الزهورات.. رفيقة فصل الشتاء وسهراته وشفاء يُغني عن الدواء
الجيل القديم يجمعها وسط تعب.. والجديد يشتريها ويشربها بلذة
راضي: متعة كبيرة أشعر بها حين أجوب البراري لجمعها
الزهورات تُغني عن الدواء
زوفا.. بابونج.. مليسة.. شلش الذرة.. وردة الحصان.. الختمية.. زهر القندول.. عشبة لسان العصفور.. الصعتر.. زهرة الماسة التي تشبه الالماس... نباتات تحمل فوائد كثيرة، يجهل قيمتها وفوائدها الكثر من أبناء جيل اليوم..
فعشبة «البابونج» مفيدة لعلاج الالتهاب، وإزالة الصداع والعفونة وتفتيت الحصى.. أما الصعتر، فهو جيد لمن يشعر باللعيان، وشربه مفيد لتقوية القلب والمعدة.. فيما الزوفا فهي من الأعشاب القديمة.. وإذا ما جمعت سوياً في إبريق وجرى غليها جيداً، فإنها تقوي الجسد في مواجهة عوارض فصل الشتاء..
تتعاقب الفصول الأربعة على مدار العام، لكل واحد منها ميزاته التي تفرز عادات وتقاليد خاصة به، وفصل الشتاء، أكثر الفصول خشية من الإصابة بالمرض، حيث يعمد الناس إلى اتخاذ تدابير وقائية معينة، استناداً إلى المثل القائل: «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، فيلجأون إلى الشراب الساخن من أجل تحصين الجسد وتقوية مناعته من البرد القارس، الذي يصبغ هذا الفصل..
«لـواء صيدا والجنوب» يُسلط الضوء على هذه الأعشاب - الزهورات، رفيقة فصل الشتاء ومنازل المواطنين في بردهم..
تتحوّل الزهورات إلى ملكة الشراب شتاءً، ولا يكاد يخلو منها أي منزل، فهي رفيقة السهرة وليالي الشتاء الطويلة، لما فيها من فوائد صحية ووقائية، فيكثر استعمالها، لأنها مرتبطة بمرض الموسم «الكريب»، فضلاً عن أنها تدخل الدفء الى الأجساد الباردة..
والزهورات، هي عبارة عن خليط من عدة أعشاب، باتت اليوم متوفرة بشكل دائم في المتاجر والمحال، بعدما كانت العائلات سابقاً تقوم بإعدادها صيفاً، إذ تحتاج إلى وقت وجهد.
عطارة راضي
{ علي راضي (ابن مدينة النبطية)، يُعتبر واحداً ممن خبرهم الحقل، حيث يمضي ساعات طويلة وشهور مديدة في جمع أعشاب الزهورات، إذ نشأت بينه وبين الجبال والوديان علاقة وطيدة، خلال بحثه عن الأعشاب.
ويقول: «إن البحث عن الأعشاب متعة، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة كما يعتقد البعض، فهو يحتاج إلى صبر وبصيرة وخبرة وحب لمراتع الجبال».
في حي السراي العتيق في النبطية، حيث الدكاكين المتلاصقة تُحظى «عطارة راضي»، بشهرة ومكانة رائدة، فهي مقصد كثر من طالبي ومحبي الزهورات، بل إن قلة من النساء وحتى الرجال الذين يجمعونها، يعمدون إلى بيعها له، فهو المتربع على عرشها وذو خبرة لا يملكها كثر، بل تقتصر على أعداد قليلة، إذ يسترسل كثر في التفكير في التعب، والبحث عنها، فيفضلون شرائها.
يُفاخر المعلم راضي، وهو يتأمل سلة خشبية قديمة، فيها زهورات متعددة الألوان كقوس قزح، بأنه يملك خبرة قلائل يملكونها، على الرغم من صغر سنه مقارنة بمن يجمعها.
ويؤكد «منذ 12 عاماً بدأت بجمع الزهورات، لأنني متعلق كثيراً بالأرض منذ الصغر، وبعدها فتحنا محل العطارة، وهذا أعطاني دفعاً لمواصلة المسير، فإنني أشعر بمتعة كبيرة حين أجوب البراري، وخاصة في الصباح والمساء، وأنصح كل فرد بارتياد الحقول حتى وإن إقتصر الأمر على السير فقط، حينها يتنفس هواءً نظيفاً وترتاح نفسيته».
ويضيف المعلم راضي: «إن الأطفال والشباب والنساء والكهل، كلهم يلجأون إلى الزهورات طلباً للتداوي من الرشح، فهو وصفة الأجداد، وفيه فائدة، بل وأكثر، يبدو أنه سيكون ملاذ الكثيرين الذين يهربون من جرعات الأدوية الكمياوية، إلى عبقات الأعشاب البرية، ذات الفائدة العالية، والتي إن لم تنفع فلا تضر».
شغلة يد
ويتابع: «أمضي أشهراً في الحقل، أجمع مكوّنات الزهورات، فكل زهرة تنبت في فصل، فرحلتي تبدأ في الربيع وتنتهي في أيلول، فالبابونج ينبت قرب المنازل القديمة، ويا لعجبه وكأنه يحن إلى أيادي الأجداد التي كثيراً ما استفادوا منها.
والزوفا، التي تكلل أعالي الجبال، أما الصعتر فينبت بين الصخور، وما أدراك ما هي صعوبة تجميع زهرة القندول، ذات الفائدة العالية، التي يعمد البعض على دوسها تحت الاقدام، ولكنني آسف اليوم الى ما ألت إليه رحلة الحقل لدى جهلتها، الذين لا يلمون بخباياه، إذ ينهش بعضهم في جذورها فيدفعون بها نحو اليباس، وبالتالي الاندثار، وما أدراك ما نفاذ بعض الأعشاب».
ويؤكد المعلم راضي «إن جمع الزهورات «شغلة» يد، وليس كما يعمد إليه البعض «على الماشي»، وأسعارها تختلف من محل وآخر، فالزهورات «الإكسترا» يباع الكلغ الواحد بـ 12 ألف ليرة، لأن جمع الزهر مُتعب وصعب، وتجميع «زهر القندول» فيه الكثير من الخطر الكامن داخله، والزوفا كان سابقاً متوافر بكثرة، أما اليوم فإنه يتجه نحو الإنقراض بسبب طريقة قطفه الخاطئة، أما الزهورات «العادية» فيباع الكلغ بـ 5 آلاف، والسبب أنها لا تحوي كل أنواع النباتات، عكس زهوراتنا المشهورة، التي تلقى إقبالاً، خاصة في هذه الفترة، حيث يهرب الناس من غش الأدوية».
الدواء الشافي
{ أما العم سالم، فهو واحد من قلة قليلة من الذين ما زالوا يواظبون على إعداد الزهورات، ويقول: «أبحث عن وردة الحصان والبابونج، اللذين يتواجدان حول المنازل القديمة، وبعد الانتهاء من جمعهما أجففهما في الهواء الطلق، ويحتاج الأمر إلى 4 أيام فقط، ثم تحفظ في مكان بارد، وكل الشتوية نقضيها بشرب الزهورات، فهي الدواء الشافي للكثير من عوارض الشتاء».
ويضيف: «أخرج كل يوم من السابعة صباحاً، بعد أن يكون قد جف الندى، أجوب الجبال والبراري أجمع النباتات، ولا يخلو الأمر من بعض الحوادث، التي تُصادفني، إذ أذكر ذات مرة انني كنت أقطف زهرة القندول، وإذ بأفعى في كفة يدي، فإرتعبت، ثم قتلتها، وهذا الأمر يتكرر كثير، فغالباً ما تُصادفنا الأفاعي».
ويتابع: «منذ القدم والأهل يجمعون الزهورات، وهي ذات مكانة رائدة في منطقة النبطية، فكل كبار السن يملكون خبرة في جمعها بحكم علاقتهم الحميمة مع الأرض، وغالبية وقتهم معها، وهذا ما جعلهم يخبرون الأرض وأنواع الأعشاب والنباتات وفوائدها، فأيام زمان لم يكن هناك أمراض، وإذا ما توعك أحد، يلجأ للنباتات، يغلي البابونج أو الزوفا أو حتى اكليل الجبل. إما جيل اليوم فهو لا يهتم لهذه الأمور، ولا يعرفون ما معنى الذهاب الى الحقل، إذ لا يأبهون للأمر، وما يرغبون به هو الشيء الجاهز، وأكثر من ذلك أن غالبية جيل اليوم لا يعرفون ما تحويه الزهورات، ولا كيف تجمع، ما يعرفونه فقط أنهم يطلبونها ويشربونها، لا يسألون عما يحتوي كيس الزهورات، ولكن يبدو سرورهم على الثغر بعد شربها لما لها من فائدة ومنفعة».
ويختم العم سالم: «إنها سنة الحياة، الجيل القديم يجمع الزهورات، والجديد يشتريها ويشربها، ولكن الزهورات تبقى شفاءً تغني عن الدواء، تماماً مثل جيل يلجأ إلى الدواء وآخر إلى الزهورات والنباتات، وما بين الإثنين حياة عامرة، ولكن يبدو أن العودة إلى الأرض لن تطول، في ظل غش الأدوية».
الزهورات.. رفيقة فصل الشتاء وسهراته وشفاء يُغني عن الدواء
تعليقات: