبون الحياة. فشيّدوا مبنى بديلاً مما تهدم» يخبرنا مختار البلدة رائف بزيع في اتصال هاتفي. وبرفقته، زرنا مكان المجزرة. فوجدنا أن درويش بزيع، الذي فقد والدته وزوجته وشقيقته وبناتها الثلاث وزوجة أخيه وثلاثة من أولادها وابن شقيقه وخالته وجارته، ابتعد عن المكان لأمتار عدة حيث أعاد بناء منزل العائلة، فيما استحدث على أنقاض المبنى المهدّم حوض زهور ونصباً للشهداء يخلد ذكراهم وصورهم.
هل شيد ملجأ في البيت الجديد لتجنب سقوط ضحايا، فيما لو تعرض ثانية للقصف؟ يستغرب درويش السؤال، من دون أن يتنبه إلى أنه تناسى القيام بأمر مهم ربما. يحكي بأن «صواريخ البوارج الإسرائيلية التي استهدفت المنزل الذي احتمى الشهداء في طبقته الأولى قلعته من جذوره. جدرانه تطايرت كالريش في الهواء، وحجارته تحولت إلى تراب ناعم وأصبح مكانه حفرة بعمق أكثر من اثني عشر متراً. لذلك، فإن المنزل وإن كان قد احتوى على ملجأ، فإنه لم يفلت من قوة الصواريخ المستخدمة».
البقع الخضراء على وجه الرجل لا تزال شاهدة على المجزرة. لون يميل إلى الزيتي يختلط بجلده ناجم عن المواد السامة التي عصفت بالحي عند سقوطها. لا يندم لأنه لم يستحدث ملجأ، فهو لا يؤمن بجدواه أمام أنواع الصواريخ التي يستخدمها العدو الذي يقصد استهداف المدنيين ومنازلهم. هذا فضلاً عن أن التعويضات التي قدرتها له الحكومة كتعويض عن هدم المنزل، لم تكف لإعادة بنائه كما كان. وهنا، يدلنا على المنزل الجديد ذي الطبقة الواحدة الذي لم يتمكن حتى الآن من إنجازه بالكامل.
«نظرية» يؤكدها المختار بوقائع حدثت إبان العدوان في البلدة. فقد احتمى ثلاثة مقاومين داخل قبو قديم مبني من الحجر الصخري ويرتفع سقفه فوق قناطر معقودة صمدت لعقود طويلة أمام الزمن والاعتداءات الإسرائيلية المتعاقبة على زبقين منذ الستينيات. ظن الشباب أنه مكان آمن، إذ لم يتضرر من القصف العنيف الذي طال الحي السكني في محيطه. لكن قصفاً صاروخياً أصابه إصابة مباشرة، حوله إلى ركام استشهد تحته المقاومون.
فكّر البعض بالاحتماء في المغاور المنتشرة في الأودية والأحراج المحيطة بالبلدة، لكنها أيضاً لم تكن عصية على أنواع الصواريخ المستخدمة. يشير المختار إلى أن الطائرات استهدفت «شالوق» صخر يقع عند مدخل مغارة رصدت فيها حركة. استمرت الطائرات في إلقاء الصواريخ على المكان حتى دمرته، كما أصابت المغارة من الداخل ودمرتها.
استطلعنا رأي المهندس شريف بيطار، رئيس لجنة التخطيط والتصميم في بلدية صور، وأحد أفراد الفريق الهندسي في مشروع «وعد» الذي أعاد إعمار ما هدم في صور. برأيه «لا يجوز المقارنة بين التدابير الاحترازية التي تتخذها إسرائيل وتلك التي يتخذها الجنوبيون. فالملاجئ ومواجهة الكوارث من رفع الأنقاض إلى التموين والإسعاف الطبي، هي تدابير تتخذها الدولة بكل أجهزتها لا المواطنون». ويلفت إلى أن مبنى الدفاع المدني الذي شهد المجزرة في صور، لم يستحدث ملجأ في نسخته الجديدة، على الرغم من حداثته وتكلفته العالية. حتى إن الأبنية التي أعادت «وعد» بناءها لم تشمل بناء ملاجئ، بل لحظت مواقف للسيارات ومستودعات.
بيطار، الذي يشير إلى أن الملاجئ لن تصمد أمام الصواريخ الحديثة القادرة على اختراق الأرض بعمق عشرات الأمتار، يقرّ في المقابل بإمكان توافر ملاجئ محصّنة، «لكن بكلفة عالية جداً وتقنيات علمية غير موجودة في لبنان، علماً بأن كلاً من اتحاد بلديات قضاء صور، بالتعاون مع وكالة التنمية السويسرية وبلدية صور، قد وضعا خططاً لمواجهة الكوارث الطبيعية والحروب، لا تزال تحتاج إلى إمكانيات كبيرة لتطبيقها». في المقابل، يلفت بيطار إلى أن الملاجئ قد تتحول إلى مقابر جماعية، في إشارة إلى أن المجازر التي حصدت عدداً كبيراً، كان ضحاياها يختبئون في مكان واحد.
إذاً، يكاد يسود إجماع على صعوبة إقرار الحكومة بناء ملاجئ لاعتبارات عدة، منها الكلفة العالية وقدرة الأسلحة المستخدمة إسرائيلياً على الاختراق والحرق والنسف. حتى إن التشريع اللبناني الخاص بالدفاع المدني جعله إجبارياً في المباني الرسمية، و«اختيارياً» في المباني والمنازل، متيحاً للقطاع الخاص إمكان استخدام الملاجئ في استعمالات أخرى كمواقف ومستودعات، علماً بأن الملجأ ليس متوافراً في الكثير من مؤسسات القطاع الخاص بحسب التشريع. وإن كان كذلك، فلماذا لم تشكل تلك المؤسسات مقصداً آمناً وكافياً للساكنين في محيطها تغنيهم عن النزوح خلال الاعتداءات والاجتياحات الإسرائيلية المتعاقبة منذ ما قبل عام 1948؟
الاستراتيجية الدفاعية
تحوّلت الاستراتيجية الدفاعية إلى شعار المرحلة لاعتبار قسم من اللبنانيين أنها خطة المواجهة لعدوان إسرائيلي جديد. لكن جلسات الحوار المتعاقبة وتصريحات المنظرين لها، لم تلحظ استحداث ملاجئ يختبئ فيها اللبنانيون من مرمى الصواريخ الإسرائيلية، علماً بأن مجلس الجنوب في السبعينيات دفع مبالغ مالية ليشيد المتضررون من القصف ملاجئ تحت بيوتهم، فيما بنت فصائل المقاومة الفلسطينية ملاجئ وأنفاقاً في الأماكن التي انتشرت فيها في الجنوب وسواه. أما الجيش اللبناني، فقد كانت له مخابئه في نقاط انتشاره في الجنوب قبل الاجتياح الإسرائيلي. أما الطريقة الأمثل التي يستخدمها الجيش أحياناً، على غرار جيوش عدة في العالم، فهي الحفر الفردية البدائية التي نجا بفضلها عشرات الجنود عند استهداف مقارهم، ومنها فوج الأشغال. تلك الملاجئ التي بنيت سابقاً، كانت قادرة على تحمل القذائف المدفعية، لا الصواريخ المتطورة. من هنا، لم يجدها الكثيرون ملجأ آمناً خلال عدوان تموز، فضلاً عن أن الكثير منها قد استغنى عنه الناس إمام بالهدم أو باستخدامه للتخزين أو تحويله إلى موقف للسيارات.
تعليقات: