عناصر من الشرطة البريطانية يفتشون حديقة منزل سعد الحلي في جنوب شرق بريطانيا امس (ا ف ب)
رصاصتان في رأس سعد الحلي. رصاصتان في رأس زوجته إقبال، ورصاصتان لوالدتها السويدية. زينب سعد الحلي في عامها السابع حطم القاتل عظام جمجمتها، تتأرجح بين الحياة والموت. زينة، ذات الأعوام الأربعة، اندست بجسمها الضئيل تحت المقعد الخلفي بين قدمي أمها القتيلة فنجت، وهو ما لم يقيض لدراج فرنسي عابر لحظة القتل، فاخترقت رصاصتان قاتلتان رأسه، ليصمت إلى الأبد عن مشهد ساقته إليه صدفة مشؤومة.
مقتلة الألب الفرنسية التي حصدت عائلة العراقي - البريطاني سعد الحلي، تحولت إلى قضية الإعلام الفرنسي - البريطاني الأولى، منذ أن تمالكت زينب نفسها وخرجت من احتضار لتعترض سبيل دراج بريطاني عابر في المكان، وتستنجد بما وجدت من كلمات أخيرة، قبل أن تهوي في غيبوبة لم تخرج منها منذ أسبوع. وتبحث فرنسا كلها عن سيارات دفع رباعي سوداء اللون، قالت شاهدة إنها لمحتها في المكان قبل أن تتجاوزها وتغيب عن أنظارها دقائق سبقت اكتشاف الضحايا في سيارة العائلة.
وكثفت عراقية الضحايا ستائر اللغز. ففي سيرة سعد الحلي الهجرة من العراق خلال عهد الرئيس الراحل صدام حسين، ومصادرة حزب البعث أموال العائلة وممتلكاتها، ولجوؤها إلى بريطانيا منذ السبعينيات، وبناؤها ثروة جديدة، ثم عودة الحلي إلى موطنه، وملاحقته من استولوا على مصنع العائلة، وعودته خائبا صفر اليدين إلى بريطانيا يائسا من استعادة حقوقه.
أربع ضحايا في مقتلة الألب، ومئات الساعات من البث التلفزيوني وعشرات المقالات التي استدعي إليها خبراء الجنايات، متقاعدون وعاملون وعلماء نفس، لمعرفة ما الذي دفع اليد المجهولة إلى قتل الأربعة في فسحة غابة جبلية، حيث تتقاطع قمم الألب لتحد سويسرا وايطاليا وفرنسا.
فمنذ أسبوع يرابط عشرات المراسلين في «شوفالين» الألبية، يمطرون فرنسا وبريطانيا والسويد بتحليلاتهم في أسباب القتل، من دون أن ينضب لهم معين مقال، رغم قلة الشهود في الممر الجبلي في قلب الألب، الذي يعرفه المهربون أكثر مما تعرفه السياحة وفضوليوها. واخرج توقف الحلي لموت غير منتظر معبر المهربين بين البلدان الثلاثة من رتابة المسالك الجبلية وسكونها، وغفلة الجمارك عنها، إلى مقدمة المشهد الإعلامي وضجيجه.
وتبدو القضية استثنائية بسبب وحشية قتل عائلة بأكملها، وتداخل عناصر محيرة والغاز في عملية القتل التي نفذت بمسدس واحد، ويد باردة واحدة ومصممة. الرصاصات تنتمي إلى سلاح تشيكي قديم لم يسبق أن صادفت الشرطة الفرنسية ما يشبهه في الوسط الإجرامي المحترف. فالقتل بعنفه الصادم ساوى بين الجدة والوالدة والأطفال، والتصويب على الرأس ينم عن دوافع شخصية أكثر منها «مهنية»، وحقد دفين لا يمكن أن ينبعث إلا في بيئة الضحايا أو مقربين منهم. وقد استبعدت الشرطة، بسبب هول الجريمة أن يكون عمل قاتل مأجور، وإلا لكان عليه أن يكتفي بقتل من عقدت على رأسه صفقة القتل، أي الأب على الأرجح، وهو ما لم يحصل.
ويعتقد المدعي العام اريك مايو أن الإجابات عن أسئلة كثيرة تقبع في بريطانيا. واليها يتوجه المدعي العام نفسه وقاضيا تحقيق لحقا بخمسة محققين من الدرك الجبلي الفرنسي. ويدور المحققون في حلقة مفرغة. وتفلت الخيوط التي تمسكوا بها واحدة تلو الأخرى. فالخيط الأول الذي هرع إليه المحققون كان فرضية الخلاف على ارث كاظم الحلي، بين ولديه سعد وزيد، وقيام الأخير بقتل أخيه بسبب استيلائه على الميراث. وهي فرضية لم تصمد أمام أول لقاء بين الشرطة البريطانية والشقيق الذي جرى استجوابه، بصفة شاهد غير متهم، ليتبين أن الخلاف لم يكن يتجاوز مبلغ الخمسين ألف يورو، بالإضافة إلى افتقاد المحققين أي قرائن تجرم زيد وتدعم فرضية القتل بسبب الخلاف على الميراث. وتتابع الشرطة الاستماع إليه من وقت إلى آخر لاستيضاح بعض النقاط.
واتجه التحقيق نحو فرضية جواسيس لاحقوا سعد الحلي، او قاموا بتصفيته بسبب عمله في التسلح وتكنولوجيا الدفاع. ويعمل القتيل سعد الحلي مهندسا مصمما لشركة «ساري تكنولوجي» للأقمار والاتصالات الفضائية. وقامت شركته بتصميم القمر الاصطناعي «توب سات» للتجسس لمصلحة الجيش البريطاني. بيد أن المحققين عادوا بسرعة عن فرضيتهم لأن الحلي لم ينضم إلى الشركة إلا في العام 2010، أي بعد خمسة أعوام من انطلاق مشروع «توب سات». كما أن الأنشطة التي كان يشرف عليها لم تصنف في خانة «الدفاع السري» وتجعل منه هدفا للابتزاز أو حائزا معلومات فائقة الأهمية تعرض صاحبها لخطر القتل.
ولم يكن سعد كاظم الحلي، الخمسيني، في أرشيف الشرطة، لا إرهابيا أو ناشطا سياسيا، لكن الشرطة ستحاول الاستعانة بالاستخبارات لمعرفة ما إذا كان للعراقي الهارب من بغداد صدام حسين أي علاقات معها، قد تكون تسببت بمقتله انتقاما.
وتبدو زينب أمل التحقيق الأخير. ومن المنتظر أن يعمد الأطباء إلى استرجاعها من الغيبوبة، لكن أحدا لا يستطيع ان يراهن مسبقا على قدرتها على استعادة جزء من ذاكرتها المفقودة جزئيا، فضلا عن ضرورة إخراجها من الغيبوبة التي أغرقها الأطباء فيها لحماية دماغها من آثار الارتجاجات الشديدة التي تعرضت لها على يد القاتل. وليس مؤكدا، كما يقول الأطباء، أن تعبر زينب الغيبوبة إلى اليقظة، وان تحتفظ بكامل ذاكرتها التي تحفظ فيها وحدها صورة من قتل أحباءها في نزهة إلى قمم الألب التي لن تنساها.
تعليقات: