كلنا للوطن ... (بلال قبلان)
يفتح محمد نور الدين، أو أبو محمود، دفترا صغيرا دوّن عليه كلمات بقلم الحبر وأخرى بقلم الرصاص. «يوم صعب، أم محمود مريضة. ما من دواء. ثائر يحاول جاهدا. لقي الدواء في الليل. غدا ننتقل الى الخيام عند شقيقة أم محمود...».
ما كتبه ابن برجا ليس من يوميات عدوان تموز ,2006 إنها ذكريات حرب الجبل، يوم كان أهل الإقليم نازحين إلى الجنوب...
«ما في أصعب من النزوح، ما في أصعب من ترك الأرض والمنزل... عندما اندلعت الحرب، رأيت في عيون الأهالي ما كانوا يرونه في عيوني. كل مشاعر اليأس مجتمعة، وكل مشاعر الرجاء والأمل... ماذا عن الأرض والبيت؟ ماذا عن العائلة؟ ماذا عن المحاربين؟....هل نعود؟ هل نسلم؟».
ها هي عشرون سنة تمرّ، ها هو عدوان .2006 ها هو الضيف يتحوّل الى مضيف لأهل يهربون، كما هرب المضيفون قبل عشرين عاما، من رصاص الموت، من أرض الى أرض أخرى.
ها هو أبو محمود يتحوّل الى أبي وسيم، النازح من زبقين الى برجا، الباحث عن مكان يلجأ اليه وعائلته المؤلفة من ستة أشخاص ريثما «يهدأ الحال» ويعود الى البيت «المطل»... إن بقي.
يروي أبو محمود « كان أبو وسيم كثير الحركة، قليل الكلام... سأل عن بيت يستأجره، بعدما عانى ما عاناه في المدرسة الرسمية... سكن في منزل جاري المسافر. كان وضعه المادي يسمح له بشراء جهاز تلفزيون. هكذا فعل بعد ثلاثة أيام على وصوله الى برجا... كان يتابع نشرات الأخبار كافة... يصرخ طالبا من الأولاد الهدوء. في البداية، كان ينظر إلي على أساس أنا السنّي الذي يتهمه بالحرب. حييته مرة وأرسلت له حلوى صنعتها زوجتي في المرة الأخرى. صرنا نتحدث... علم أنني أعرف تماما ما يعاني منه لأني خضت التجربة ذاتها من قبله. قرأ دفتري، وأعاده الي مبتسما فهو قرأ مشاعره، وأحاسيسه، كما قال لي...».
يعتبر محمد أنه عند استهداف المدنيين، تسقط كل المعايير السياسية والدينية والاجتماعية.... فـ«الموت واحد على الجميع... ربما كان تعاملنا مع النازحين في الإقليم أفضل منه في مناطق أخرى، لأننا خبرنا ترك أرضنا ومنازلنا... ربما لأننا، في الأخير وبصراحة، من دين واحد... وربما لأنه من غير الإنساني الوقوف عند السياسة في مثل تلك الأيام...».
لكنه في المقابل تحدث عن رصده لحالات «نفور» بين المضيف والنازح وذلك لا يعود برأيه إلا «لأخلاق كل منهما».
أبو محمود الذي أنهكته سنوات عمره الستون يعتبر النزوح درسا «لكل من يعتبر أن له لبنانه. إن كانت الحرب تجبرنا على التعايش لماذا لا نتعايش طوعا في السلم؟».
لعن الله السياسة
عاد باسم شعبان من الولايات المتحدة قبل خمسة أعوام. «أتيت على أساس أن الاحوال في لبنان الى تحسن»، لكن فكرة أن «البلد ماشي، والشغل ماشي» غشّته. فهو ما إن بدأ بتأسيس شركة في الوطن حتى اغتيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري. «صرت بعد تلك الحادثة من المدمنين على السياسة والمتابعين بنهم لوسائل الإعلام. تبدلت الأمور بالنسبة لي. فبعد أمل بمستقبل زاهر بين الأهل، باتت لقمة العيش صعبة...». حلّت الحرب، وحلّ في بلدته عدد من النازحين. «كان والدي يهتمّ بمن أتوا الى حيّنا. يسألهم عما يحتاجونه، يحاول مساعدتهم بالتنسيق مع المعنيين. أنا لم أستطع فعل ذلك... هم سبب في ما جرى... كانوا يتابعون «المنار» دائما وصوت جهاز التلفزيون عال جدا... كانوا يستاؤون من متابعتنا «للمستقبل»...
بين باسم ووالده عمر اختلاف في وجهات النظر ورؤية مختلفة للنزوح والحرب وحتى الشراكة في الوطن. يقول الوالد «جرّبنا من قبل وخبرنا ماذا يعني ترك البيت والتشتت كعائلة... كنت بعيدا عن إخوتي وأهلي، كذلك زوجتي... أنا لست مع سياستهم، ولكن هناك وضع إنساني يفرض علي المساعدة». يجيب الابن «ما كنت لأهرب الى هناك... لو سمعت «المنار» لفهمت أنهم فرحون بمحاربة إسرائيل. صحيح هي عدوة ولكن من يحركش بوكر دبابير...».
يستاء عمر من كلام ابنه «الله يلعن السياسة والسياسيين... شو جاينا منهم... بس أنا ما ربيت إبني هيك... أنا منفتح وعلماني وهو يعود دائما الى الطائفة كلما دق الكوز بالجرّة...».
يضحك باسم من كلام والده «هو لا يقرأ سياسة ولا يعرف ماذا سيحل بنا في المستقبل إن تركنا الأمور على مجراها...».
في الإقليم، يكاد باسم يبدو حالة شاذة بين أهالي المنطقة التي عانت ما عانته خلال الحرب. فبين الواجب وردّ الجميل، كان النازح الرابح الأكبر وتجربة الثمانينيات أسست لتجربة عدوان ,2006 حين سقطت السياسة أمام الإنسانية والمواطنية «في النهاية نحن جميعا ضدّ إسرائيل» يقول عمر، أبو باسم.
«تنذكر وما تنعاد»
يبدأ رئيس بلدية بعاصير سمير قعقور كلامه في استعادة صورة النزوح في العام الماضي، بجملة «تنذكر وما تنعاد»، لكنه يشدد أيضا على أنه من التجربة هناك حقيقة واحدة «كل قطرة دمّ من أي شهيد تساوي كل ما قدمناه لإخوتنا النازحين. لبنان تعب وسيبقى كذلك طالما هناك القضية الفلسطينية».
استقبلت بعاصير منذ أيام النــــزوح الأولى، ليس فقط أبناء الجنوب والضــــاحية الجنوبية بل أهلها القاطنين في تلك المناطق. «لم نكن مهيئين لاستقبال العدد الذي وفد إليـــنا لكن سرعان ما تدبرنا أمرنا، وقد سكن بعــــض النازحين في شـــقق من دون مقابل كما سكــــنوا في المدرسة والنادي، وهم في مجـــملهم حوالى 180 عائلة. كنا نجري مسحا يوميــــا عن الأعداد المتبدلة، إذ كان منهم من يترك القـــرية قاصدا مكانا آخـــر بســـبب مشكلتي المياه والكهرباء».
لم يرصد قعقور أي تصادم سياسي، «لا بل كان الأهالي متجاوبين مع طلبات النازحين، لا سيما أنهم خبروا التهجير في السابق وقد قصدوا قرى وبلدات الجنوب».
لكنه في المقابل يتحدث عن تجربة مريرة في تأمين كل متـــطلبات النازحين «وقـــد عانينا من نقص في الفرش كما في تأمين الأدوية المزمنة، علما ان حزب الله حلّ مشــــاكل كثيرة من هذا النوع. واللافت أنه عند انتهاء العدوان بقي لدينا 25 حصة طلبنا من رجاله توزيعها على أهـــل في الجنوب. فرفضوا وزادوا عليها حصصا طالبين منا توزيعها على أهل بعاصير المحتاجين».
وتبرز بعض الخلافات حول من يتولى إدارة توزيع المساعدات على النازحين في تلك الفترة، لا سيما مع تذمر البعض من محاولة الحزب التقدمي الاشتراكي الإمساك بزمام الأمور وتشكيل لجان من محازبيه في كل قرية أو بلدة لتوزيع الحصص.
يروي حليم صالح أن عمل الحزب كان يتم بالتنسيق مع اتحاد البلديات «وقد شكلنا لجانا للإغاثة توزعت على القرى منطلقين من مركزين لجمع المساعدات: عانوت حيث كان مخزن الأغذية ومواد التنظيف... وبرجا حيث كانت توزع الفرش والأغطية والبطانيات... كنا نعمل تحت غطاء البلدية في كل منطقة، لم نكن نساعد على أساس أننا من الحزب. وكان الكلام في السياسة ممنوع. في جميع الأحوال لم نلحظ مشادات ولا سجالات سياسية في المنطقة إذ كان الهم الأكبر يتمحور حول الأمن وانتهاء العدوان».
ويقول صالح ان الجهات التي قدمت المساعدات هي كل من الهيئة العليا للإغاثة وتيار المستقبل ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والأمم المتحدة. وهو إذ يصف التجربة بالناجحة، يعتبرها «واجبا تجاه من استقبلنا أيام حرب الجبل، وليس ردا للجميل. مهما ارتفعت حدة كلام الشارع أو السياسيين لا يمكن للبناني إلا أن يساعد ابن بلده ومنطقته. هذا أقل واجب تجاه من أكرمنا في أيام ضيقنا».
تعليقات: