بقايا من منزل في الضاحية (م.ع.م)
لا يعــــرف أهالي حي الرويس الكثير عن أســــرة علي الديراني. فالعائلة انتقلت للعيش في المنطقة بعدما خسرت منزلها بالكــــامل في مجمع الحسن خلال العدوان الاســـرائيلي على لبنان في تموز الماضي.
المصعد في المبنــــى لا يعمل، والمنزل شاغر من الفرش. وكلـــمة «أهلا وسهلا» يتردد صـــداها في الغــــرف الخاوية. يعتذر الوالد «اعـــذرونا، عايشين بالعصــــر الحجري، هذا ما فعلــته اسرائيل بنا».
علي الديراني الذي أنهى عامه السبعين، يجد نفسه اليوم مجبرا على إعادة تكوين حياته وحياة أسرته من جديد.
غرفة الجلوس فرشت بحصيرتين كبيرتين. والى جانبهما فرشتان مهترئتان ينام عليهما الوالدين. تسارع الابنة الوسطى ختام، إلى إحضار كراسيّ بلاستيكية. «هيدا الصالون عنا»، تقول الوالدة ممازحة، مؤكدة أنها لا تملك سوى بعض الكراسي البلاستيكية التي تستعملها لاستقبال الضيوف.
تتألف عائلة الديراني من الوالدين، وأربع فتيات وشابين، اثنان منهما متأهلان.
كان للأسرة منزل يتألف من أربع غرف كبيرة، «بخّره» العدوان في ثوان.
أصبح الديراني اليوم عاطلا عن العمل. يعتمد على راتب ابنتيه البسيط.
تقاضى تعويضا من مؤسسة «جهاد البناء» قيمته عشرة آلاف دولار، لكنه تقاسمه مع صهره الذي كان يعيش معه في المنزل القديم لأنه يملك حصة فيه.
أمضت أسرة علي الديراني مع مجموعة من الأقارب، بعد بداية الحرب، أسبوعين في المنزل القديم قبل أن ينزحوا الى بلدتهم قصرنبا في البقاع. «الحمد الله بعدنا عايشين»، يقول الديراني. تحول منزله إلى ركام وفيه مقتنيات يقدر قيمتها بأكثر من 50 الف دولار.
في السادس والعشرين من تموز الماضي انتقلت الأسرة الى البقاع حيث بقيت حبيسة المنزل، يراقب أفرادها غارات العدو تمطر القرى المجاورة بنيرانها.
كان الوالد ينتظر موعد توقف تحليق الطيران في البلدة لإحضار المأكولات لعائلته، بعدما نبهت العائلات المقيمة في البلدة من حظر التجول.
مع وقف إطلاق النار في الرابع عشر من آب، عادت العائلة الى بيروت فوجدت منزلها عبارة عن ركام تحت «سابع أرض»، بسبب القصف الانتقامي الذي تلقاه مجمع الحسن من العدو.
كان «الخيار الافضل» حينها هو الانتقال للعيش مع الابن البكر الذي يقيم بالقرب من المجمع. بقوا هناك لمدة شهرين، ومع حلول شهر رمضان غادروا لأن صاحب الملك طلب من الابن رحيل عائلته «والا سيتعين عليه دفع رسوم إضافية لقاء سكنهم».
غادرت الأسرة منزل الابن وانتقلت الى حي السلم حيث استقبلهم أحد الأصدقاء في منزله، حيث أمضوا فيه شهرين وثلاثة عشر يوما في غرفة وحمام. «ننام فوق بعضنا البعض».
عند موعد موعد الإفطار، تغيب السفرة التي كان يشهدها المنزل القديم. ويكتفي أفراد العائلة بكسر صيامهم بشربة ماء.
تسببت الضغوطات النفسية بأمراض السكري والضغط والغدة لزوجة الديراني، فلم يعد بوسعها تحضير شيء. حلّ شهر رمضان «بالويل والصبر» كما يقول الديراني، الذي لا يتوقف عن حمد الله. أما عيد الفطر فكان عبارة عن سجد ركعتين من الصلاة.
انتهت الإقامة في حي السلم، فكانت محطة التهجير التالية لعائلة الديراني في منزل ابن عم الزوجة حيث كان يعيش أساسا أربع عائلات فقدت منازلها في الضاحية الجنوبية.
لم تقاوم العائلة مرارة العيش المشتركة. غابت الخصوصيات بين العائلات، ومعها غابت حرية التصرف. أسبوع في منزل ابن العم، حتى استأجروا الشقة التي يقيمون فيها حاليا في الرويس. استعادت العائلة حرية التصرف.
انتقلت الى منزل يحمي خصوصياتها. بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر، استطاعت الوالدة وبناتها الأربع نزع الحجاب أثناء النوم.
إلا أن الأنس ظل غائبا. أغراض المنزل أحيلت رمادا، ومعها احترقت صور الذكريات. تبعثرت الأغـــراض الخاصة والثمينة بين شظايا قنابل العدو.
«قد ما حكيت نقطة ببحر لي عم يصــــير معنا»، يقــول الديراني. تارة يحكي عن المشكلات الكثيرة، وطورا يسكت لدقائق طويلة مطرقا.
تصر العائلة على تنظيم جولة في المنزل. بداية مع «غرفة الصبايا»، التي تضمنت أربع فرش إضافة الى خزانة صغيرة تضع فيها الفتيات أغراضهن القليلة.
في زاوية الغرفة، نلمح جهاز عروس. هــو جهاز ختام التي لا تحب أن تتذكر «الموضوع». فهي فقدت جهازا كاملا في البيت القديم، دفعث ثمنه من «تحويشة العمر»، ثم عادت الى نقطة الصفر وأطالت فترة الخطوبة، هي التي كان من المفترض أن تتزوج الصيف الماضي.
صارت تقسم راتبها الذي تعتمد عليه العائلة بين مصروف البيت ومستلزمات الجهاز.
من غرفة الفتيات الى غرفة الصبيان. هناك يجبر عباس نفسه على التركيز في دراسته.
عباس لا يتعايش مع الوضع الجديد. يشعر بالوحدة بعد حرمانه من بيته الأصلي، وأغراضه والجيران. يفتح كتاب التاريخ ويدرس تحضيرا لشهادته الرسمية، ثم يعاود التمدد على الحصيرة ويفكر.
المطبخ عبارة عن براد صغير في داخله صحن لوبية بزيت، ربطة خبز وقنينة مياه. غاز متنقل لا يتحمل الطبخات الدسمة. ركوة واحدة. إبريق واحد للشاي. بعض الملاعق والصحون. طقم فناجين واحد يقدم للضيوف.
يقول الديــــراني انه لم يستطع حتى الساعة تعــــويض ربع ما فقده كل من أولاده وزوجته. مرّت الاعياد عليهم جميـــعها مرور الكرام. فأصبحت أيام السنة متشابهة «رجعوني 50 سنة الى الوراء».
يضيف الديراني أنه يشعر كمن يكوّن عائلة من جديد. ينتابه دائما شعور الخوف من نشوب حرب اخرى، فحرب تموز شكّلت للعائلة عقدة، تخشى معها أن يتكرر ما حصل لها.
هذا هو المنزل. وهذه نبذة عن حياة مقيميه. تسأل عن دور الدولة. يقول الديراني: «ربيت أولادي على حب الأرض، وما بدّي بوّس أيادي تعيش، بخسر كل شي إلا كرامتنا».
تعليقات: