أمـــاكـن عبـــادة خـــارج القـيـد الطـــائـفـي

سيدة المنطرة: هنا انتظرت العذراء ابنها
سيدة المنطرة: هنا انتظرت العذراء ابنها


تشهد أماكن العبادة (المساجد، الكنائس، المزارات والمقامات والمغارات المقدّسة...)، التي تنتشر في لبنان، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، على أهمية طقوس العبادة في الثقافة اللبنانية.

يعتقد البعض أن أماكن العبادة حكر لديانة أو طائفة معيّنة، ويحاول البعض التقسيم بين أماكن العبادة الإسلامية والمسيحية، غير أن قلة من اللبنانيين تدرك وجود مشترك بين المسلمين والمسيحيين، يتمثّل في زيارة مسلمين مواقع دينية مسيحية وتوجّه مسيحيين إلى أماكن دينية مسلمة.

تؤكّد الباحثة في الأنتروبولوجيا الدينية في «المعهد الفرنسي للشرق الأدنى - Ifpo» الأستاذة الجامعية في كلية العلوم الدينية في «جامعة القديس يوسف» الدكتورة نورا فرّا حداد، وجود حوار شعبي وعفوي مشترك في الزيارات بين المسلمين والمسيحيين في لبنان. يقصد الأفراد المزارات والمقامات الدينية المشتركة لتقديم النذور، والدعاء، والطلب من القدّيسين أو الأنبياء تلبية حاجاتهم الإنسانية مثل الشفاء من مرض أو النجاح في امتحان أو إنجاب الأولاد وغيرها.

لا يخبّئ الفرد، وفق فرّا، هويته الدينية في تلك الأماكن، ويتكيّف المؤمنون بطقوس المقام الديني وإن اختلفت مع طائفته أو ديانته. يبحث الزائرون عن الأمل غير المرتبط بطائفة معيّنة، بل بحاجة إنسانية جمعاء، محاولين ربط وجودهم ومشاكلهم الحياتية بالله.

في المقابل، تلاحظ فرّا أن حركة الأفراد المسيحيين تجاه أماكن العبادة الإسلامية أخفّ من حركة المسلمين تجاه المزارات المسيحية. ويحارب بعض رجال الدين بعض الطقوس والعادات الشعبية التي يعتبرونها بدعة، غير أن تلك الطقوس تبقى مترسّخة في الثقافة الشعبية.

تشير فرّا إلى أماكن عبادة مشتركة عدّة في لبنان، منها: دير سيدة النورية الذي يقع على تلة رأس الشقعة المطلة على بلدة شكا جنوب طرابلس. يعتبر الدير معلماً أرثوذكسياً، ومحجّاً للسيدة العذراء غير أن معظم أهالي الشمال من مختلف الطوائف اللبنانية يزورونه.

يقصد اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين، دير سيدة بشوات للتبارك وطلب الشفاء والنعم. يقع الدير في منطقة البقاع على السفح الشرقي من سلسلة جبال لبنان الغربية. وحصلت فيه مع زوّار مسلمين، «عجائب». فقد روى الطفل الأردني محمد الهوادي، في العام 2004، أن السيدة العذراء ظهرت عليه.

وتروي الأساطير أن السيدة العذراء كانت تنتظر ابنها يسوع، وهو يبشّر في صيدا وصور والصرفند، في مزار سيدة المنطرة في منطقة مغدوشة على بضعة كيلومترات من صيدا. ويشكّل المزار معبدا للروم الكاثوليك، ويزوره أهالي صيدا والجوار، اللبنانيون والفلسطينيون، من مختلف الطوائف لنيل البركة والدعاء.

ويعتبر مزار السيدة السعيدة في البقاع مزاراً إسلاميّاً مكرّساً للسيدة العذراء، وهو مزار صغير يقصده المسلمون والمسيحيون، ويعلّقون على أشجار الزيتون نذورهم وطلباتهم. ويعود مقام النبي يونس في منطقة الجيّة إلى عهد المماليك، وهو مقام تابع للطائفة الشيعية ويقصده المسيحيون والمسلمون على السواء.

تشير فرّا إلى أن مقامات النبي نوح في الكرك في زحلة، والنبي ايلا في بلدة النبي ايلا، ومقام النبي أيوب في نيحا، هي أماكن عبادة مشتركة، لا يقصدها أبناء الطائفة فحسب.

وتلاحظ أن القديسين اللبنانيين، مثل رفقا ومار شربل والحرديني، لم يعودوا حكراً على طائفتهم، بل تكرّسوا رموزاً وطنيّة يصلّي لهم المؤمنون من مختلف الطوائف اللبنانيّة. لم تنتظر الحشود المراسيم الرسمية لتطويب القديسين بل أظهروا إخلاصهم وصلواتهم قبل ذلك.

تسجّل الأعوام الأخيرة، وفق فرّا، اهتماماً بارزاً في الدراسات في شأن عبادة القديسين وسيرهم الحياتية، بينما يطرح باحثون كثر التساؤل في شأن المعتقدات والممارسات الدينية لفهم المجتمعات وحركتها وتطوّرها.

قامت فرّا والباحثة هدى قسطلي بدعم من «المجلس الوطني للبحوث العلمية» في العام 2011 ببحث ميداني في شأن أماكن العبادة والطقوس المشتركة في لبنان. تركّز البحث على بيت أبونا يعقوب في غزير ودير الصليب الذي أسسه الأب يعقوب في العام 1919، وعلى أماكن العبادة في جنوب لبنان مثل مقام النبي عمران في القليلة، والمعروف بأنه والد السيدة العذراء، ومقام شمعون الصفا في بلدة شمعا، ومواقع قانا، وسيدة المنطرة في مغدوشة. وبيّن البحث وجود طقوس وعادات دينية تنشأ وتتطوّر في تلك المزارات، مثل أن توضع الراهبات في سلّة بعض الجمل التي كتبها أبونا يعقوب فيختارها الزوار معتبرين أنها رسالة شخصية لهم. وتشهد تلك الأماكن، وفق فرّا، حركة حج من جميع الطوائف للتبارك والصلاة.

ذكر اسم لبنان 96 مرّة في العهدين القديم والجديد، من دون أن يمتلك لبنان اليوم موقعاً بارزاً على خريطة الأراضي المقدّسة. ما يوجب، وفق فرّا، العمل على إعادة صورة لبنان المقدّس إلى الأذهان وإلى خريطة الأراضي المقدسة من خلال الدراسات العلمية والسياحة الدينية.

في الإطار عينه، يقوم اليوم عدد من الباحثين من «جامعة القديس يوسف» و«الجامعة اللبنانية الأميركية» و«المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ifpo»، وبالتعاون مع المعهد الفرنسي «CNRS-EHESS» ومعهد «IDEMEC»، بمشروع بحثي في شأن «الطقوس الدينية في لبنان: بين الانفتاح والانغلاق الطائفي». يهدف المشروع إلى دراسة الطقوس الدينية، نشأتها وتطوّرها من أبعاد عدّة: فردية، مجتمعيّة، ودينية. وتطرح الدراسة تساؤلات تحليلية عدّة، مثل أثر وسائل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على الطقوس والشعائر الدينية، دور المؤسسات الراعية، المعاني المختلفة التي تحملها تلك الطقوس. ويشارك في المشروع باحثون من خلفيات علمية متعددة في الآثار والاقتصاد والسياسة وغيرها.

>>>

>>

>

«الإمام الأوزاعي» «شفيع المسيحيين»

عاصم بدر الدين

البيت الكبير بين بيوت صغيرة. عمرانه، في منطقة الأوزاعي، مفارق. كأنه، وسط فقرهم، شفيعهم. يتجاوز مقام الاوزاعي مكانه. وهو أصل التسمية. التمدد، والعمران العشوائي، لاحق عليه. لكنه، أيضاً، القادر الوحيد على جذب غرباء إلى هذه المنطقة. زيارة القفص، المرتفع، المذهّب والأخضر، طلب واستراحام.

الحكايات كثيرة عن المجيء إليه. لكن المؤكد بينها، أنه باب للراحة. والناس تصدق بعضها. والإمام (عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي 707- 774) الذي ترك دمشق، مكان ولادته وعيشه، بحثاً عن «مكان رباط» ليتفرغ للجهاد والعلم في آخر عمره، اختار بيروت. أخذ بيتاً في زاوية منطقة الأوزاعي الآن. كان يتركه يومياً ليرابط على البحر، في مسجد وعرزال صغيرين. هكذا، صار قبره مقاماً.

لدفنه روايتان. تقول واحدة إن أهل المنطقة البحرية، وهم سكّان بيوت معدودة، أصروا على أن يدفن بينهم. أما الثانية فتروي أن إخراجه من بيروت كان انتقاماً من الحكام العباسيين الذين اعتبروا أنّه يدعم الأمويين. تغير المدفن منذ ذلك الحين. توسع، وصار مبنى واحداً. وفي الستينيات بني «مسجد الامام الأوزاعي» في مكان قريب وعلى أوقافه. وهذه، في نقصانها المستمر، حكاية خاصة.

يقدر الجميع المقام للسيرة العلمية والروحانية لصاحبه. وهو مجتهد وصاحب مذهب كان منتشراً في بلاد الشام والأندلس. كان «عالماً عابداً تظهر عليه الكرامات». يزوره اليوم لبنانيون وعرب وغيرهم. وزيارته كزيارة أي رجل ميت. تُقرأ له الفاتحة ويدعى لله عنده. ولأنه كان صالحاً فإن «مظنة قبول الدعاء عنده أكبر». إذ في مقامه، ومقام سيرته، ملائكة وحضور. كأنه بيت للمهموم. «وهو باب مفتوح لله». لكن الشيخ هشام خليفة، مدير الأوقاف في «دار الفتوى الإسلامية»، يلحظ «حالة من راحة نفسية وروحانية تحصل بعد خروج الناس من عنده».

لا يقتصر الاوزاعي، وفقه، على الفقراء. ولا على المذهب السني، بل يزوره الشيعة والمسيحيون. هكذا، يحكي خليفة عن رهبان يأتون أسبوعياً إليه.

يُعرف الإمام الأوزاعي بأنه «شفيع المسيحيين»، إذ رفض سعي الحاكم العباسي الى إجلاء كل مسيحيي لبنان بعدما «ساهم بعضهم في الاعتداء على أملاك الحكم». رضخ الحاكم لشفاعته. يروي خليفة أيضاً أن رئيس الجمهورية الراحل شارل حلو بعث بنذر إلى «مقام الأوزاعي». أكد حلو، حين سأله خليفة في لقاء جمعه به، هذه الخبرية «ولم تكن مرة واحدة».

والأموال التي تصل إلى المقام تجمع في صندوق خاص به. تنفق هذه الأموال في «خدمات العلم» وفي تأمين مصاريف المقام وموظفيه. وتوزع النذور العينية على الفقراء.

>>>

>>

>

«النبي أيلا» ملاذ المتخاصمين

سامر الحسيني

يطلق عليه البقاعيون اسم «قاضي الحوائج». هو «نبي الله الياس» أو نبي الله أيلا، الذي لا يرد محتاجاً أو طالب صلح أو شفاء من مرض، أو ملهوفاً على غائب.

المكان مرتبط بلجوء النبي أيلا إلى السلسلة الغربية في العام 850 قبل المسيح، هرباً من الملكة عتايا زوجة بعل بك التي سميت باسمه مدينة بعلبك الحالية، وحين حاصر جيش عتاليا النبي أيلا، طلب إلى الله أن يرفعه إلى السماء، فإذا بشهب من نور ينتصب من الارض إلى السماء وعربة من نور عليها نبي الله ايلا. وعندما ارتفع إلى مسافة معينة رمى عباءته، فالتقطها خليفته نبي الله ليشع، وكان مكان صعوده عند أعالي بلدة النبي أيلا التي سميت تيمنا باسمه، وهي آخر العنقود في بلدات قضاء زحلة.

يُعد مقام النبي أيلا مقصداً يومياً لزوار من النسوة والرجال والاطفال. وبهذا الحجيج المتواصل ينافس كثيراً من القضاة والمحاكم، إذ يحج إليه يومياً عشرات المتخاصمين لتسوية خلافاتهم، وتشهد أسواره على فض آلاف النزاعات التي كانت قائمة بين أشخاص كثر وعائلات. وقد تحول هذا المقام إلى مرجع لتبيان الحقائق والنيات، وخوف الناس من الحلفان باسمه زوراً كفيل بوضع حد لبعض الامور العالقة، فأكثرية المشاكل تسوى هناك عند القفص الحديد في المقام.

وهو «المكان الاكثر ارتياداً في المناسبات الدينية والاعياد»، وفق محمد محمود ابو الحسن، الذي يحفظ تاريخ هذا المقام.

ويتصدر المرتبة الأولى في البقاع، في عدد زائريه والنذورات التي لا يمر يوم إلا وتكون حاضرة، خصوصاً الذبائح التي تقدم «إيفاء لنذر تحقق بفعل بركات هذا المقام». ويتجاوز عدد الذبائح أحياناً، وفق ابو الحسن، الثلاثمئة في اليوم، إضافة إلى الزوار من مختلف الطوائف والمناطق. وكثيرون منهم يسيرون حافي الأقدام مسافة كيلومترين.

>>>

>>

>

«النبي الخضر» ذهب السلطنة

شوقي الحاج

يستجمع مختار بلدة عين عرب (قضاء راشيا) سمير العبد، خيوط ذاكرته وما جمعته من تسجيلات وأحداث مرّت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ليروي مواقف لم يتمكن الزمن من محوها. يتذكّر «مواكب المؤمنين من الطائفتين الإسلامية والمسيحية، وهي تتقاطر مشياً على الأقدام، عبر الطرق الوعرة والمعابر الجبلية، على وقع الأهازيج، قاصدة مقام النبي الخضر في أعالي بلدة عين عرب، وفاء لنذر، أو التماساً لشفاعة، أو سعياً وراء التبريكات».

ويروي أن «الزوّار كانوا يشبكون الأيادي في حلقات من الدبكة، على وقع الأغاني والأهازيج التي كانت تشيع الفرح والسعادة، وتبعث على الاطمئنان والأمان».

شارك المختار العبد وأترابه من الشابات والشبان، في «كثير من هذه الزيارات الإيمانية». ويتحسر على «تلك المرحلة، التي توقفت مفاعيلها مع الحرب، لتحل محلها مرحلة النزوع نحو الطائفية والمذهبية». يضيف: «كان أهالي البلدة يؤدون الصلاة في مقام الخضر، إلى حين تشييد مبنى المسجد، الذي تتداخل ساحاته مع ساحات المقام».

وقد تعرّض مقام النبي الخضر القائم فوق تلة مشرفة، قبل أعوام، لعملية حفر وسط إحدى غرفه، بترخيص من وزارة الداخلية بحثاً عن ذهب السلطنة العثمانية. وقد تذرّع الفاعل بأنه يملك وثائق تثبت أن الدولة العثمانية قبل انسحابها من المنطقة العربية، طمرت حمولة عشرات الأحصنة من الذهب في ذاك المكان، إلا أن الوزارة عادت وتراجعت بعد سلسلة من الاحتجاجات، وسجنت الفاعل، من دون أن يعرف إذا كانت الوزارة احتفظت بتلك الوثائق أم لا.

>>>

>>

>

«سيدة النورية» أمان الغرقى

لميا شديد

زيارة دير «سيدة النورية» في بلدة حامات البترونية هي حج وصلاة وتأمل، في ظل جو من الخشوع يعكسه محيط الدير منذ مدخله مروراً بالطريق المؤدية إليه والمحاطة بأشجار الشربين والسنديان ترافق الزائر إلى باحة الدير.

هذا المعلم هو أول دير أورثوذكسي في لبنان لجهة استقبال الزوار، والثاني بعد دير مار شربل في عنايا ومزار سيدة لبنان في حريصا. يؤمه المؤمنون من مختلف الديانات والمذاهب ومن بلدان عدة، من عراقيّين وأردنيّين وأوروبيين، خصوصاً في فصل الصيف.

يشهد الدير حالياً ورشة ترميم وتأهيل شاملة نتيجة تفسّخ الارض داخل الكنيسة وخارجها بعد تمدد جذوع الأشجار المحيطة بالدير، ويتم استبدال بلاط الكنيسة بعد استئصال ما تمدد من جذوع الشجر. وأجريت تعديلات على منشآت الدير حيث تم استحداث «كابيلا» صغيرة وضعت في داخلها الايقونات وجرن المعمودية.

يشرف على تلك الأعمال رئيس الدير الارشمندريت جورج صافيتي الذي يسعى لتحويل الدير ومحيطه ومنشآته إلى مكان للصلاة.

ويقول صافيتي: «رهبنة سيدة النورية هي رهبنة مصلية والراهبات لا يمارسن أي نشاط خارج حرم الدير وهن يستقبلن المؤمنين والمصلين والحجاج ويرشدنهم داخل الدير وفي المباني التابعة له».

ويحضّر الارشمندريت صافيتي «لإنشاء مجمع سيدة النورية يضم إلى الدير والمباني المحيطة به مركز المؤتمرات قرب دير مار سمعان العمودي بعدما بدأ العمل بترميم البيت الزراعي المؤلف من 3 طوابق، ويضم قاعة محاضرات بشكل نصف دائري ومركز الخدمات وأمانة سر و7 غرف. وهذا المركز يستقبل 50 شخصاً بإمكانهم المبيت فيه».

هذه المنشأت قائمة على أرض يملكها الدير، على سفح جبل يرتفع نحو مئتي متر عن سطح البحر ويطل على الاوتوستراد من الشرق ومن الغرب على البحر والشاطئ الممتد من البترون إلى شكا وانفه مروراً ببلدة الهري.

هذا الدير الذي أسسه المطران غفرائيل شاتيلا في العام 1880 أنشئ بعدما ضاقت المغارة التي يعود عمرها إلى 1500 عام، في سفح الجبل، ولا يمكن الوصول اليها حتى اليوم إلا سيراً على الأقدام. في العام 500 كان عدد من الرهبان يعيشون في المغارة وبسبب ضيقها تم بناء الدير الحالي على اسم بشارة العذراء بشكل رواق يحيط بباحته الداخلية. كنيسته بازيليكية التصميم، لها جناح واحد ذو فاصل أيقوني حديث من المرمر، ولاحقاً أُجريت تعديلات على أقسام الدير وبنائه. وعلى خاصرة الدير درج حاد العلو يؤدي إلى المغارة في مواجهة البحر. أسطورتها أعطت اسمها للدير: كاد بحاران يغرقان في البحر الهائج، حين ظهرت لهما العذراء منورة وقادتهما بأمان إلى الشاطئ.

ووفق رواية أوريان كريسلون اليسوعي 1650 أن هذا الدير يدعى دير سيدة المنيرة أو النورية لأن العذراء كانت تنير الجبل في ليالي العواصف ليرى البحارة صخور رأس الشقعة. وعليه، فإن البحرية وأصحاب المراكب كانوا يطلبون معونة والدة الاله في رحلتهم.

وحتى اليوم ما زال المؤمنون من مختلف الاديان والمذاهب يقصدون دير سيدة النورية لطلب النعم والشفاءات.

>>>

>>

>

سيدة المنطرة: هنا انتظرت العذراء ابنها

محمد صالح

على بعد خمسة كيلومترات من مدينة صيدا، وفوق تلة تطل على البحر، يقع معبد ومغارة سيدة المنطرة للروم الكاثوليك في بلدة مغدوشة. وتشير التقاليد المسيحية إلى أن السيدة العذراء عندما كانت ترافق ابنها يسوع وهو يبشر في قرى صيدا وصور، كانت تصعد إلى تلك التلة في مغدوشة، تنتظر رجوعه من تجواله، ولذلك سمّيت سيدة المنطرة، وقد حوّل المسيحيون الأوائل المغارة معبدا.

وكان اكتشاف المغارة صدفة، إذ سقطت فيها نعجة لراع في العام 1721، وعند نزوله إليها لجلبها، وجد داخلها مذبحاً عليه صـورة خشبية للعذراء.

وكلمة مغدوشة من أصل سرياني، ومشتقة من «مكدسون» (جامعو الغلال أكداساً وعرمات). والأرجـح أنّ اسم مغدوشة في السريانية يعني قدساً، وقدوساً ومقدسة بالعربية، فيكون اسم مغدوشة مشتقا من جذر «قدس» وتعني «مقدسة». والطريق إليها عبر جنوب صيدا مروراً بجوار بلدة درب السيم المجاورة.

وفي إحدى الروايات التاريخية المتداولة منذ القرن الثامن عشر، فإنّ السيدة العذراء جاءت إلى تلك المغارة في مغدوشة مع التلميذ يوحنا الحبيب، وزارها المسيح بعد جولاته التبشيرية مع رسله لاصطحاب والدته في طريق عودته إلى فلسطين. ومن هنا، وفقاً للرويات المتداولة، تسمية «الدرب» (الطريق الطويل والبعيد) لبلدة درب السين (أو درب السيم). والاسم الأول يعني في السريانية الطريق المؤدي إلى مطلع الشمس والقمر، والآخر يعني باللاتينية الطريق المؤدي إلى القمة والمعنيان واحد.

تبعد مغدوشة عن العاصمة بيروت نحو 50 كيلومتراً، وتقع على رابية جميلة ترتفع عن سطح البحر نحو مئتي متر. ومغدوشة بلدة عريقة في القدم، وقد سكنها اللبناني الأول بعد أن حفر بيته في صخورها، ولا تزال هذه المغاور والكهوف واضحة حتى اليوم، ومنها مغارة «سيدة المنطرة».

وفي الروايات أنّ جمال الموقع جعل القديسة هيلانة (والدة الامبراطور الروماني قسطنطين الكبير) تطلب من ابنها سنة 324 أن يبني برجاً مقدساً لعبادة العذراء في المحلة المعروفة اليوم بـ«محلة البرج»، والتي يرتفع عليها اليوم تمثال للعذراء تم تثبيته في العام 1963.

ويقول خادم مزار سيدة المنطرة الارشمندريت سمير نهرا: «على مرّ الزمن والعهود اقترن اسم مغدوشة باسم مريم العذراء فعرفت ببلدة العذراء، وعرفت المغارة بسيدة المنطرة، وتحولت إلى مزار يفد اليه الأهالي والزوار والمؤمنون، من مسيحيين ومسلمين».

>>>

>>

>

دير ومحبسة عنايا لكل الناس

ايلي القصيفي

من بعيد يتبدى دير مار مارون في عنايا، حيث ضريح القديس شربل مخلوف (1828-1889) مكاناً للناس، جميع الناس. كأنّ موقعه المفتوح على الجهات الأربع، على البحر والجبل، هو هويته. أن يكون دير مكاناً عاماً، يقصده الناس، ففي المسألة مفارقة إذا قيست على وظيفة الدير بما هو مكان للزهد والنسك، بعيداً عن الناس، و«الحياة الدنيا».

صحيح أن «الاجتماع الماروني» هو اجتماع ديري أو «ديراني»، إذ إن الجماعة المارونية الأولى نشأت حول دير تلامذة مار مارون في أفاميا قرب العاصي. وصحيح أنّ الموارنة بعد نزوحهم الجماعي من «سوريا الثانية» إلى جبال لبنان بين القرنين الثامن والتاسع عاشوا حول الأديرة، وحولها كانت حياتهم.

لكنّ الدير كان دائماً مكاناً خاصاً، ولم يتحوّل، إلا في مناسبات وظروف خاصة، مكاناً للناس، لعامة الناس.

كسر شربل مخلوف القاعدة. هذا القروي الآتي من أعلى قرية في لبنان (بقاعكفرا - قضاء بشري) حوّل الدير إلى مكان عام. كأنّ النور الذي سطع من قبره ليلة دفنه، (وفق رواية شهود مسجّلة) كان علامة لدعوة الناس، كل الناس إلى الدير.

هكذا، استطاع راهب ملتح نحيف الوجه، مغمض العينين، أن يجذب إليه ملايين البشر من أصقاع الكرة الأرضية، من أديان، أعراق، ألوان ولغات مختلفة.

هكذا، تُعرض في معرض الدير رسائل من مؤمنين من بلدان في شرق المسكونة وغربها، في شمالها وجنوبها. فمحاولة إحصاء الناس في باحة الدير بلا أفق. وكذلك تبيان أصولهم وانتماءاتهم جهد بلا طائل. في باحة الدير يأتي الناس ويرحلون، لا يتركون وراءهم لا عنواناً ولا اسماً، لا أصلاً ولا فرعاً. تنظر إلى وجوههم فيظهرون متخففين من أي انتماء، من أي فكرة. هم في باحة الدير وفي كنيسته القديمة ناس فحسب.

على بعد مئات الأمتار من الدير، إلى أعلى، محبسة القديسين بطرس وبولس. المحبسة المبنية في العام 1798 تحافظ على تماسك حجارتها، وقد انخسفت بلاطات أرضها الصخرية وبريت لكثرة ما داستها أقدام الزوار. هنا أيضاً تحكم جدلية الخاص - العام هوية المكان. فالمكان الضيق، الذي لا يمكن دخوله من دون حني الرأس، يزوره سنوياً آلاف الناس.

لا يمكن هذا «الشحتار» الأسود الذي يغطي جدران الغرفة التي توفي فيها شربل مخلوف، أن يكون لفئة من الناس. لا يمكن أن يكون إلا لجميع الناس. فتراكمه على جدران وأسقف الغرف في المحبسة، منذ ما يزيد على مئتي عام، يحكي قصة المكان الذي حوله جسد راهب من مكان خاص إلى مكان عام.

>>>

>>

>

مقـــامـــات صـــور تـــاريـخ فـي حـجـــارة

حسين سعد

إلى جانب الأماكن الأثرية والتاريخية في منطقة صور، هناك مقامات ومواقع دينية يزورها المؤمنون من مختلف المناطق، مسلمين ومسيحيين، لتشكل واحدة من أعمدة السياحة، وأماكن التلاقي بين الديانات.

مغارة قانا الجليل

خلص باحثون في علوم الآثار والتاريخ، إلى أنّ قانا الجليل في جنوب لبنان، هي قانا التي شهدت أولى معجزات المسيح، حين حوّل الماء إلى خمر في عرس قانا، وليس كفركنا في فلسطين المحتلة، بينما بقي هذا الأمر غير محسوم بالنسبة إلى الكنيسة.

في موقع مغارة قانا، في الطرف الغربي للبلدة، ستة أجران و35 رسماً لأشخاص منقوشة في الصخر، وعدد من النصوب، وقد تم تطوير الموقع في العام ألفين، وأنشئت ممرّات للوصول إلى المغارة الواقعة في أسفل التل، على نفقة وزارة السياحة.

وبعد تصنيف الموقع سياحياً، تشهد مغارة قانا إقبالاً محلياً، من العديد من الفئات الدينية، ولا سيما المسيحيين، الذين يقصدون المكان للتبرك والسياحة الدينية.

وقد أعطت زيارة البطريرك بشارة الراعي مغارة قانا في العام الماضي، بعداً دينياً إضافياً للمكان ساهم في التحفيز على زيارته، أقلّه على المستوى المحلي، بينما ينتظر أن تضم المغارة إلى لائحة الأماكن الدينية المسيحية، التي يعتمدها الفاتيكان، لكي تجذب السياح من كل أنحاء العالم.

وتتولى بلدية قانا الاهتمام بالموقع، لناحية الصيانة وتأمين النظافة العامة، ويتم الدخول اليه بواسطة بطاقات على غرار المواقع السياحية.

ويؤكد رئيس البلدية محمد عطية أنّ موقع مغارة قانا في منطقة الخشنة، يشهد إقبالاً دائماً للزوار من كل الأراضي اللبنانية، وخصوصاً في فصلي الصيف والربيع، والمناسبات الدينية المختلفة.

يضيف: «إنّ وزارة السياحة، لا سيما في عهد الوزير فادي عبود، تولي اهتماماً بموقع المغارة، وذلك لناحية اعتمادها في الدليل السياحي، وفي مطار بيروت الدولي».

وأمل عطية أن «يصار إلى إدراج مغارة قانا على لائحة الأماكن الدينية المسيحية المعتمدة في الفاتيكان، وأشار إلى سلسلة من النشاطات الميلادية، التي تنظمها «اللجنة الوطنية لإحياء تراث الجنوب»، بالتعاون مع البلدية، وبمشاركة قوات «اليونيفيل».

مقام النبي شمعون الصفا

ينتظر أبو محمد وزوجته كل يوم، أذان الظهر للتوجه إلى مقام «النبي شمعون الصفا» لأداء الصلاة والتبرك في باحة المقام.

لا يمر يوم واحد من دون أداء هذه الفريضة في المقام، بالرغم من وجود منزلهما على بعد عشرات الأمتار من المقام الواقع عند المدخل الجنوبي لقلعة شمع التاريخية.

تحوّل هذا المقام، الذي دمرت الطائرات الاسرائيلية قسماً منه خلال حرب تموز، وأعيد بناؤه وترميمه بتمويل قطري، إلى محجّة للمؤمنين من مختلف البلدات والقرى، حيث يقصده المؤمنون للصلاة والوفاء بالنذور وإضاءة الشموع.

وبحسب الروايات والمعطيات التاريخية، فإن النبي شمعون الصفا هو حواري وابن حمون، يعود نسبه إلى النبي سليمان بن داوود، وأمه أخت النبي عمران والد السيدة مريم العذراء، وهو من مواليد بلدة جسكالا المعروفة حاليا ببلدة «الجش» في فلسطين المحتلة.

وقد بيّنت وثيقة، منحوتة على حجر من حجارة مئذنة المقام، المبنية على الطريقة العثمانية، أنّ تاريخ بناء المئذنة يرجع إلى العام 490 هجرية أي قبل مجيء الفرنجة الذين بنوا القلعة المشرفة على بحر صور وشمال فلسطين.

ويلفت أبو محمد أنّه دأب على زيارة المقام منذ سنوات طويلة، وهو يرتاح في أداء الصلاة في داخله وتلاوة الأدعية، وفاء لـ«هذا النبي الذي يعود نسبه إلى سلالة الأنبياء الصالحين».

مقام النبي عمران في القليلة

في الطرف الشرقي لبلدة القليلة، في داخل غرفة حجرية كبيرة، تعلوها قبة خضراء، ضريح ينسب إلى النبي عمران، والد مريم العذراء، حيث يطلق على هذا القسم من البلدة اسم «عمران».

وتستند الأدلة التاريخية، في تأكيدها أنّ المقام يعود إلى النبي عمران، إلى أحاديث مكتوبة، يذكر فيها رجلان بهذا الاسم: عمران والد النبي موسى، وعمران والد السيدة العذراء، وبالتالي يرجح أن يكون المقام للنبي عمران والد السيدة العذراء، الذي ذكر في القرآن الكريم من ناحية، وعدم وجود مكان آخر يدل إلى ضريحه من ناحية اخرى.

المقام الذي لا تتعدى مساحته الخمسين مترا مربعا، بني في المرحلة العثمانية، وعلى مدخله الخارجي تاجان من الرخام، على غرار مداخل الكنائس، فيما سكن الضريح المجدد خلف المحراب.

ويتوافد إلى المقام، الذي رمّم على مراحل مختلفة، الكثير من الحجاج، مسلمين ومسيحيين، للصلاة والدعاء.

ويشير رئيس بلدية القليلة جمال شبلي الى أن «الزيارات الدينية إلى المقامات لا تزال ضعيفة، لكنّها تحسّنت عن السابق»، ويؤكد أن البلدية تهتم بهذا الموقع الديني الذي يؤمه المسلمون والمسيحيون، متمنياً تسليط الضوء على هذه الأماكن، لتعريف الناس أكثر بأهميتها الدينية والتاريخية.

تعليقات: