صور الحرب في ذاكرة المسعف علي بلاغي: كـان الخيـار بين أن نستشهـد أو أن نربـح

المسعف علي بلاغي (عباس سلمان)
المسعف علي بلاغي (عباس سلمان)


قانا :

ما زالت الصور الكثيرة حية في ذاكرة علي بلاغي.

ما زال صوته يرتعش وهو يستحضرها، فيما يتصبب جبينه عرقاً.

كيف لا؟ ابن الثالثة والعشرين شهد على امتداد 33 يوماً ما يمكن حتى التردد في كتابته الآن، لأن قراءته مضنية، فكيف بمعايشته؟

صور كثيرة، وأصوات أزيز المقاتلات تواكب سيارات الإسعاف على امتداد طرق الجنوب وعرضها، وهو ورفاقه والمصابون والجثث في داخلها، يواجهون موتاً جديداً في كل ثانية، يصارعونه حتى الوصول إلى بر أمان مستشفى ما.

يذهب علي كثيراً لقراءة الفاتحة على قبر فتى فلسطيني انتشله العام الماضي وكان في الحادية عشرة من العمر، في برج رحال.

«ما زلت أبكي كلما ذهبت إلى قبره. حتى لو حكيت اليوم، لا يمكن أن تعرفوا ما أشعر به»، يقول علي، ويحكي.

يحكي أن مجموعة صبية فلسطينيين كانوا يستحمون، بسبب انقطاع المياه، في مشروع المياه القريب من الثكنة في برج رحال ذات ليلة. ألقى الإسرائيليون الصاروخ في الماء «حيث تصبح قوة ضغطه أكبر».

يحكي علي أن الصاروخ قسم الفتى إلى قسمين، «رأيت أحشاءه ومفاصله وعظامه. كنت أحمل جزءه الأعلى وأبحث عن جزئه السفلي في الماء...».

علي لا يقدر أن يحكي أكثر. معه حق، مهما حكى، لن يعرف أحد.

يحكي علي عن شيخ وزوجته وابنته، بقوا في سيارتهم التي قصفها العدو أياماً وهم يحاولون الخروج من معروب. أخبرته إحدى مراسلات «الجزيرة» عن مكان وجود السيارة، فذهب علي ورفيقه خليل طحينة (28 عاماً) يبحثان عنها. كان ذلك في اليوم الذي تلى مجزرة صريفا.

يقول علي إنه «لدى وصولنا إلى دير قانون النهر، لحقت بنا المقاتلة الإسرائيلية. حاول حاجز الجيش ثنينا عن المتابعة حفاظاً على سلامتنا إلا أننا أصررنا على المتابعة. لدى وصولنا، وجدنا الشيخ وقد سلخت الكلاب المستشرية ساقيه فيما كان رأسه على حضن زوجته. أما ابنته فكانت في المقعد الخلفي وتبدو كأنها نائمة».

يتابع: «سحبنا الشيخ وزوجته، وبدأ القصف، ولكننا أصررنا على انتشال الفتاة. صرنا كلما لمسناها يتفتت لحمها. لفها خليل بعباءة أبيها، وحملناها إلى الإسعاف، ولكننا من شدة القصف، لم نتمكن من الوصول إلى الباب الخلفي وفتحه. حملها رفيقي خليل ووضعها في حضنه. كنت أنا أقود الإسعاف وهو يحمل الفتاة الملفوفة بعباءة أبيها. نتوقف قليلاً للاختباء، ثم نتابع تحت القصف... ونجونا بأعجوبة».

أما الصور الأكثر رسوخاً في ذهن علي فهي صور تلك الليلة التي توجه خلالها ورفاقه من مركز «الدفاع المدني» في برج رحال لإسعاف خمسة من رفاقه أصيبوا فيما كانوا يسعفون مصابين.

كان المسعفون المصابون يختبئون بين شجر الزيتون في بدياس. نزل هو ورفيقه وأسعفاهم، ونقلاهم إلى سيارة الإسعاف التي جاؤوا على متنها. فوق العبّارة، سقط الصاروخ الأول أمامهم ورمي الثاني عليهم، ففقد المسعف خضر غزال يده. وجد علي يد صديقه على ركبته.

كان على متن سيارة الإسعاف أربعة مسعفين من «الدفاع المدني»، وأربعة جرحى ثلاثة منهم إصاباتهم بليغة.

كان الصاروخ الأول للتهديد كي يتوقفوا. ولما لم يتوقفوا، ألقت المقاتلة الصاروخ الثاني عليهم، ولكن، «بقدرة قادر»، لم يصب الجرحى بأذى ووجد ثلاثة مسعفين أنفسهم في البستان المجاور.

يحكي علي أن المروحية: «صارت تطلق النار علينا في البستان، وصرنا نختبئ بين أشجار الموز، والمروحية فوقنا تلقي قنابل دخانية. تركنا الدروع والخوذ حتى لا يتهموننا بأننا مقاومون. أنا عجزت عن الهرب، فحملني صاحبي. خرجنا من البستان، مرت سيارتان مدنيتان لم تتوقفا ورفض سائق الثالثة أن يقلنا ظناً منه أننا مقاومون. كل ذلك والمروحية ترصدنا. جاءت سيارة من العباسية، فتوقف سائقها لي ولصديقي فضربونا صاروخاً رابعاً وقع خلفنا».

لا إرسال في تلك المنطقة، لا يجدي الهاتف نفعاً ولا أجهزة الاتصال. هي منطقة مقطوعة بين جبلين.

استمر الرعب إلى أن جاءت سيارة إسعاف تقل جريحاً، فرأت سيارة علي ورفاقه مضروبة والجرحى في داخلها. أقلوهم وتركوا الحاج خضر غزال ظناً منهم أنه استشهد. ذهبوا بهم إلى مستشفى غسان حمود ثم أرسلوا سيارة إسعاف أخرى أقلت من تبقى.

أبطال تلك الليلة هم إلى جانب علي، أفراد «الدفاع المدني» التابع لـ«كشافة الرسالة الإسلامية»، التالية أسماؤهم: هيثم الجندي وطارق محيش وخضر غزال الذي سافر على حساب النائبة بهية الحريري إلى الأردن للاستشفاء وسيذهب إلى فرنسا قريباً لتركيب يد صناعية.

يقول علي إنه خرج مع خليل طحينة في أكثر من 12 مهمة: «فهو أوعى مني، هو قائد في الدفاع المدني ولديه تسع سنوات خبرة». يضيف أنه ساهم في إنقاذ أربع أسر من قرى محاصرة، ونفذ نحو 24 مهمة تم خلالها إنقاذ نحو 16 حالة بين مصاب وشهيد.

«نعم»، يقول علي، «كنا نعيش في خطر دائم، لكننا لم نكن نخاف، وكنا في كل مرة نعود للخروج في مهمة جديدة وسنقوم بذلك كلما تطلب الأمر».

«لماذا؟ لأننا نطلب الأجر. كان لنا صديق هو أبو موسى. كان يأتي كل ليلة إلى المركز، يسامرنا ويشجعنا ويحدثنا عن أهل البيت. لولاه لما صمدنا. كان الخيار هو بين أن نستشهد وبين أن نربح. كان أبو موسى يحثنا دوماً على التفكير بمن أوضاعهم أصعب من أوضاعنا. انظروا إلى المقاومين، انظروا إلى المدنيين، كان يقول لنا، ويشحذنا بالقوة والصبر».

علي كان يتحدث من منزل أخته في قانا.

أخته زوجة الشهيد علي الغضبون، الذي قتله العدو وهو على متن «فان» كان يحمل الخبز إلى أهل قانا خلال الحرب.

أم حسين اليوم بخير، وأولاد الشهيد علي الغضبون حسين وحوراء ومهدي بخير. على الرغم من مر العام الذي مضى، حوراء نجحت في المدرسة وانتقلت إلى الصف السادس، وانتقل حسين إلى السابع. مهدي أيضا نجح وصار في الصف الثالث، إلا أنه ما زال يستيقظ في الليل، يصرخ مناديا أباه وترتفع حرارته. طلب من أخيه حسين إذا كان يستطيع أن يناديه بكلمة «بابا». حسين وافق.

تعليقات: