الشهيد محمد دمشق
ويبقى اللقاء الأخير غصة في القلب، رغم أن قلب أم رياض دمشق «مرتاح شوي» لأنها «عزمت» ابنها محمد على «الفراكة» التي يحبها قبل الحرب بيومين. لبى الدعوة وأكل «فراكة» أمه المفضلة لديه وهمّ بمغادرة بلدته عيتا الجبل إلى عمله.
«لحظات ليست كأي لحظات» تستعيدها أم رياض لأنها لم تكن عادية أبداً في حياتها كما تقول «ودّعته مرتين، ولأول مرة شعرت بأني أريد مرافقته إلى آخر الطريق. كان وجهه يشع نوراً».
بعد يومين، وقعت عملية «الوعد الصادق». يومها كانت أم رياض في تبنين تزور أختها (والدة شهيدين أيضاً). عندما سمعتا بالعملية فرحتا كثيراً وقامتا بتوزيع الحلوى على الناس.
بعد الظهر بدأت أطراف عيتا الجبل (قضاء بنت جبيل) تتعرض للقصف. طلب الشباب من الناس ألا يناموا في المنازل البعيدة فتجمعت العائلات في البيوت الآمنة وسط البلدة. بقيت أم رياض في البلدة لمدة 18 يوماً. اتصل محمد في اليوم الثالث للحرب بأهله لكن أمه لم تكن موجودة فردّت عليه خالته وسألته عن مكانه فقال لها إنه في البيت بالضيعة «عم يتروق» وأسمعها صوت تحريك الملعقة في «كباية» الشاي دليلاً على ذلك. عندما عادت أم رياض أخبرتها أختها أن محمد في البيت «لكني كنت أعرف أنه ليس في القرية أصلاً لأني أتردد يومياً على البيت...».
بعد هذا الاتصال لم تعد تسمع عنه شيئاً وصارت الأمور تزداد سوءاً «وعندما سمعت أن الاسرائيليين تقدّموا باتجاه مارون قلت لأختي «راح محمد» فقد شعرت بأني لن أراه مجدداً».
بالفعل كان محمد، وقلب الأم دليلها، يخوض مع مجموعة من رفاقه مواجهة فاصلة في مارون الراس. فقد اقتحم «جواد عيتا» مع رفاقه البيوت التي تحصن داخلها الصهاينة رغم أن التعليمات كانت بعدم بذل جهد كبير في مارون نظراً لوضعها الاستثنائي.
يروي صديقه كيف أبدع محمد في لحظاته الأخيرة، وكيف أدى تخطيطه في مارون إلى صمود القرية حتى بعد استشهاده «أخذ جواد يتحدث على الجهاز كما لو أنه في مباراة لكرة القدم (التي كان يُحسَب له فيها ألف حساب)، وكما في الملعب كذلك في الميدان. صار ينادي على الرفاق يطلب من هذا التقدم ومن ذاك إطلاق النار على الجندي على يمينه وذاك على يساره. علي الوزواز كان هناك، وسامر نجم وموسى فارس ومحمد عسيلي، كلّهم قاتلوا حتى الشهادة».
أعطى كلامه عبر الأثير زخماً للمعركة ما دفع الإسرائيليين إلى محاولة إسكاته من خلال التشويش على موجة اللاسلكي لأنه استطاع أن يربك إدارتهم للتقدم. بعد فترة غير قصيرة من المواجهات العنيفة انقطع صوت محمد بعد أن ألهب محور بنت جبيل بأسره. «كل من سمعه شعر بأن قائداً رفيع المستوى يتولى زمام الأمور». يتهدّج صوت الصديق مستعيداً تلك اللحظات «لم ندرك ماذا حدث... عادة ينقطع الاتصال في المعركة نتيجة خلل ما. استمرت المواجهات في مارون عدة أيام، وصارت الإذاعة التي استحدثها العدو للتشويش تذيع أسماء من تسمّيهم «القتلى المخربين» وورد اسم محمد دمشق بينهم فصرت أضحك لأن الإذاعة نفسها كانت تذيع أسماء مقاومين أحياء على أنهم شهداء».
لكن جواد عيتا كان قد استشهد فعلاً. صدّ القائد «حمودي» ألوية النخبة. فقد كبر محمد واشتد عوده وصار من ذوي البأس، ومع ذلك ظلّ قلبه مع من يحبهم يتناسب واسم الدلع هذا، يقول صديقه المقرب. أما في أوساط المقاومة فلازمه اسم «جواد عيتا»، جواد نسبة للاسم الحركي لشقيقه الأكبر رياض (استشهد عام 1994)، وعيتا نسبة إلى قريته الجنوبية «عيتا الجبل».
محمد دمشق ابن الـ27عاماً، الفتى الأشقر ذو الملامح الطفولية والعينين الملونتين، غدا قائداً ميدانياً صعب المراس في فترة قياسية من عمله في المقاومة لكنه لم يكن يُرى عابساً قط. يقول عنه أحد رفاقه «يستحيل أن تجالس محمد فتهمل وجوده مهما كان وضعك النفسي. يملك مقدرة غريبة على إخراجك من أحزانك. «مزّيح»، لا تفارق البسمة وجهه»... لكنه في الحرب «صلب شرس، قلبه قلب أسد».
اليوم بعد عام على الحرب، تصرّ أم رياض على أن تري زائريها مولودتهم الجديدة. فاطمة ابنة «جواد عيتا» التي حضرت إلى الدنيا بعد شهادة أبيها ببضعة أشهر. تحمل بين يديها الملاك، كما تسمّيها، وتتذكر كيف «أصيب محمد وهو ابن 7 أشهر في رجله عندما هجّرتهم إسرائيل من منزلهم في الضيعة أواخر السبعينيات». تداعب الطفلة، تترقرق الدموع في عينيها الحزينتين «صار لي سنة ما شفت محمد، هلق صرت أقدر ألمحه بين عيني «فطومة» لأنها نسخة طبق الأصل عن أبيها».
تحاول أم رياض أن تعوّض حفيدتها حنان أب لن تعرفه «فاطمة». هي تعرف أن حفيدتها ستنشأ يتيمة، لكنها لا تخفي فخرها و اعتزازها بمحمد ورياض اللذين «بيّضا وجهي عند سيدتي فاطمة الزهراء».
تبدو متماسكة صلبة، هذه المرأة التي «تشاطرت» عليها الأيام «كنا نعيش في القرية، هجّرتنا إسرائيل إلى بيروت، وهجّرتنا الحرب الأهلية من كنيسة مار مخايل بالشياح عالنبعة، وعدنا إلى الشياح. كان بيتنا مهدماً فاضطررنا للسكن في مدرسة مدة 8 سنين».
تجربتها مع الشهيد رياض، ولدها الأكبر الذي كان قد انخرط في المقاومة في أواسط الثمانينات، كانت درساً لها أفاد منه محمد كثيراً: «... كنت أركض ورا رياض من بلد لبلد. عندما كنت أسمع بعملية للمقاومة قوم روح عالضيعة متل الطاير عقلها... وعندما التحق محمد بالمقاومة قررت إني ما تقّل الطحشة عليه كما كانت الحال مع رياض».
بعد استشهاد رياض طرأ تغيير كبير على شخصية محمد «تأثر كثيراً بشهادة أخيه الذي كان يهابه ويحبه كثيراً» وكانت تستعين به عليه لضبط «الورشنة». تقول أم رياض إن «مثل هؤلاء الأولاد يعلّمون أهلهم. أنا تعلّمت من ابني رياض الثقة بالله عن جد. كان اليهود قاعدين بنفس البناية اللي تهجرنا عليها بالنبعة (ابان اجتياح 1982) وكنت أحذره من الخروج خوفاً عليه منهم. قال لي مرة وهو لما يتجاوز الـ14 عاماً بعد: هؤلاء لا شيء يا أمي بدنا ناكلهم بأسناننا... فقلت له ممازحة: يعني إلك نفس عليهم.. ظل على لهجته الجدية وقال: بقدرة الله رح يزولوا يا أمي.
حاولت العائلة إقناعه بالسفر للعمل أو لطلب العلم فلم يقبل. تعهدنا له بأن نقسم معاش والده بيننا وبين المقاومة مناصفة، فكانت إجابته: والشباب.. منين نجيب شباب يا أمي. أو يردد جملته الشهيرة: «يمّي ابن 8 ما بيموت ابن 9». «يعني هو هيأني نفسياً لهذا اليوم. كنت أتوقع الخبر في أي لحظة، ولما قالوا لي إنه مصاب قلت لهم قولوا لي استشهد، أنا عارفة كل شي»!.
سرعان ما احتل محمد مكان أخيه: «شعرت بأنه كبر بسرعة... لا ولدنة ولا شيطنة... طلبت منه أن يكمل دراسته في المهنية وهكذا كان». خلال تلك الفترة كان محمد يذهب إلى عمله في المقاومة ويعود «لكننا لم نكن نعرف عنه شيئاً. فمحمد كتوم جداً ويتحدث عن كل شيء إلا عن عمله. لم أره يوماً مسلحاً أو حتى مرتدياً بذلة عسكرية، مثل رياض تماماً».
بدأت رحلة «جواد عيتا» مع المقاومة عام 1998، حيث شارك في معظم العمليات النوعية والخاصة في محور بنت جبيل وأثبت كفاءة عالية توّجت في ملحمة مارون الراس في الحادي والعشرين من تموز 2006.
استشهد محمد دمشق، واحتفظ الصهاينة بجسده. يجعل ذلك قلب أمه يتعلق بأمل أن يكون حبيبها على قيد الحياة رغم أنها ذهبت إلى مارون وعاينت مكان استشهاده وتلمّست الأرض التي رويت من دمه وهي تمنّي النفس باليوم الذي تستطيع أن تلمس ولو صندوقاً يضم جسد ابنها أو.. «الله وحده يعلم عمق هذا الجرح اللي بيظل سخن حتى أقدر أدفن ابني وزور قبرو لما بدي».
عزيز على أم رياض أن ولدها الأكبر استشهد قبل أن يتزوج وينجب «ما أعز من الولد إلا ولد الولد» تقول أم الشهيدين وتطبع قبلة على وجنة «فطومة». تنظر إلى صورة محمد وتقول»: بقي لي من رائحته هذه البنوت... الله يخليلي اياها».
تعليقات: