الحجر «الغشيم»: وهم الكلفة

لا تقلّ أجرة معلم الحجر عن 60 دولاراً يومياً (الأخبار)
لا تقلّ أجرة معلم الحجر عن 60 دولاراً يومياً (الأخبار)


لا يختلف اثنان بشأن جمال الحجر الطبيعي ومتانة المنازل المبنية به وقلة حاجتها إلى الصيانة. لكنْ ثمة إحجاماً عن استخدامه لمصلحة البناء الخراساني، والحجة الوهم الشائع بارتفاع كلفة البناء الحجري

يستبعد معظم أهالي القبيات فكرة الشروع بتشييد بناء حجري، يستبد بهم الخوف من أكلاف سرعان ما تبدده الأرقام التي يقدمها آخر البنائين في البلدة جوزيف موسى. يدرك موسى أن تعظيم كلفة الجدار المبني من الحجارة الطبيعية مقابل كلفة الجدران الخراسانية أو المبنية من حجارة الطوب لا يأخذ بالحسبان سائر الأكلاف المرتبطة بالأخيرة. فالجدران الخراسانية تحتاج إلى «التلييس» من الداخل والخارج، وتحتاج أيضاً إلى الطلاء أيضاً، ما يجعل صاحب المنزل يدفع الأكلاف على دفعات متتالية، من دون أن يدري أن ما يدفعه يفوق كلفة البناء من الحجر الطبيعي.

إلى وهم الكلفة يتحدث موسى عن كلفة الوهم التي تظهر في أكلاف جارية، تضاف إلى كلفة البناء الخراساني الذي يحتاج إلى صيانة مستمرة متعلقة بالطلاء الداخلي والخارجي على حد سواء، فضلاً عن كلفتي التدفئة والتبريد بين نوعي البناء الحجري والخراساني.

بدأ آخر البنائين عمله في عام 1991 بعد إحالته على التقاعد من الجيش اللبناني. لم يكن للرجل أي خبرة فعلية في البناء، لكن تجواله، بحكم الخدمة العسكرية، في العديد من المناطق اللبنانية وفّر له فرصة مشاهدة أنواع كثيرة من الأبنية الحجرية. لذا خاض تجربته الأولى في بناء منزله الخاص، حتى لا «أتورط في أخطاء مع الناس»، ثم طوّر كفاءته عبر بناء جدران البساتين، وصولاً إلى تمكنه من بناء منزل بمواصفات علمية.

ويتمثل التحدي الكبير الذي تجاوزه جوزيف موسى في تشييده بناءً من طبقات عدة بواسطة ما يسمى «الحجر الغشيم». هذا الحجر موجود في كل أراضي القبيات، وكلفة استخراجه قليلة تختصر بكلفة النقل؛ لأن من يستصلح أرضه، يبحث جاهداً عمن «يخلّصه» من الحجارة التي تخرج من باطن الأرض.

وتكمن ميزة البناء بـ«الحجر الغشيم»، علاوة على تدني كلفته، في كسر الرتابة في الحجارة المتناسقة. هنا يتفنن موسى في تشييد جدران تلامس فيها الأشكال والتضاريس البيئية الطبيعية.

يقول الرجل إنه بشيء من الكلفة الزائدة يمكن بناء سطح المنزل بطريقة العقد الحجري. صحيح أن كلفة المتر المربع الواحد تصل إلى حدود مئة دولار، لكن الفارق مع كلفة السطح التقليدي المصنوع من الإسمنت والحديد لا يتجاوز، برأيه، 5 آلاف دولار، بالنسبة إلى منزل مساحته 150 متراً مربعاً.

في هذه الحال، يصبح المنزل أشبه بقصر وترتفع نسبة الحماية من العوامل الطبيعية إلى أعلى درجة ممكنة، ذلك أن سماكة السطح تصبح على مقربة من مترين.

يستغرب آخر البنائين إهمال حرفة البناء الحجري. ويقول: «لو أن في القبيات ثلاثين بنّاءً لما استطاعوا تلبية الطلب على البناء الحجري». ويشرح هنا كيف فشل في إقناع رجل واحد بممارسة هذه المهنة، علماً بأنه يعتقد أنه يستطيع تعليم من يرغب في ذلك خلال 6 أشهر، وأن أجرة معلم الحجر لا تقل عن 60 دولاراً يومياً، أما إذا عمل على حسابه فالعائد يكون أكبر من ذلك بكثير، وهو أمر تحقق منه عندما ساعده في إحدى الورش معلمو بناء حجر سوريون. لا يملك موسى إلا السخط على أبناء جيل يشكون البطالة، ومع ذلك لا يكلفون أنفسهم عناء احتراف عمل مطلوب.

في المقابل، شكت جمعيات بيئية كثيرة كثافة الجرف الذي يطاول جبال عكار وتلالها بهدف بيع التراب لشركات الإسمنت، وغالباً ما كان يحصل ذلك تحت ستار الترخيص لتشييد بناء منزلي. لكن الجرف كان يستمر لأسابيع وأشهر في المكان الواحد، ما أدى إلى انهيار ترابي كبير في بلدة خريبة الجندي، كاد يودي بحياة أسرة بعدما انزلق التراب من تحت منزلها، وأدى كذلك إلى انهيار عمود التوتر العالي. وشكا العكاريون، وخصوصاً أهالي القبيات، حركة الشاحنات الآتية من الهرمل، محملة الحصى، مع ما يؤدي إليه ذلك من تخريب للطرقات العكارية وتعطيل حركة السير. ومع ذلك، لم يظهر جهد جدي لاستصلاح الأراضي على قاعدة سحب حجارتها والاستفادة منها في أعمال البناء، ما يقلل في الوقت نفسه من الحاجة إلى كميات كبيرة من الحصى.

وما لا يدركه آخر البنائين أنّ حرفة البناء من الحجر مثل باقي قطاعات العمل ضحية اقتصاد السوق. فوهم ارتفاع كلفة البناء الحجري يرتب أكلافاً باهظة جداً لا تقتصر على مجمل البناء بتكاليفه المقطوعة والجارية، بل تمتد إلى تعميم البطالة. وعوض تطوير سوق العمل، يتعزز استهلاك يضر الداخل ويفيد الخارج. في القبيات وعكار يجري القضاء على المشهد الطبيعي، وفي الخارج تزدهر صناعة الإسمنت، ويزدهر استيراد الشاحنات وقطعها، والآليات والمعدات المخصصة لأعمال البناء، إضافة إلى ما يجود به سوق الإعلانات من مواد مصنعة، ولا سيما مواد الطلاء ومنع النش.

تعليقات: