من تشييع شهداء المجزرة العام الماضي (أرشيف ــ بلال جاويش)
لا شيء هناك، لا شيء مكان المبنى الذي غدا ركاماً في الشياح. حتى الركام اختفى. بعد أيام صار المكان فراغاً أشبه بثقب أسود غائر في ذاكرة المنطقة.
قبل عام كان هناك مبنى، يسكن معظم طبقاته أناس من آل رميتي، حتى ساعات الغروب في 7 آب 2006، لم تكن المأساة قد حلّت، كانت حياة هؤلاء طبيعية، فيها أحزان وفيها أفراح، اليوم صار الحزن وحده يلف المكان.
المبنى في شارع الحجّاج على بعد 20 متراً من مبنى «بيروت مول»، في حي متفرع من شارع عبد الكريم الخليل. معظم السكان آتون من الأرياف، وقد لجأ إليه هاربون من القصف في الجنوب وأحياء أخرى من الضاحية ظناً أن «الشياح آمنة». لا شيء يميّز هذا الحي، لولا المجزرة لما ذُكر يوماً، لما انتبه مسؤولون إلى وجوده، وبعد عام ها هو يعود إلى «انزوائه»، ويغرق في محاولات لملمة حزنه على نحو 56 شهيداً قضوا ذلك اليوم.
في حي «المجزرة» الهدوء يتفوّق على كل محاولات كسر صور الذكرى، لكن هذه الأخيرة هي المادة الخصبة للأحاديث، بعد عام عاد أبناء الحي ليحتلوا المشهد بأكمله، الكاميرات هنا من جديد، المصورون عادوا والصحافيون أيضاً، المشهد لن يكون أحمر قانياً هذه المرة، ولكن الوجوه ما زالت بائسة، عابثة، باكية.
لم تكن الساعة الثامنة قد دقت بعد، والليل لم يرخ سواده الحالك، ولم تكن مقاهي الإنترنت الشعبية ومحلات السمانة قد أقفلت أبوابها، لذا كان الكثير من الأطفال لا يزالون في الشارع، وحدهم سكان المبنى خلال العدوان كانوا بمعظمهم داخل جدرانه.
كان الشارع مزدحماً بالأولاد، وكانت الحركة «كثيفة» فيه ذلك اليوم، أما سكان المبنى فكانوا يتحادثون، يتسامرون، يعدّون القهوة، يتبادلون الأحاديث، أو كانوا يفعلون أشياء أخرى، ولحظة سقطت الصواريخ والقنابل تبدلت الحياة موتاً، طغى الغبار وتراكمت الأحجار فوق الأجساد. الذين استشهدوا كثيرون، والذين جُرحوا ظلوا يئنون، ويصرخون، ويستغيثون ويسألون عن مصائر الأحبة.
علي الشاعر، العجوز الذي بدا مغطى برمل أبيض، يسكن في مبنى مقابل لمكان المجزرة، لا يذكر إلاّ ذلك الصوت المجلجل عند سقوط الصواريخ، لم يعد يعرف كيف يحدد شعوره «شعرت بأن شيئاً ما انفجر»، لم ينتبه إلى أن شظية أصابته في رأسه، ظلّ متخفياً في بلكونه لا يبرح مكانه حتى هرع إليه مسعفون.
عندما أُخرج الرجل من بيته لم ير شيئاً، لم ير المبنى المدمر «كان الغبار والسواد يغطيان المكان»، لكنه سمع الصراخ، وسمع المسعفين المحيطين به يقولون «هو قادر على المشي لنخلّص آخرين» وتركوه، وهو لا يذكر من حمله إلى مستشفى «الحياة»، ولكنه يذكر أنه عندما خرج منه بعد نحو ساعة وجد والدته المقعدة تنتظره عند المدخل الرئيسي. وهو عائد رأى «الجرافة ترفع الأحجار والمسعفين يبحثون عن ناجين».
علياء ناصر الدين هي أيضاً كانت جالسة أمام متجرها المقابل لمبنى آل رميتي، كانت تتبادل أطراف الحديث مع «الصديقين الحاج رضا نمر ناصر الدين وغزالة ناصر الدين»، قررت فجأة أن تدخل متجرها لتسحب أغراضاً، وكانت ابنتها داخله تساعد سيدة أتت إلى المتجر وفي يدها زجاجة الحليب لرضيعها... مرت ثوان، ثم شعرت علياء بزلزال رماها أرضاً وسمعت السيدة تصرخ وتقول «ابني وزوجي هناك».
حين أُخرجت الحاجة علياء من المتجر لم تلمح صديقيها، كان الدم يسيل من ظهرها وركبتيها، وقد فقدت وعيها بعدما مُددت على حمالة الإسعاف. لما عادت إلى بيتها عرفت أن صديقيها رحلا، وُجدا ميتين على كرسيّيهما وكل منهما يتكئ برأسه على جدار لم يحمه من القنابل والأحجار والشظايا. لما عادت إلى بيتها سألت عن السيدة التي لا تعرف اسمها، وشاهدت صورها في الصحف تبكي، فأيقنت أن الرضيع ووالده رحلا، وأن زجاجة الحليب التي كانت مرمية في أرض متجرها لن يحتاج إليها أحد.
سامية شعيتو، أي أم علي رمضان كما يُعرّفها الجيران، قصدت المبنى ذلك اليوم لتتناول القهوة مع شقيقها مصطفى وبناته، هؤلاء لجأوا مع بداية العدوان من حارة حريك إلى الشياح، حين سمعت دوي الانفجار رأت ابنة أخيها تطير من الطبقة الرابعة ولم تعرف مصيرها إلاّ بعد أيام، تعرّضت الفتاة لكسور كثيرة في جسدها. سامية لم تر شيئاً، ظلت عالقة مع أخيها والبنات أكثر من ساعة، ولم يجدوا مخرجاً من الغرفة التي هوت بعد ساعات من إنقاذهم.
ابنها علي الذي هرع إلى المكان بحثاً عنها يحفظ جيداً ذلك المشهد لمبنى ينهار، وجثث مرمية على الطريق أو تُنتشل من تحت الأنقاض، ويذكر أنين الجرحى يصرخون طالبين إنقاذهم، ورائحة البارود تختلط برائحة الدم، ويذكر كيف انقبض قلبه وهو يبحث عن أمه، وأنه لما رآها لم يصدق «أنها حية».
ليست القصص وحدها ما يمكن أن يؤلم أيّ مرء يحاول نبش ذاكرة الناجين والشاهدين على المجزرة، المؤلم أن الأسماء اختلطت في ذاكرتهم، وأن الأشخاص ـــــ الشهداء والجرحى والناجين ـــــ لم يعودوا يُعرفون بأسمائهم بل بتلك الصور التي التُقطت عند وقوع المجزرة. الحاجة علياء لا تذكر اسم السيدة التي دخلت متجرها، ولا تعرف اسم الرضيع الذي رحل قبل أن يتناول الحليب.
لا تسأل عن الأسماء في مستشفى رفيق الحريري في الجناح. الكل نسي الأسماء، اختلطت الوجوه والمشاهد، وصل جرحى وشهداء في سيارات إسعاف تابعة للصليب الأحمر وفي سيارات خاصة، ونُقلوا إلى قسم الطوارئ المُفتتح حديثاً آنذاك. نادر حمود (رئيس قسم هندسة المعدات الطبية في المستشفى) كان في غرفته في المستشفى، لم تدم قليلولته سوى دقائق، دوّى صوت القذائف، ركض مع زملائه إلى الطوارئ، ثم بدأ توافد الضحايا، الكل تحوّل إلى ممرّض أو مسعف، والكل كان يعمل كما الماكينة، أما الأحاسيس فشيء آخر، كيف يصف نادر وزملاؤه شعورهم وهم كانوا في حالة أشبه بالتخدير، حين تتسمر الحواس وتصير المشاهد التي تمر أمام العيون كشريط أحداث سريع لاهث لا يترك مجالاً للتفكير؟ واليوم وبعد مرور عام يحاول نادر أن يعيد تركيب الحكاية، تضيع الأسماء مجدداً، يبدأ من اللحظات التي شاهد خلالها أهالي وأصدقاء يتراكضون إلى المستشفى بحثاً عن الأحبة، يستعيد نحيب الباكين على الشهداء، والصلوات من أجل الناجين، يستعيد المئات الذين عجت بهم طوارئ المستشفى، والراكضون إلى الغرفة الجانبية حيث «استراح» الشهداء، ويتذكر أصحاب العيون التائهة التي لا تعرف على من تطرح السؤال، يسترجع نادر قلقه، خوفه من أن يلمح بين الضحايا وجه قريب أو صديق، ثم يتوقف عند ذلك الشاب، يسأل زملاءه عن اسمه ولا أحد يعرف الجواب، لكنهم كلهم يذكرونه، إنه شاب في العشرينات من العمر، حمل فتاة نازفة بين يديه وركض بها إلى المستشفى، أمام المدخل مسح الغبار عن وجهها، دوّى صراخه مزلزلاً، هذه شقيقته الصغيرة، وظل يبكي ساعات ويستجدي الجميع «أرجوكم أنقذوها، أهلي كلهم راحوا!».
الصراخ الذي زلزل حيّ الحجاج قبل عام، انسحب بعد ساعات ليحلّ مكانه صمت مخيف. إسراء رميتي (14 عاماً) التي فقدت أهلها لا تريد أن تحكي، فالكلام متعب، أن تستعيد تلك اللحظات وترويها مجدداً وتضطر لأن تتذكر أسماء الأم والأب والأشقاء، هذا شيء متعب، وإسراء تعبت من الكلام ومن الكاميرا، ومن هذا الجرح الذي لا يندمل بل يتفاقم ألمه، المصيبة خرساء لذا قررت إسراء أن تصمت، ابن عمها حسين رميتي يردد أنها ما عادت تقوى على الكلام، وما عادت تحب أن تحكي عن ذلك
اليوم.
صمت إسراء أبلغ إنباءً من أي كلام، عجزها عن إعادة رواية ما حدث إنما هو الدليل القاطع على مدى الألم الذي أحدثته تلك المجزرة، ماذا تقول الفتاة التي لم تعد تجد اليد التي كانت تهزّ مهدها، ثم صارت تجدل شعرها.
الناجون يخنقهم شوق على أحبة فُقدوا، تخنقهم صور الموت الذي خطف في لحظة واحدة أماً وأباً وشقيقاً وشقيقة وأقارب وأصدقاء.
سكوت... الحزن النبيل صامت أبداً، فلا تنبشوا هذه الذكرى.
تعليقات: