الصحافيون في استراحة صور العام الماضي (م.ع.م)
صور:
جلس السائقان، اللبناني والفلسطيني، عند طرف الشرفة الدائرية. أمامهما امتد شاطئ صور هادئاً في الليلة ما قبل الأخيرة من الحرب. حيث هما، كان يمكن رؤية البقية الباقية من الشاطئ اللبناني، وصولاً الى الناقورة.
على شرفة «استراحة صور»، الشرفة الأشهر في تاريخ الحروب اللبنانية، كان الرجلان يصبّان من زجاجة عصير، في كأسين بلاستيكيين، ويسكي صافية لا يكسرها ماء. يسكران. يحكيان بلهجة امتزجت فيها اللهجتان، اللبنانية والفلسطينية. يتبادلان قصصاً مضحكة عن الصيادين. يعيدان، مرة بعد مرة، التسجيل المحفوظ على الخلوي لـ«فيصل» الفلسطيني الذي «يتصل بالإذاعة» ليغني ثم يبدأ بشتم المذيع. تسجيل أدّاه شابان مجهولان وبلغ شعبية هائلة. كانا يسعلان لكثرة الضحك. ويضحك المحيطون بهما، هؤلاء الذين يؤيدون دور المتفرجين.
يلقي الشاب الفلسطيني النكتة تلو الأخرى. يقول إن شاباً انطلق بسيارته الـ«بي أم 323 بخاخ» ناهباً كورنيش صور. .130 .100 .90 .80 وصلت السيارة الى أقصى سرعتها. في هذه اللحظة الفخورة من حياة السائق، يتجاوزه شاب راكضاً على قدميه. صرخ سائق البي أم فيه: «ولك شو هادا.. ولك إيش مالك؟» أجابه الراكض: «هربان من الفقر، جايي ورايي(...)».
النكتة الغنية بإضافاتها البذيئة التي لن تكتب هنا، جعلت الضحك هستيرياً. على هذا سيستمر الحال حتى الثانية ليلاً. في تلك الأمسية، احتل الرجلان «الصوريان» شرفة النقل المباشر، بينما غادر المراسلون ومعظم مصوري الوكالات وعشرات التقنيين الى غرفهم، أو الى باحات تجمعهم أمام الغرف. العرب منهم يدخنون الأركيلة في جماعات، والأجانب يشربون البيرة.
هذان السائقان لم يظهرا على قناة تلفزيون. هما هنا لأنهما، وغيرهما الكثير، هاربان من الفقر الى هذه الفرصة، فرصة أن تكون سائقاً لصحافي أجنبي بحاجة الى دليل يقود سيارته المستأجرة. البدل أيام الحرب كان سخياً. مئة دولار في اليوم وصعوداً، وصولاً الى مئتي دولار. اللغة ليست عائقاً كبيراً. يكفي التلويح بالأيدي وبعض المساعدة ممن يعرف. ومع الوقت، يصير الاتصال أسهل بين الطرفين، الأجنبي والصوري. لكنه يقتصر على أقل المطلوب. الاختلاط «الثقافي» هنا شبه مستحيل.
[[[
الشرفة الشهيرة، ومعها الاستراحة، كانت النقطة الأشد أماناً في حرب تموز. هي نقطة إعلامية محرمة على إسرائيل، تعجّ بمراسلي الوكالات الأجنبية عجّاً، وغالباً ما كان فيها عناصر القوات الدولية. على هذا، كانت حصناً لجأ اليه نازحون من قرى عديدة، فتحت لهم الاستراحة صالة الأعراس العملاقة فيها. أما الغرف، فكانت محجوزة برمتها، وبأسعار خيالية، للمراسلين والمصورين وجيش التقنيين والسائقين المرافق.
حين وصل «كيش»، الصحافي الكوري الجنوبي في الأيام الأخيرة من الحرب، لم يجد إلا غرفة الغسيل لينام فيها لقاء ثلاثين دولاراً لليلة. غيره، المصري، استأجر غرفة مكتب لقاء بدل مماثل. أما الثالث، فأحاط بضع كنبات تتخذ شكل المربع بحبل، وعلق عليه ورقة كتب عليها: «هذا المكان مستأجر». الكنبات هي أحد زوايا الجلوس في بهو الفندق. الاستراحة كانت مرغوبة، والمستفيدون من هذه الإيجارات الجانبية الغريبة، كانوا مجموعة من الشبان الذين أداروا أمور الفندق في غياب إدارته الأصلية. لم يردّوا سائلاً، ولم يفوتوا الفرصة. مصالح متبادلة.
استراحة صور كانت ملآنة عن بكرة ابيها بالناس. صور لم تكن كذلك.
كانت قد فرغت في الأيام العشرة الأخيرة. ومع حظر التجول، لم يعد يسير في شوارعها إلا سيارات متسخة يلتصق على سقفها وكل جوانب هياكلها الحرفان الأثيران: TV. الى هذه السيارات، كانت سيارات الصليب الأحمر الدولي واللبناني ومنظمة أطباء بلا حدود وشاحنات قوات الأمم المتحدة، وسيارة إسعاف متهالكة يقودها عنصر الدفاع المدني سلام ضاهر، أو أحد رفيقيه، فادي وحسن.
هؤلاء الثلاثة ظلوا حتى اليوم الأخير من الحرب في المدينة أشد المساعدين نشاطاً. هم أوّل من يجلبون خبر وصول جرحى الى مستشفى جبل عامل، أو قتلى الى الشاحنة البراد في مستشفى صور الحكومي. وهم كانوا دائماً أوّل الواصلين الى المكان الذي نعفته للتو غارة إسرائيلية.
فتحت المدينة خلاء شوارعها للمراسلين. الأجانب لا يخرجون من «الاستراحة» إلا بكامل العتاد. الخوذة والدرع الزرقاوان وآلات التصوير. يتجولون مشاة في الشوارع. تنظر إليهم السيدة التي تكنس مدخل الدار بحياد وتجهد كي تقمع ابتسامتها الساخرة. المراسلون اللبنانيون تخففوا من هذا الثقل في خروجهم العادي. مثل هذا التجول يكون في حالات الاسترخاء. في أحيان أخرى، حين يسري خبر وصول جريح الى مستشفى جبل عامل، تتسابق السيارات في خروج محموم من الاستراحة الى المستشفى، في دقيقتين يصل الصحافيون ويترجلون متحمسين، ثم يُحبطون لأن لا خبر هنا. فجأة بالكاد تلمح أبصارهم سيارة الدفاع المدني تنهب الأرض. العارف فيهم يعلم انها ذاهبة نحو المستشفى الحكومي. تقع المطاردة. وفي لحظة تجد المصورين يحيطون بجثة مسحوقة. حين ترفع الى البراد، يغادرون. يعودون الى موقعهم في الفندق. على بعد أمتار منهم، تكون حياة كاملة تضج في مخيم البص. حياة فلسطينية قديمة وأخرى لبنانية نازحة في المدراس، لم تكن خبراً كبيراً هنا. فالصورة التي كان مصورو الوكالات ينتظرونها ليلاً نهاراً على الشرفة، كانت للدخان المتصاعد من التلال البعيدة أمام الشرفة، وللدمار، وللجثث.
[[[
ما لا ترصده الكاميرات في الحرب، هو ببساطة، غير موجود. الآلة الإعلامية الهائلة في الاستراحة لم تر مدينة صور تماماً. ومع ان هذا النص لا يدّعي أنه يفهم عميقاً هذه المدينة، إلا أن انطباعه الأول والأخير عنها هو أن صور بالغة الجاذبية: عتقها. بحرها وميناؤها. اللهجة الخاصة بأهلها فقط. فلسطينيتها ومسيحيتها وشيعتها وسنتها. تنوعها السياسي الشديد. تحررها وتسامحها المديني الذي تفتقدهما مدن ساحلية أخرى.
من السهل الوقوع في عشق مدينة مثل صور، أو ربما ينبغي قلب العبارة: من المستحيل عدم الوقوع في عشق صور، حتى في أيام الحرب.
في الشوارع الخالية خلال أيام قصيرة كثيفة، دانت المدينة لغربائها. يمشون بثقة في منتصف طرقاتها ويسرعون بسياراتهم فيها ويركنون حيث يشاؤون. تكبر الإلفة بين ابن المدينة الذي لم يتركها وبين المارّ على رصيف محله التجاري. يصير عدم إلقاء التحية عيباً، ولا بد في المقابل من الدعوة الى الجلوس وشرب القهوة. تصير صور فجأة قرية صغيرة تريح الغريب عنها كثيراً. هذا شعور بالانتماء واهم ومؤقت.
الشابان اللذان أدارا مطعم «شواطينا» في الحرب صارا صديقين منذ نصف الساعة الأولى للجلوس في المطعم. لا هما كانا نادلاً وطباخاً، ولا الضيوف كانوا زبائن كما الصورة المحفوظة عن الزبون. الخفة تحكم مثل هذه العلاقات في الحرب فتوحي بوهم الإلفة العتيقة مع الأمكنة. بعد أسبوع من نهاية الحرب، كان المطعم قد عاد مطعماً أنيقاً بموظفين كثر يرتدون الزي الرسمي ويستقبلون الزبائن المجهولين بالابتسامة التي يوجبها عملهم. يتعاملون معهم كزبائن، والعكس صحيح. تختفي في لحظة كل تلك الإلفة. أما الصديقان، فهما في عطلة يستحقانها، بعد تلك الحرب. العلاقة التي بنيت مع المكان اختفت ما إن عاد الناس اليه.
في «الاستراحة»، كان «ماهر» يذرع الأروقة ملوحاً بذراعيه الطويلتين النحيلتين بثقة هائلة. كل من نزل الاستراحة في الحرب يتذكر هذا الشاب الفلسطيني النشيط الذي وجد نفسه فجأة واحداً من أكثر الناس أهمية في الفندق، يلجأ اليه الجميع لحل مشكلاتهم. بنى صداقات لا تحصى. بعد الحرب اختفى من الاستراحة. حلّ محله متخرج جامعي أنيق يدير العلاقات العامة. يستقبل الزوّار بتهذيب بالغ، يدعوهم الى تناول القهوة على الكراسي نفسها التي كانت في الحرب غرفة لصحافي. وتأتي فناجين القهوة من الزاوية المخصصة للمشروبات الروحية في آخر الرواق، حيث يقف نادل أمام منصة مليئة بقناني المشروبات الروحية.
في تلك الزاوية، كان يجلس يومياً بضعة رجال متعرقين، يحدقون في شاشة بيضاء وسوداء لتلفزيون صغير، يتابعون الأخبار، وينتظرون يوم عودتهم وأولادهم الى قراهم التي نزحوا منها.
في صباح 14 آب، فتحت المياه على أدراج الفندق بعد غياب طويل. خرج شاب من غرفة الغسيل يرتدي قفازين. كان يرفع ساعديه عالياً ويميلهما يساراً ويميناً على وقع عباراته. يقول إنه عاد ومن الآن سيرجع المكان الى عادته، يبرق برقاً، لأنه «يعبد النظافة». لوهلة، بدا الشاب طارئاً على الاستراحة. لكنه، وصور كلها، هم أبناء المكان وأصحابه. نحن كنا الطارئين. وعدنا عند الثامنة صباح الرابع عشر من آب، غرباء هذه المدينة. لا يعرفنا فيها أحد.
[[[
عادت صور الى صور في الصباح عينه. ازدحمت طرقاتها بالسيارات. بدا كأنما لا حرب مرت من هنا. سوقها امتلأت بالبشر وبات تبادل التحية عملاً غبياً. انتفى الوهم بملكية المكان. في آب من العام الفائت، على بعد مئات الأمتار من الشرفة، كان الإسبان يحطّون رحالهم وعناصر الجيش اللبناني يفصلون بينهم وبين مرتادي الشاطئ الشعبي الذي تصطف عليه الأكشاك الخشبية. سنة كاملة مرّت. «يو أن» وشركات تنقيب عن الألغام وكل من هبّ ودبّ في جنوب الليطاني. صور هي العاصمة السياسية والاقتصادية لهذا الجنوب. ارتفعت أسعار شققها إيجاراً أو بيعاً. ارتفع ثمن السياحة فيها. غير أنها تليق بالسياحة. في هذا الصيف، يمتلئ شاطئها بالبشر وتسهر كل ليلة حتى الصباح. على الشاطئ الشعبي يجلس عصراً أحد أبنائها. الدكتور علي أبو خليل، أحد أشهر الجراحين فيها. يحكي بصوت خافت، بأناقة طبيب وبلغة مثقف. يحكي عن تاريخ المدينة وعائلاتها. يحكي بحب معدٍ. يخبر عن تناقضاتها وجمال العلاقة بها. يقول إنها تحوي كل عائلات لبنان. يلخصها بعبارة واحدة تعنيه: «أنا من مجانين صور».
لا مبالغة في ما يقول. هذه واحدة من المدن التي تأسر.. كبيروت. يمكن لغربائها الذوبان فيها بسرعة في سلامها، كما في حربها.
[[[
في طريق العودة الى بيروت، يظهر عند الجهة الأخرى من الجادة، الشاب الفلسطيني الذي سهر تلك الليلة على الشرفة. يقود سيارة برّاقة جديدة. يقود متمهلاً. كان يمكن مناداته، لو اننا ما زلنا نذكر اسمه، إذا كنا قد عرفنا اسمه أصلاً في تلك الليلة على الشرفة التي جمعت، ذات حرب، غرباء العالم.
ميناء صور القديم خلال الحرب (علي علوش)
تعليقات: