من مسلسل \"الغالبون\"
لم تكن ظروفي تسمح لي بمتابعة مسلسل "الغالبون"، رغم شوقي الكبير إلى ذلك، كون هذا المسلسل يؤرّخ لمرحلة عايشتها سنوات طوالا.
ثم استُفزّ حسّيَ النقديّ أثناء حديث شخصي مع زميل استغرب فيه الكيفية التي يجسّد فيها هذا المسلسل شخصية العميل "الجلبوط"، الذي اضطُرّ هذا الزميل لمعايشته، بحكم الجيرة، تحت الاحتلال في مدينة بنت جبيل. وركّز حديثه على لحية "الجلبوط" التي كادت تتفوّق شهرةً على صيت صاحبها، فهي: "مميّزة وطويلة بحيث تلامس بطن "الجلبوط" بينما يصوّرها "الغالبون" لحية عادية لا تكاد تبتعد عن وجه حاملها"!
هذه الملاحظة دفعتني إلى اقتناص بعض المشاهد من إحدى الحلقات وفوجئت بمشهد أحد المعتقلين محتضناً صورة عائلته، ويبكي فوقها، وهو مستلقٍ على سريره!
وتابعت حلقة أخرى، تناولت وفاة الإمام الخميني (العام 1989)، وهي المرحلة التي كنت معتقلاً أثناءها في معتقل الخيام. ويُرينا المسلسل حال الحزن التي أصابت المعتقلين داخل زنزانتهم التي تحوي عدداً من الأسرّة، وفي الحال تذكّرت واقع المعتقل حينها، مقارنة بالصورة التي ينقلها "الغالبون".
فبالنسبة للمشهد الاول، وعلى حد اطلاعي، لم يكن اي معتقل يمتلك صورة أو وثيقة. فالمُتّبع حينها كان "قبضة حديد"، إن صحّ التعبير. فما أن يتخطى المعتقل الجديد البوابة الرئيسية للمبنى حتى يتمّ تفتيشه بدقة، ويُصادر كل ما يحمله من أغراض وحاجات شخصية، توضع في "الأمانات" كي يتسلمها في حال الإفراج عنه.
وفي تلك الفترة لم يكن التواصل مع الأهل مسموحاً، لا مباشرة ولا عبر الصليب الأحمر، ما يعني أنّ إمكانية إدخال حاجات جديدة إلى المعتقلين كان معدوما.
ومن ناحية أخرى فإن السجّانين كانوا يُجرون مداهمات دورية للزنازين بغية تفتيشها ومصادرة ما يعتبرونه ممنوعاً من داخلها، وبعضها أشياء قد لا تخطر على البال (كالشريطة التي تُربط بها أكياس الخبز، أو ما يصنعه المعتقلون من أشغال ومسابح، أو من ألعاب، كالداما والشطرنج... إلخ) فكيف هي الحال بالنسبة للصور العائلية؟!
أما ما يُظهره المسلسل من سعة "غرف" المعتقل ووجود أسرة فيها فهو أمر مخالف لواقع الفترة المذكورة آنفاً، فحينها كانت "الغرف" عبارة عن زنازين لا تتجاوز أبعادها المترين أو المترين ونصف المتر طولاً وعرضاً، هذا بالنسبة للزنازين الجماعية. أما الإفراديّة فطولها في حدود المتر، وعرضها نصف المتر، وفي أحسن الأحوال متر. وكان المعتقلون ينامون على الفرش الإسفنجية على الأرض مباشرة.
واستمرت الحال كذلك حتى العام 1995، حين تمكّن الصليب الأحمر من دخول المعتقل للمرة الأولى. يومذاك دخل المعتقل في مرحلة جديدة لا سابق له بها، بحيث فُتحت زنازين عدة على بعضها (2 أو 3)، وأُلحقت بها زنزانة إضافيّة بمثابة حمام ومطبخ. ولا تزال آثار الجدران المُزالة واضحة في أرضيّات الغرف التي غدت "قاووشاً"، كما أسماها المعتقلون.وبعدها أُدخلت الأسرّة إلى تلك الغرف للمرة الأولى.
وأصبح تبادل الحاجيّات ممكناً بين المعتقل وأهله، سواءً مباشرة عبر الزيارات التي كانت تتم كلّ فترة أو عبر الصليب الأحمر.
وهنا لا يستطيع المرء إلا أن يعبّر عن دهشته لهذه الأخطاء التي وقع فيها منتجومسلسل بهذه الضخامة. فكان حريًّا بهم، مثلاً، أن يجروا عدداً من المقابلات مع المعتقلين السابقين كي يتعرفوا إلى واقع المعتقل وظروف الاعتقال والمراحل التي عرفها المعتقل منذ تأسيسه عام 1985 وحتى تحريره عام 2000. ثم بعدها يستطيعون مراقبة أرضية "القاووش" لتحديد مساحة الزنازين، تبعاً لكلّ مرحلة، كي يأتي السيناريو والديكور متوافقين مع الواقع الذي يسعى "الغالبون" إلى نقله وتوثيقه بدقة وأمانة.
* جلال شريم (معتقل سابق، ومؤلف كتاب "إرادات وقيود ـ دراسة انتروبولوجية في معتقل الخيام").
تعليقات: