إنشقاق تيار المستقبل: رجال منسّقية بيروت ينقلبون على الشيخ سعد


رجال منسّقية بيروت ينقلبون على الشيخ سعد

دفع الرئيس سعد الحريري رواتب موظفي تيار المستقبل عن الشهرين الماضيين. لكن هذا الحل الجزئي للأزمة المالية التي يعاني منها التيار الأزرق لم يحل الأزمات الأخرى، واكثرها تأثيراً في الآونة الاخيرة انقلاب رجال الحريري في الطريق الجديدة عليه.

في الطريق الجديدة، القلعة المحصّنة التي تزنّرها الأعلام الحريرية المطبوعة بزرقة خاصة، يُحافظ المشهد العام على ثباته. إلا أن عناصر الصورة من الداخل تغيّرت. بعيداً من عالم النيابة، والشخصية الكلاسيكية للمسؤولين الرسميين، يتفلّت «رجال» الرئيس سعد الحريري من قيودهم. يتحكّمون بمصير العباد ويُحركون الأمور وفقاً لمصالحهم وأهوائهم. هناك تضاعفت قدرة الكوادر، فتجرأ الأكثر بروزاً منهم على الانقلاب على الشيخ سعد الحريري. باتوا أكبر من «الزعيم». منهم من استقال، ومنهم من بدأ يقدّم أوراق اعتماده في بلاط سياسي آخر، ومنهم من فتح على حسابه، فبات يعقد اجتماعات جانبية لخلق حيثية خاصة به. اليد الممتلئة «خيراً» لم تعد موجودة. لذا، بات تفكّك البنية التنظيمية للتيار نتيجة طبيعية للمعمعة التي يغرق فيها المستقبل من رأسه حتّى أخمص قدميه.

للطريق الجديدة خصوصية لا يفهمها إلا أبناؤها. كل شيء يُزرع هنا يُحصد في بقية المناطق من صيدا إلى البقاع وطرابلس. منها، يخرج دخان الخلافات الكبيرة لتيار لا يُنظر إليه دائماً بعين الرضى. وفيها، مجموعة من المسؤولين على الأرض، يوصفون بـ«المنسّقين» الذي يتسلمون قيادة بيروت بأكملها، ولكل منهم سيرة مطوّلة من العمل الحزبي. أبرزهم المختار سامر الترك الذي يطلق عليه بعض أبناء المستقبل في المنطقة لقب «الوسواس الخناس» من باب المُزاح. معروف بإثارته المشاكل داخل التيار. عمل في السابق في حزب الاتحاد إلى جانب الوزير السابق عبد الرحيم مراد، قبل أن تغريه «زعامة» المنطقة التي وفّرها له آل الحريري. إلى جانب الترك، فريق يُحيط به، أبرز وجوهه طارق الدنا ومازن السمّاك وأخوه طارق، بالإضافة إلى عماد فتحة وفؤاد الديك. أسماؤهم تسبق حضورهم. قيل الكثير عنهم خلال الأسابيع الماضية. لكن الثابت الوحيد هو أنهم «طُرِدوا» من تيار المستقبل، أو أن «استقالاتهم قُبلت». يؤكد هؤلاء خروجهم من التيار، لكنهم يرفضون بحدّة الحديث أو التصريح عن أي شيء إضافي.

يقولون إن أسباب خروجهم من بحر المستقبل الأزرق «تختلف عن تلك التي روّج لها في الإعلام». كلمات قليلة على الهاتف لا تفي بالغرض ولا توضح حقيقة المشكلة، والتهرّب من اللقاء يبقى الثابت الوحيد.

وبعيداً عن رواياتهم الشخصية، ينبُش العارفون بهؤلاء تفاصيل صغيرة تحفظها الطريق الجديدة وأحياء متفرّعة في بيروت. «مع ظهور الأحزاب والجمعيات السلفية والإسلامية، مثل حزب التحرير وجمعيتي التقوى الإسلامية والاتحاد (الأخيرة يديرها الشيخ حسن قاطرجي وباتت تضم نحو 850 شيخاً سنّياً)، انزلقت هذه الكوادر باتجاهها». ليس ذلك غريباً، خصوصاً أن «البنية التنظيمية في تيار المستقبل لا تنتمي إلى فكر»، إذاً هي «قابلة للتشتّت والانجرار إلى أي تيار آخر إن توافرت لها الظروف المناسبة». وإذا كان هذا التقارب غير معلن، فإنه لم يخفَ على «الواصلين» في الطريق الجديدة وجود ما يشبه «غرفة عمليات» مشتركة بين كوادر من تيار المستقبل وممثلين عن هذه الجمعيات، لإبقاء التواصل دائماً، تحسباً لأي تطورات على الأرض.

لكن هذه الكوادر لم تكتفِ بالانفتاح على «ثقافات» مناقضة لها، بل شغّلت اتصالاتها باتجاه «خصوم» الحريري السياسيين. بداية مع رئيس حزب التيار العربي شاكر البرجاوي، ومن ثم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وكذلك رئيس حزب الحوار الوطني المهندس فؤاد مخزومي، قبل أن يتّصل بهم عبد العرب، مسؤول جهاز الحماية الشخصية للرئيس سعد الحريري لاحتوائهم.

لكن حالة التمرّد لم تحلّها المرونة التي أبداها العرب. سرعان ما اتضح أن ما يطلبه هؤلاء يتخطّى العنصر المالي، إلى إقالة العميد المتقاعد محمود الجمل من منصبه منسقاً لتيار المستقبل في بيروت. ورغم تحقيق هذا الطلب، استخدم المستقيلون أوراق استقالاتهم للحصول على المزيد. إلا أن قبول استقالاتهم جاء أسرع ممّا هو متوقّع. حالة بعض الكوادر «شبه المطرودين» اليوم من تيار المستقبل سيئة، خصوصاً أن غالبيتهم ترزح تحت ديون متراكمة لا تستطيع تسديدها، الأمر الذي يدفعهم إلى التشتت في اتجاهات مختلفة مقابل الحصول على الأموال.

تبقى هذه الأسماء «أسماكاً صغيرة» في منسقية بيروت، مقارنة بما تثيره شخصيات على مستوى أرفع في المنسقية التي تُعَدّ عصب التنظيم في التيار. هنا، يبرز قيادي آخر. يحمل صفة أمنية وعسكرية في التيار الأزرق. وهو، رغم وجوده خارج بيروت، تمتدّ أذرعه إليها، ولا سيما الطريق الجديدة المقسّمة إلى ستّة محاور. على ذمّة العارفين، العقيد (المتقاعد من الجيش اللبناني) عميد حمود دائم العبث بشؤون «معقل» المستقبل في بيروت. وهو يسعى دوماً إلى تأليب القاعدة الزرقاء، معتمداً على العصبيات المذهبية. العاملون تحت عباءته معروفون بـ«زعران المنطقة»، وغالبيتهم مطلوبون بمذكرات توقيف. ويعدّ حمود من أبرز المسؤولين عن «حشو» المنطقة بالسلاح، وتحويلها إلى ملجأ سياسي لمعارضين سوريين، بينهم النائب السابق في مجلس الشعب السوري مأمون الحمصي. ووفق المعلومات، فقد فُتِحَت لهؤلاء بيوت خاصة في المنطقة وضعت عليها أسماء نواب لبنانيين من دون علمهم، حتّى لا يجرؤ أحد على اقتحامها. وبقي الأمر قيد الكتمان، إلى أن اكتشفه أحد نواب رأس بيروت، فاعترض على ما يجري باسمه من دون علمه.

تنقسم المواقف في الطريق الجديدة حول شخصيات كوادر المستقبل المثيرين للجدل الذين تركوا فراغاً حاول التيار أن يملأه أخيراً بعناصر فلسطينيين موجودين في صبرا والحي الغربي وزاروب الديك وزاروب الجرار وأبو سهل. إلا أن أحداً في التيار لا يستطيع تذكّر صفة إيجابية واحدة لهم. تخلى الجميع عنهم، إلا النائب نهاد المشنوق الساعي لتسوية العلاقة بينهم وبين الحريري. وعدا عن النائب البيروتي، يتهم مسؤولون مستقبليون المستقيلين بتمزيق أبناء منطقتهم. وأبناء التيار في المنطقة، اليوم، مصنفون إما تحت خانة موظفين في التيار، أو عاملين تحت عباءة المنسقية، أو ممن يرتبطون بالتيار مذهبياً، كما هي حال الجماهير اللبنانية الاخرى مع تياراتها وأحزابها. تبقى فئة لا يقال فيها إلا صغيرة، «كفرت» بالواقع الذي هي فيه. تتذكر تجربة 7 أيار، عندما اضطرت بعض العائلات التي «جنّد» أبناؤها على الطرقات من قبل بعض الكوادر في المنسقية، إلى تهريبهم خارج بيروت، بعد الحديث عن نية حزب الله اقتحام المنطقة.

إذاً، لم تعُد الأزمة المالية كلّ ما يواجهه الحريري الوريث؛ فالاحتجاجات الصامتة والعلنية، وحالات التمرد والتفلّت في بيروت، أزمة أخرى تنخر رأس رئيس الحكومة السابق، الذي يصارع للعودة إلى السلطة، فيما يستغل خصومه السياسيون على الساحة السنية التفكك التنظيمي الذي يعانيه التيار، لاستقطاب رجاله بالمال والوعود الخدماتية.

تعليقات: