العائلة الحاصبانية مجتمعة لتحضير مؤونة الشتاء («السفير»)
تجمع أم سامر يحيى كل قواها المادية والمعنوية والجسدية، استعداداً لتحضير مؤونة الشتاء، التي باتت بحاجة إلى ميزانية منفردة، وجهد قوي لإنجازها. إنه همّ رئيسي لا بد منه لعائلات الريف، كما تقول أم سامر، «يتكرر عاما بعد عام، في أواخر ايلول ومطلع تشرين الأول، فحصاد مواسم الصيف الزراعية، من خضار وفواكه وحبوب ـ كما الحليب ومشتقاته ـ يبقى هدفاً لربات المنازل».
وتحرص النسوة على جمعها وطبخها وتوضيبها بشكل مدروس، داخل أوعية زجاجية وفخارية، أو ضمن أكياس بلاستيكية تحفظ في الثلاجات. يحتجن إلى حيز كبير من الوقت والجهد. ذلك بالإضافة إلى مبلغ يتراوح بين ألف وألفي دولار اميركي، لتأمين المواد الأولية. وتكون النتيجة حفظ الزيت، والزيتون، والتين، والعنب، والدبس، والمربى، وغيرها من الأطعمة، التي باتت تطهى على الغاز إضافة الى مواقد الحطب. توضب بعدها داخل أوعية محكمة الإغلاق، لتستهلك لاحقاً في فصل البرد.
تجمع ربات المنازل في بلدات حاصبيا والعرقوب على أهمية المؤونة الشتوية، التي لا بد منها في كل بيت ريفي، بحيث تطلق ست الدار ورشة متواصلة للطبخ على مدى أسبوعين أو أكثر، تنشغل خلالها في تحضير أكثر من 20 صنفاً من المؤونة، تبدأ باللبنة والزيتون والجبنة، ومن ثم الكشك والبرغل والقاورما، ناهيك عن العديد من أنواع الزهورالمختلفة بتركيبتها. والتي يتم قطفها من الحقول الجبلية، لتكون في أكثر الأحيان علاجاً لبعض الأمراض الصدرية، التي تكثر في فصل الشتاء الملقب بـ«الباب الضيق»، والذي يعني لسكان الريف، صعوبة الحصول على ما تريده. وتبقى مواقد الحطب المفضلة في الطهو لجودة إنتاجها وللتوفير في الوقود، إضافة إلى الغاز المنزلي. وتكون تلك العملية مقدمة لتعبئة الأوعية ونقلها إلى الخزائن في غرف المونة، لترتب فوق رفوفها.
منطقة حاصبيا ـ العرقوب، التي تبدأ بارتفاع 300 متر عن سطح البحر، لتتجاوز صعوداً 1500 متر، تنتج الكثير من التنوع الزراعي، إضافة إلى الأعشاب البرية المميزة والنادرة، لما فيها من متممات غذائية وصحية. يجعل ذلك منها جنة البساتين، كما تقول فادية عيسى، وهي ربة عائلة مؤلفة من ثمانية أفراد. فادية تلفت إلى أنه «منذ زمن، كنت أحضر مؤونة الشتاء لعائلتي فقط. ولكن اليوم، بعدما تزايد الطلب على المؤونة الطبيعية الخالية من أي مركبات كيمائية، تحولت بشكل تدريجي إلى بيع ما يفيض عندي من مؤونة لزبائن يقصدون قرانا للتمون. وقد تشجعنا على تطوير المنتجات مستفيدين من خبرات إضافية قدمتها لنا مجاناً بعض الجمعيات، عبر سلسلة ندوات ودورات، دفعتني إلى احتراف هذه المهنة. وأصبحت أشارك بالمعــارض المختصة بالمؤونة في العديد من المدن اللبنانية، بحيث لقيت منتجاتي إقبالاً وطلـباً من الزبائن».
«البيت اللي ما في خزانة للمونة هو بيت فقير»، تقولها بكل ثقة ربة العائلة أم سميح الحرفوش، «خاصة في فصل الشتاء حيث تفقد أسواق قرانا العديد من الخضار والفواكه الطازجة، وما زلت أطعم أولادي الكثير مما ادّخرته من «مونة»، مثل مربى التين والمشمش والكرز وشراب الرمان والصعتر والكشك واللبنة، ومختلف أنواع الكبيس». وتشير إلى أن أولادها المغتربين «يحملون معهم أعداداً كبيرة من مراطبين المؤونة إلى بلاد الغربة، فإنتاج جبالنا كما يقولون أشهى من إنتاج المعامل الآلية الحديثة، بحيث يردد أحفادي: ما تصنعه يدا جدتنا اطيب مما نتذوقه من الأسواق المزينة بالديكورات الجذابة الكاذبة».
تصف رائدة الحمد مؤونة الشتاء بـ«القرش الأبيض لليوم الأسود، والشاهد على ذلك أنه عند دخولك أي منزل ريفي وفي أي وقت كان، تكون المائدة حاضرة بما لذ وطاب من خيراتها، وبإمكان ربة المنزل أن تجهز مائدة لضيوفها من خزانة المؤونة». وترى أن تلك «ميزة غير متوفرة لسكان المدينة. غير أن تحضير المؤونة بات مكلفا جداً. وتلزمها ميزانية كبيرة، يعجز الكثير من العائلات الريفية على تأمينها بشكل كامل، خاصة أنها تتزامن مع حاجيات الشتاء وانطلاق المدارس، فرطل اللبنة مثلا يكلف بحدود 70 ألف ليرة بين حليب وطهو وزيت، وحاجة البيت السنوية بحدود 50 رطلا، أما الكيلوغرام من الكشك فيكلف 30 ألف ليرة، وحاجة المنزل نحو ثلاثة كيلوغرامات. أما الكيلوغرام الواحد من البرغل فتصل كلفته إلى أربعة آلاف ليرة وحاجة المنزل تصل إلى 15 كيلوغراما. وذلك يعني أن المؤونة الشتوية تقدر كلفتها بشكل وسطي بين ألف وألف وخمسمئة دولار اميركي».
في حاصبيا والعرقوب، يبدو أن «مؤونة الضيعة» تصمد أمام زحف وتحديات المعلبات على أنواعها، على الرغم من سهولة الحصول عليها، إضافة إلى ما يبتكره صناعها من نكهات ومذاقات متعددة ومتنوعة.
تعليقات: