بقيت حاصبيا بعيدة عن التوتر والصدام حتى في ظل 7 أيار (كامل جابر)
حاصبيا: النأي بالنفس... عن السياسة
تنأى الدولة بنفسها عن حاصبيا، وتنأى حاصبيا بدورها عن السياسة. عاصمة الشهابيين تكسر الأحادية الدرزية، وأهلها كما سياسيوها متفقون على الهدوء
«يعطيك العافية وطن»، يتسمّر جندي الجيش اللبناني لثوانٍ قبل أن يعطيك إذن المرور. العبور على الحاجز عند جسر الحاصباني له نكهة العبور إلى العالم الآخر، إلى حيث تموت السياسة بـ«روتينها» وبرودتها القاتلة. لا جبل محسن ـــ تبانة، ولا أحمد الأسير، ولا حتى مغامرات النائب عقاب صقر تشغل بال الحاصبانيين. هنا السياسة في أسفل القائمة: تغيب وتعود من دون أن تلاحظ أي فرق، اليزبكيون والجنبلاطيون والقوميون على حالهم، وحده النائب أنور الخليل صارت لديه «حركة»، وفيها «قسمٌ» للشباب، على ما تشير اليه إحدى اللافتات فوق الجسر!
حين يجري الناس قبل طلوع الشمس وراء الحقول والكروم، لا يبقى للسياسة مكان. زائر حاصبيا في هذه الأيام يدرك كم تعني شجرة الزيتون وكم يعني قانون الانتخاب للناس المتعبين. حتى الحزبيون، تراهم يقبلون على السياسة كمن يقبل على الطعام البارد بغير شهيّة. «شو طالعلنا؟ شو عملتلنا الدولة؟ إذا كهربا ما في، لشو بدنا ننتخب؟». هذا ليس حال الشيخ محمد أبو عماد الشوفي أو ابن حاصبيا سائق الأجرة عند مفرق سوق الخان وحدهما، هذا نبض المنطقة بأسرها.
تاريخيّاً، حاصبيا قلعة من قلاع اليزبكيّة الدرزية، تماماً كالقلعة الشهابية في وسط البلدة. الجنبلاطية موجودة بقوّة أيضاً بفعل الانقسام الدرزي التقليدي. ومع استعار الحرب الأهلية اللبنانية، عزّز الحزب التقدمي الاشتراكي وجوده. وتاريخيّاً أيضاً، زاد وجود مقاتلي منظّمة التحرير الفلسطينيّة في حاصبيا والعرقوب الانقسام اليزبكي ــ الجنبلاطي. وقف الراحل كمال جنبلاط إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية التي اتخذت من منطقة العرقوب وقرى حاصبيا مقارّ لها، بينما وقف الراحل مجيد أرسلان إلى جانب «دولة» الرئيس كميل شمعون. في حرب الجبل، «هاجر» عددٌ من اشتراكيي حاصبيا للقتال في الشوف ضدّ الجبهة اللبنانية وقوات بشير الجميل، فيما انخرط قسمٌ كبيرٌ من أبناء العائلات اليزبكيّة في جيش العميل سعد حدّاد ثمّ العميل أنطوان لحد بحجّة الدفاع عن القرى من اعتداءات «المسلحين الفلسطينيين». إلا أن عدداً لا بأس به من القوميين والشيوعيين التحق بصفوف جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.
حاصبيا بعد التحرير عام 2000 هي غيرها قبله. دخلت السياسة إلى المنطقة من بابها الواسع، لتصيبها حمّى «8 و14» آذار بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكنها بقيت بعيدة عن التوتر والصدام. حتى في ظل 7 أيار «حُيّدت حاصبيا» لأسبابٍ عدة: أواصر القربى اللصيقة التي تجمع أغلب الناس في القرى بعضها ببعض، كما حالة التوازن الحقيقي بين القوى؛ إذ تعادل قوّة التيار الأرسلاني والحزب القومي وجود الاشتراكي وقوته.
أن تسأل مسؤولاً حزبيّاً، إلى أي جهة انتمى، عن الوضع على ضفاف نهر الحاصباني، يعني أن تسمع كلاماً منمّقاً عن «التواصل والتفاهم بين الجميع». لبيب سليقا المنفّذ العام للحزب السوري القومي الاجتماعي يتحدّث عن «العلاقة الجيّدة مع الحزب التقدمي الاشتراكي»، مثله يفعل شفيق علوان وكيل داخلية حاصبيا في الحزب الاشتراكي حين يسأل عن العلاقة مع القومي والحزب الديموقراطي اللبناني، ووسام شروف رئيس دائرة حاصبيا ومساعد الأمين العام للديموقراطي.
لكن رغم «رومانسية» مسؤولي الأحزاب، تعيش المنطقة (حاصبيا البلدة وقرى شويا وعين قنيا وميمس والخلوات والكفير وعين جرفا والفرديس) الانقسام اللبناني بكلّ عناوينه، من 8 و14، إلى الأزمة السورية، إلى سلاح المقاومة، لكن بلطف.
السير على الأقدام في السوق يضعك أمام التوافق وجهاً لوجه: صور «المير» طلال أرسلان تملأ المكان، لافتات الاشتراكي انكفأت قليلاً واختفت صور النائب وليد جنبلاط والوزير أسعد حردان نائب حاصبيا. صعوداً من الدوّار، أمتارٌ قليلة تفصل بين نصب للاشتراكي ومكتب منفذيّة القومي. وعلى يمين مبنى القائمقاميّة، مكتب لحردان ومكتب للاشتراكي وآخر للخليل في المبنى نفسه.
التوافق كان الأب الشرعي للمجلس البلدي الأخير في المدينة. بين السياسة والعائلة، على رأسها «اليزبكي» الدكتور غسّان خير الدين. وبالمناسبة خير الدين هو «صديق صدوق» لجنبلاط وشقيق سليم خير الدين والد الوزير مروان خير الدين وزينة زوجة أرسلان، وزوج هدى شقيقة الخليل. وبالطبع، لم تخرج «طبخة» البلديّة عن طوع حردان.
ليس رجال السياسة من يرجون التوافق هنا فقط، إذ تلقي المؤسسة الدينية بظلالها الثقيلة لمنع أي صدام بين الناس. هذا لا يعني أن المؤسسة الدينية بعيدة عن السياسة، فالفرز فيها مطابق لذلك الذي يحكم طائفة الموحّدين. الصراع في خلوات البياضة قديم بين إقطاعيتين دينيتين، آل قيس وآل شجاع. الشيخ غالب قيس أكبر مشايخ البيّاضة ينام على كتف أرسلان، بينما تسير سفن الشيخ سليمان شجاع كما تشتهي رياح جنبلاط. أمّا الشيخ فندي، شقيق الشيخ سليمان وخصمه، فيحاول بقوّة الدخول كقطب ثالث بين المشايخ وربّان سفينة أخرى في أسطول جنبلاط عبر رفع سقفه السياسيّ خارج التوافق؛ فهو مع شقيقه سليمان بـ«التقاطع» سعياً إلى إعطاء منافس خير الدين ورئيس البلديّة السابق أمين «بك» شمس الأصوات من تحت الطاولة في الانتخابات البلديّة الأخيرة.
يمثّل دائرة حاصبيا ــ مرجعيون خمسة نوّاب في المجلس النيابي، هم أسعد حردان، علي حسن خليل، أنور الخليل، قاسم هاشم وعلي فياض.
اليوم، يكثر الحديث عن مصير المقعد الدرزي، لكن أحداً لا يصدّق أن المقعد لن يكون من نصيب زياد الخليل، ابن النائب أنور الخليل. وما الحديث عن ترشح الوزير وائل أبو فاعور أو الوزير خير الدين في ظلّ ضبابية القانون الانتخابي والتحالفات الانتخابية المقبلة سوى تكهّنات، على ما تؤكّده مصادر خير الدين وأبو فاعور على حدٍّ سواء.
قد تغيب عن حاصبيا ثم تعود إليها من جديد، وستجد أن شيئاً واحداً في السياسة لم يتغيّر بمعزلٍ عن الاستحقاقات الانتخابية. لكنّ شيئاً ما يحدث هنا في المزاج الشعبي. أولئك الذين كانوا على ضفّة المواجهة الحقيقية مع المقاومة ومع حزب الله تحديداً قبل التحرير وقبل عدوان تموز 2006، هم أنفسهم تراهم في بيوتهم مسمّرين أمام الشاشات وعيونهم لا تحيد قيد أنملة عن إصبع الأمين العام لحزب الله السّيد حسن نصر الله ووعيده لدولة إسرائيل وفي القلوب يختلج الفرح. «قيل لنا قبل التحرير بقليل إن الشيعة والمقاومة سيأتون لذبحكم في بيوتكم لأنكم كنتم مع لحد، لم يحدث شيء من هذا، ولم ينتقم منّا أحد» يقول أبو عماد، الرجل الذي لا تعنيه السياسة، والذي يحتفظ بالأرزة الحديدية على شبابيك بيته من زمن شمعون.
ليس السيد نصر الله من يدخل قلوب الحاصبانيين وحده، فنائب المقاومة هنا لا يترك بيتاً يعتب عليه إلّا يزوره في فرحٍ أو ترح، وأخيراً، يلمع اسم النائب علي فيّاض في عددٍ من المشاريع الإنمائية في المنطقة المحرومة، أولها توفير الكهرباء لمحطّة ضخّ المياه من نبع الحاصباني بشكل دائم، وليس آخرها زيارة وزير الزراعة حسين الحاج حسن للمنطقة الأسبوع الماضي لتطوير الواقع الزراعي الذي يعتاش منه عددٌ كبيرٌ من السكان، وتحديداً صناعة زيت الزيتون.
على هامش الجمود السياسي، إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في حاصبيا، فعليك أن تزور مطبخ أمين الحمرا وابنه ماجد في مقهى نبع البحصاصة، هناك يلتقي الاشتراكيون والقوميون والأرسلانيون والإعلاميون ورجال الأمن، ليشكّلوا «مطبخاً» من نوعٍ آخر.
الشيخ عطوي «انشقّ»
قطعت خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ عبد الحكيم عطوي قبل أسبوعين الهدوء الذي يسود حاصبيا منذ زمنٍ طويل. وقف عطوي على منبر مسجد حاصبيا حاملاً، بخطاب ناري، على الرئيس السوري بشّار الأسد والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. كما غمز في كلمته من موقف طائفة الموحّدين الدروز من الأزمة السورية متحدثاً عن «الطوائف المتلوّنة». كلام عطوي أحدث غضباً في المدينة، ففي يوم الجمعة اللاحق تجمّع عددٌ من الشّبان المناصرين للحزب الديموقراطي اللبناني وفريق 8 آذار في محيط المسجد بلباسٍ أسود تحسّباً لخطبة مماثلة. في حين، أكّد مفتي حاصبيا ومرجعيون الشيخ حسن دلة لـ«الأخبار» أن كلام عطوي «لا يعبّر سوى عن نفسه، وهو ليس في دار الفتوى بل في الجماعة الإسلامية». خطاب عطوي هو الأول من نوعه على مستوى العرقوب وحاصبيا، إذ لا يتناول خطباء الجمعة في المنطقة أي كلامٍ في السياسة، وما يقوله الناس هنا عن عطوي أنه كان من أكثر مشايخ الجماعة الإسلامية الذين يناصرون حزب الله ويتلقون منه الدعم المالي والخدماتي خصوصاً في بلدته الهبارية.
تعليقات: