هكذا رفعت الراية البيضاء على ثكنة مرجعيون

عناصر من الجيش اللبناني في مرجعيون (أرشيف)
عناصر من الجيش اللبناني في مرجعيون (أرشيف)


ماذا حصل في ثكنة مرجعيون يوم العاشر من آب 2006؟ ومن هو المسؤول الحقيقي عن الحادثة التي تحوّلت إلى فضيحة وطنية وأخلاقية؟ في ما يأتي محاولة من «الأخبار» لسرد الرواية الكاملة نقلاً عن عناصر وضباط كانوا في الثكنة خلال الحرب... وهي تبقى رواية غير رسمية تحتاج إلى المزيد من التفاصيل للإضاءة على كلّ جوانبها علماً أن وزير الشباب والرياضة (وزير الداخلية بالوكالة سابقاً) أحمد فتفت رفض نهائياً الحديث مع «الأخبار»

«حادثة شرب الشاي تفصيل»، هذا ما يجمع عليه العدد الأكبر من ضباط وعناصر المجموعة الأمنية المشتركة الذين تحدّثوا لـ«الأخبار». أن تكون هذه الحادثة تفصيلاً فهذا يعني أنها تأتي ضمن سلسلة من الأحداث «المماثلة» التي أدّت إلى هذه النتيجة... إلى دخول الإسرائيليين إلى الثكنة بالطريقة التي دخلوا بها. هذا على الأقل ما نفهمه من روايات محدّثينا الذين أكدوا أن أياً منهم لم يُفاجأ بما حصل لعدة أسباب تمهيدية سبقت 10 آب، يلخصونها بأربعة:

أولاً، إهمال خطة «الحماية والمدافعة» التي وضعتها قيادة الجيش في 8 آب 2000 للدفاع عن ثكنة مرجعيون، وكان يجري تجديدها كل عام وتدريب عناصر المجموعة الذين يخدمون في الثكنة عليها. يخضع تنفيذ هذه الخطة وتوقيته لإمرة قائد المجموعة الأمنية المشتركة، الذي كان خلال حرب تموز 2006، العميد عدنان داوود. يجمع محدّثونا على أنهم لم يلاحظوا وجود أي بوادر لتنفيذ الخطة المذكورة خلال الحرب، ولم يأتِ أحد من الضباط أو الرتباء أو قائد المجموعة على ذكرها، حتى بعدما تأكّد الجميع أن الهجوم البرّي الإسرائيلي قد بدأ.

يذكر أن المجموعة الأمنية المشتركة تتألف من ألف عنصر، مناصفة بين الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، وهي أنشئت بعد التحرير عام 2000 بمرسوم حكومي، ويرأسها ضابط من الأمن الداخلي برتبة عميد، ويكون بإمرة وزير الداخلية. مقر قيادتها في ثكنة مرجعيون، وتتبع لها ثكنة أخرى في بنت جبيل. بعد بدء الحرب، انحصر عملها بالأعمال الإنسانية.

ثانياً، عدم الأخذ بتجربة بنت جبيل. فقبل أيام من دخول الجيش الاسرائيلي إلى بنت جبيل، وعندما اشتد القصف على مهنية المدينة التي كانت تشغلها قوة تزيد على 300 عنصر من المجموعة الأمنية، تم اتفاق بين قائد المجموعة وقيادة قوات الطوارئ على إجلاء العناصر الذين كانوا في بنت جبيل، 75 منهم إلى مرجعيون وقسم آخر إلى تبنين، فيما بقي في بنت جبيل 30 عنصراً بإمرة نقيب في قوى الأمن الداخلي. وعندما اشتد القصف على المهنية ووصل الجيش الاسرائيلي إلى مقربة منها، خرج الضابط مع جنوده من باب خلفي وغادروا المنطقة، بعدما كانوا قد قضوا ليلتهم في الملجأ، من دون أن يقوموا بأي مهمة سوى الاحتماء من القصف. بعد خروجهم بدقائق، قصف المكان الذي كانوا فيه.

تجربة الخروج من بنت جبيل، بحسب محدّثينا، عرضها على العميد عدنان داوود عدد من ضباط المجموعة الأمنية الذين طرحوا خيار الخروج من مرجعيون إلى النبطية. لكن العميد داوود رفض الفكرة رفضاً قاطعاً لأن العناصر المكلفين بتوزيع المؤن على البلدات التي لا يزال سكانها فيها لن يستطيعوا الوصول إليها، بسبب القصف وقطع طريق الخردلي. فاقترح أحد محاوري داوود أن يبقى عدد قليل من العناصر ليستمروا بنقل المؤن والمواد الغذائية من النبطية بالطريقة ذاتها التي كان يجري العمل بها منذ بدء الحرب، وخصوصاً أن هذه المهمة لا تتطلب وجود أكثر من 20 عنصراً في الحد الأقصى. لكن داوود أصر على الرفض.

ثالثاً، سحب السلاح في التاسع من آب، أي مع بعد بدء بوادر الهجوم البري على محور المطلة ـــــ سهل الخيام بالظهور. يومها أصدر العميد داوود قراراً بسحب البنادق والمسدسات من أيدي جميع العناصر والضباط وإيداعها مخزن الذخائر داخل الثكنة. وبرّر داوود هذا القرار بخفض إمكان قيام أحد العناصر بتصرف حماسي ما، «كإطلاق رصاصة تورّط جميع الموجودين في الثكنة». ونقل عدد من الضباط والعناصر أن داوود كان يتحقق شخصياً من العنصر الذي يشكّ في أنه يحمل مسدساً. وكان حرس الثكنة على مدخلها الأساسي من جهة بولفار مرجعيون يقفون عزّلاً عندما وصل الجيش الإسرائيلي.

إضافة إلى ذلك، أمر داوود، صباح يوم دخول الإسرائيليين إلى الثكنة، بنقل كلّ الأسلحة من المخازن التابعة للجيش اللبناني إلى المخازن التابعة لقوى الأمن الداخلي. وتجدر الإشارة إلى أن السلاح الأقوى الذي كان في حوزة المجموعة الأمنية هو «آر بي جي» إضافة إلى رشاشات براونينغ.

رابعاً، الضمانات. فقبل يومين من دخول الاسرائيليين إلى ثكنة مرجعيون، سأل عدد من العناصر والضباط العميد داوود عما إذا كانت هناك ضمانات بعدم تعرّض الثكنة للقصف، كما جرى في بنت جبيل، فأجاب العميد: اللباس الرسمي يحمينا. فقال له ضابط: لكنها لم تحمِ زملاءنا، فأجاب، لدينا ضمانات. سُئل عن الجهة التي قدّمت هذه الضمانات، فأجاب: الصليب الأحمر الدولي. فتساءل أحد الحاضرين: كيف يقدّم الصليب الأحمر الدولي ضمانات وسياراته لم تسلم من الغارات الإسرائيلية، وكذلك قوات الطوارئ؟ فقال داوود: اطمئنوا: أمّن لنا جوني عبده ضمانات عبر الفرنسيين والأميركيين بألا نتعرّض للقصف.

الدخول إلى الثكنة

حوالى الساعة العاشرة والنصف من صباح العاشر من آب 2006، رنّ الهاتف في مكتب العميد داوود. ردّ أحد العناصر وقال لداوود: الحرس يطلبك. تحدّث قائلاً: إذا لم يقتربوا، فلا تتعاطوا معهم. ثم قال لمجالسيه إن الإسرائيليين وصلوا إلى باب الثكنة. مرّت دقيقتان من الصمت قبل أن يرن الهاتف مجدّداً. رفع داوود السماعة ليقول: شو باك يا ابني. ثم تغيّر صوته قائلاً: I am General Adnan Dawood.

في هذين الاتصالين، لم يتحدّث داوود عبر مكبّر صوت الهاتف، بخلاف ما اعتاد أن يفعل في الأيام السابقة بسبب الوجع الذي كان يعانيه في أذنيه نتيجة الاستعمال المفرط للهاتف الخلوي خلال الأيام السابقة. لكن، بمجرّد تحدّثه بالانكليزية، أيقن الحاضرون في مكتبه أن محدّثه إسرائيلي. صمت داوود قليلاً ثم سأل محدّثه: ماذا تريدون أن تفعلوا في الداخل؟ نحن قوى أمن وجيش لبناني ولا وجود لحزب الله بيننا. عاد داوود إلى الصمت ثم قال: لا تستطيعون الدخول من دون أن آخذ إذناً من رؤسائي، ثم أقفل الخط ونظر إلى المحيطين به متسائلاً: ماذا أفعل؟ قال أحدهم: اتّصل بوزير الداخلية. اتّصل داوود بواسطة هاتفه بالوزير فقيل له: معاليه عم ياكل. أقفل الخط فقال له أحد الموجودين: اتصل مجدداً، هذا ليس وقت تناول الطعام. اتصل داوود بفتفت مجدداً وحدّثه بواسطة مكبر الصوت، وأخبره أن قوة من الجيش الاسرائيلي موجودة على مدخل الثكنة، وأن الضابط يريد التحدّث معه للدخول والتأكد من عدم وجود عناصر من حزب الله في الداخل، فسأله فتفت: هل هناك أحد من حزب الله معكم؟ أجاب داوود بالنفي، فقال فتفت: انزل وتحدّث معه، فمن عادة القادة في الحروب أن يتفاوضوا حتى ولو كانوا أعداءً. وليدخلوا ما دمت واثقاً من عدم وجود أحد من عناصر الحزب في الداخل.

نزل داوود برفقة ضابطين إلى مدخل الثكنة الأساسي، حيث كان بانتظارهم ضابط إسرائيلي برتبة رائد. أبلغ الضابط الاسرائيلي داوود أن قائداً أعلى منه رتبة سيحضر في غضون دقائق. بعد خمس دقائق تقريباً، حضر ضابط إسرائيلي برتبة عقيد، عرّف عن نفسه بأنه المقدم أشعيا، وقال لداوود إنه يريد الدخول إلى الثكنة، طالباً منه رفع راية بيضاء. دقائق معدودة، وعاد الضابطان اللذان كانا مع داوود إلى مدخل الثكنة، ونقلا عن العميد داوود أوامر برفع راية بيضاء على البوابة الداخلية للثكنة، وأن الاسرائيليين سيدخلون سلمياً. أحضر أحد العناصر راية بيضاء ورفعها على البوابة الداخلية للثكنة. بعد نحو 5 دقائق، أمر داوود الضباط بأن يتأكّدوا من وجود السلاح في المخازن فقط، وأن جميع العناصر داخل غرفهم. وقال: كلّ ما يريده الإسرائيليون هو التأكد من نوعية السلاح وما إذا كان هناك عناصر من حزب الله.

في هذا الوقت، كانت الدبابات الإسرائيلية قد حاصرت الثكنة من جميع الجهات. دخلت إلى الثكنة دبابتان إسرائيليتان و16 عنصراً. استُهدفت أولّ دبابة بصاروخ أتاها من جهة الشرق لكنه لم يصبها تماماً فبقيت الدبابة صالحة للاستخدام. اختبأ الجنود الإسرائيليون والدبابتان بين المباني. وبعد الانتظار لأقل من نصف ساعة بدأ الاسرائيليون يجولون على مباني الثكنة، يرافقهم داوود وأحد الجنود اللبنانيين، الذي كان مزوّداً بمطرقة وإزميل يستخدمهما لكسر أقفال الأبواب المغلقة.

لم يسأل الإسرائيليون خلال تجوالهم على الغرف عن شيء، بل كانوا ينظرون إلى الأشخاص الموجودين، والذين كانوا جميعاً مرتدين لباسهم العسكري. بعد نحو ساعة ونصف استلقى الجنود والضباط الإسرائيليون في ظل الأشجار المحيطة بملعب الثكنة. كان الضابط الإسرائيلي مستلقياً، والعميد داوود واقفاً على مقربة منه. بعد أكثر من نصف ساعة، أبلغ الضابط الإسرائيلي العميد داوود أن قسماً منهم سيغادر وستبقى مجموعة داخل الثكنة حتى تأتي الأوامر من القيادة. وبقيت هذه المجموعة على باب مخزن السلاح. بعد أقل من ساعة، دخلت دبابات إسرائيلية برفقة 30 جندياً، كان أحدهم يحمل كاميرا فيديو ويعطي التوجيهات. بإشارة من يده، تحرّكت الدبابات والمشاة مطلقين النار باتجاه مباني الثكنة، وصارخين في عناصر المجموعة الأمنية: ادخلوا إلى غرفكم. خرج داوود ليصرخ معهم. دخلت بعدها مجموعة كبيرة من المشاة، لتنقسم إلى مجموعات من 15 جندياً تمركزت كل منها أمام مبنى في الثكنة، ثم دخلت دبابة من دون مدفع، تعلوها هوائيات كبيرة.

تقدّم الضابط الإسرائيلي من داوود قائلاً: أتتنا الأوامر بالتمركز داخل الثكنة، فأجابه داوود: أنا لا أقبل أن نكون معاً داخل الثكنة، عليّ أن أبلغ رؤسائي. فأجاب الضابط الإسرائيلي بالعربية: جورج بوش يعلم أننا سنبقى في الثكنة ورؤساؤك لا يعرفون؟ من هو رئيسك؟ أجاب داوود وزير الداخلية أحمد فتفت. فقال الإسرائيلي: هو من حزب الله. سخر منه داوود قائلاً: ما شاء الله على معلوماتك. قاطعه الإسرائيلي بالقول: السنيورة رجل جيد. اتصل داوود هاتفياً بفتفت، وأعلمه بالأمر فاستمهله فتفت بضع دقائق، ليعاود الاتصال به بعد 10 دقائق قائلاً: اتصلت برئيس الحكومة الذي اتصل بوزيرة الخارجية الأميركية التي اتصلت بدورها بسفير بلادها في تل أبيب، الذي تحدّث مع وزير الدفاع الإسرائيلي عامير بيرتس الذي قال إنه لا أوامر لدى الجيش الاسرائيلي بالاستقرار داخل الثكنة.

أبلغ داوود الضابط الإسرائيلي ما نقل عن لسان وزير دفاعه، فرد الضابط بأنه لا يأخذ أوامره من وزير الدفاع بل من هيئة الأركان، وبأنه ينوي البقاء في الثكنة. عاود داوود الاتصال بفتفت الذي استمهله مرة أخرى، ليقول لداوود بعد دقائق: تعاملوا على أنكم أسرى حرب. عندها، قال داوود لفتفت، أنا لا أرضى بذلك، سأتصل برئيس الحكومة. بدأ داوود بالتحدّث على الهاتف، وابتعد عن الضباط والجنود اللبنانيين والإسرائيليين، وعند اقترابه منهم، سمعوا صوت من كان داوود يحدّثه قائلاً: اعتبروا أنفسكم أسرى حرب. ثم قال داوود إن محدّثه هو رئيس الحكومة فؤاد السنيورة. بعد ذلك، أمر داوود العناصر والضباط بملازمة غرفهم لأن الإسرائيليين سيطلقون النار على كل من يتحرّك.

سمّ في الشاي؟

بعدها، دخل داوود إلى مكتبه، وجلس معه ضباط لبنانيون وإسرائيليون ومن الكتيبة الهندية في اليونيفيل. طلب ضابط إسرائيلي الشاي، فطلب داوود من أحد العناصر تحضير الشاي وتقديمه. يقول داوود في التحقيق الذي أجري معه في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي إن الضابط الاسرائيلي قال له: لا تسمّم الشاي لنا، فأجابه داوود: «يا ريت بقدر».

فجراً اتصل فتفت بداوود وأبلغه أن ضباطاً من قوات اليونيفيل سيأتون في الصباح، وأن اتفاقاً قد تمّ يقضي بإخراج المجموعة الأمنية من ثكنة مرجعيون عبر مسلك يتم تحديده عبر قوات الطوارئ.

صباحاً، عند العاشرة، تلقى ضباط وعناصر المجموعة أمراً بالتحضر للرحيل. أبلغهم العميد داوود أن الإسرائيليين طلبوا منه لائحة بأسماء العناصر وأنه رفض تزويدهم بها، لهذا طلبوا منه أن يعطيهم نموذجاً عن البطاقات العسكرية التي يحملها العناصر فأحضر لهم بطاقتين: واحدة لقوى الأمن وأخرى للجيش. بعدما اطلع الاسرائيليون على شكل البطاقتين، تم الاتفاق على خروج الجنود من ثكنة مرجعيون بسياراتهم المدنية والعسكرية. طلب داوود أن يتسلّم ضباط اليونيفيل الأسلحة الأميرية والأعتدة والمستندات، فرفض طلبه.

على باب الثكنة حيث رفعت الراية البيضاء، وقف جندي إسرائيلي، وآخر يصور بواسطة الكاميرا، وقربهما ضابط هندي. قضى الاتفاق بأن ينزل ركاب السيارات الخاصة والعسكرية، باستثناء السائق. كان جندي إسرائيلي ينظر إلى بطاقة كل عسكري من الجهتين، ثم يعيدها ويسمح للسيارة بالخروج. خرجت كلّ السيارات، وحصرت في المساحة الواقعة بين باب الثكنة الداخلي والباب الرئيسي. بعد نحو ساعتين ونصف الساعة، خرج الموكب العسكري إلى البولفار، حيث كانت في انتظاره حوالى ألف سيارة مدنية. كان تحديد الطريق التي ينبغي سلوكها يتم بين العميد داوود ومساعد مدير المخابرات في الجيش اللبناني العميد عبد الرحمن شحيتلي وقائد قوات الطوارئ في الجنوب الجنرال آلان بلّيغريني.

انطلق الموكب عند الساعة الثانية بعد الظهر وسلك طريق مرجعيون ـــــ إبل السقي ـــــ سوق الخان ـــــ حاصبيا ـــــ راشيا ـــــ ضهر الأحمر ـــــ جب جنين. عند الخروج من جب جنين باتجاه كفريا، وعلى الطريق الممتد امتداد السهل والمسيّج بأشجار السرو، تعرّضت القافلة للقصف بتسعة صواريخ، فاستُشهد 6 أشخاص.

العميد عدنان داوود يتحدث إلى عنصر من قوات حفظ<br>السلام في مرجعيون (أرشيف ــ أ ب)
العميد عدنان داوود يتحدث إلى عنصر من قوات حفظ
السلام في مرجعيون (أرشيف ــ أ ب)


تعليقات: