صورة من المعرض الذي أقامه الدكتور يوسف غزاوي في قصر الأونيسكو
هي رحلة في تخوم الإنسانيّة، سفر في مرافىء أشخاص عرفناهم علامة في تحوّلات الحياة بألمها وأملها، بحزنها وفرحها، بسعيها وتعبها... وجوه نزعت عنّا أقنعتنا وما خفيَ من خطوطها وأشكالها. هي تحيّة وفاء لهؤلاء الذين نذروا حياتهم لتلك الإنسانيّة الباحثة عن معنى لوجودها...
لقد مثّل الوجه، لأهمّيّته وارتباطه بحياة الإنسان على مرّ العصور، عنصر جذب للفنانين، ولا سيّما الذين قاموا برسمه وفق رؤيتهم وأهوائهم وتطلعاتهم الخاصّة. لوحات امتلأت بها المتاحف، روت تاريخ أصحابها. يقول فان غوغ أنه "منكبّ دائماً على رسم الوجوه"، وأنّ ما يُلهب حماسه أكثر من أي شيء هو البورتريه. فلو قدّر لنا أن نضع أمام أعيننا جميع الوجوه التي رسمها هذا الفنان على شكل بانوراما فنيّة لأدركنا أنّ رسومه كلها تختزل أحزان العالم بأسره. حتى أنّ حذاءه نلمح فيه دفئاً إنسانياً يشعّ منه. الوجه بالنسبة لي هو جواز مرور إلى الداخل إلى ما وراء الروح والأسرار...
إذا كان الفن، كما يقول الباحث "دنيز ويزمانس" هو انتصار على الوقت، وخلود اللحظة، وتجاوز الدنيوي"، فهذه المسامات انتصار على تحوّلاتنا وعبثنا. هي دعوة إلى التأمّل الهادىء وإضاءة داخليّة على هذه العيّنة الإنسانيّة التي أعطت معنى لحياتنا وفكرنا. هم نوافير ماء وبراكين ضوء. الفنّ هو نتاج لإيصال تجربة إنسانيّة إلى الآخر...
لم أقصد في لوحاتي لبعض الأشخاص المعروفين إقامة شبه بينها وبين الأصل، بل إظهارها كما أشعر بها، والتقاط بعض خصائصها وحالاتها للإشارة إلى كينونة فعلها وما تركته من أثر في صراعها مع الأحداث والزمن... المهاتما غاندي، نلسون مانديللا، محمود درويش، فريد الأطرش، فيروز، وديع الصافي، ابطال فلسطين... نموذج من كمّ كبير امتلأت بهم الإنسانيّة؛ وجوه تحدّق بنا، تدعونا إلى التأمّل والتحدّي تعلن وجودها باستمرار. رسمتُ التطوّر الكامل لوجوههم إلى حين العثور على كامل جمالاتها، ولإظهار نقاوة عناصرها في حضورها. بعضهم يتجه كالفراشة نحو الضوء، نحو الموت، نحو الخلود. رسمتهم مع رغبة عارمة بالوقوف على سرّهم الحقيقي. يقول الفنان كاندنسكي في كتابه "الروحانيّة في الفنّ": "... وللفنان الحقّ في استخدام أيّ شكل من الأشكال التي يعدّها ضروريّة لتحقيق هدفه، بل أنّ من واجبه أن يفعل ذلك". هذه الوجوه والأشكال الأخرى ليست محاكاة لمشهد حيّ، بل بديلاً للحياة نفسها. حتى الحذاء، فقد سبق لهوميروس أن وصف حذاءه بالجميل، وسبب ذلك أنّه يساعده على الطيران والسير... كذلك فعل فان غوغ مع حذائه... أما حذائي فالقصد منه قد يكون مختلفاً؛ هو سلاح في زمن رديء... حذاء ارتبط به شرف الأمّة بعد طلقة "منتظر الزيدي" المقهورة في وجه قاتل.. أمّا بورتريه "الدمية" فله علاقة بطفولة كل منا التي لا تشيخ وإن تعلقت بجماد هذه الدمية الممتلىء شغفاً وضوضاءً واهياً.
مشوار مشاه هؤلاء ويمشيه البعض. حتى الأناس العاديين الذين تحوّلت حياتهم إلى واحة تعب وعطاء. أعمال لا تندرج ضمن الواقعيّة التي عرفناها بل أنّ "الشكل الواقعي قد يكون عانياً أيضاً في موقعه بوصفه تجريداً" كما يقول الباحث "كلايف بيل". أردتُ تأكيد الجانب التعبيري أو التوصيلي، إلى جانب التشكيلي في آنٍ واحد. غيّبتُ الخلفية كي لا يرتبط الحدث بزمان أو مكان معيّنين. هي أعمال لا تنصاع للواقع بل تنفذ إلى داخله وترى صميمه من خلال بعض الصور المكبّرة كمجهر يحاول الذهاب إلى ما وراء الوجوه لالتقاط مفاتيح أسرارنا.
عمدتُ في بعض اللوحات إلى استعمال الأسود والأبيض للدلالة على زمن جميل مضى، ولللإشارة إلى الوقع الدرامي الذي يمثله هذا اللون القابع في عتمة الوجود والنسيان.
مشوار، هو بانوراما إنسانيّة وجوديّة بما أحاط بها من إشكاليات وانتماءات تقول أنّ الفنّ خلاص وتطهير ممّا علق فينا من غبار الأيام ووجع الفرح وبسمة الألم... هذا المعرض هو امتداد لكتابي "غرنيكا الخيام..." الذي هو عبارة عن سيرة ذاتية ومشوار حياة رسمته الأمكنة الباحثة دائماً عن أبطالها وفنانيها وشعرائها...
* الدكتور يوسف غزاوي
...
..
.
وحول المعرض الذي أقامه الدكتور يوسف غزاوي في قصر الأونيسكو، كتب أحمد بزون في جريدة السفير الموضوع التالي:
معرض يوسف غزاوي.. الوجه مساحة مفتوحة على الأساليب
احمد بزون
مع معرضه الذي أقامه في قصر الأونيسكو وزّع الفنان يوسف غزاوي كتابه الجديد «غرنيكا الخيام»، ليضعنا أمام مفارقة بين كتابة تهتم بالمكان ولوحة تمحوه لمصلحة الإنسان أو النفس البشرية، أو بين كاتب يرسم وجهه بالكلمات وفنان يصوّر وجوهاً عرفها بالألوان. على أن المعرض حمل عنوان «مشوار»، وهو ينطبق على المعرض والكتاب معاً، ما دام الفنان/ الكاتب يغزّ في هذه الدنيا بقلم وريشة، فهو فنان وناقد، وقد وزع مع معرضه الذي ركّز فيه على تصوير الوجوه بياناً يقدم وجهة نظره، فالمعرض موقف فني، وموقف من الحياة والأحداث أيضاً.
يقول غزاوي: «لم أقصد في لوحاتي لبعض الأشخاص المعروفين إقامة شبه بينها وبين الأصل، بل إظهارها كما أشعر بها، والتقاط بعض خصائصها وحالاتها للإشارة إلى كينونة فعلها وما تركته من أثر في صراعها مع الأحداث والزمن». فهو قدم مجـموعة من الوجوه: غاندي، جبران، فيروز، وديع الصافي، فريد الأطرش، محمود درويش، البطريرك الراعي، شوقي بزيع، نلسون مانديلا، وآخرون. كما قدم وجوهاً أخرى غير معروفة، أو وجوهاً نموذجية، فلاحاً مثلاً... وفي كل ذلك نرى قبل أي شيء هدفاً أولاً هو التكريم أو التحية الإنسانية. ثم إن فن البورتريه، بحسب غزاوي، «لا يزال يلهب حماسة الفنانين»، باعتبار تصويره يشكل نافذة مهمة للدخول إلى النفس البشرية، للنفاذ إلى الأحاسيس والانفعالات والأحلام. فالإغراء ليس في تشكيل الوجه كمساحة مفتوحة على احتمالات شكلية ومضمونية شتى، إنما في تجربة الغوص في أعماق النفس أو الشخصية. هي لعبة مغوية للفنان الذي يريد أن يتحدّى، أو يتعمّق أكثر في فهم الناس أو الشخصيات التاريخية. يمكن للوحة بهذا المعنى أن تختصر كتاب سيرة، كما يمكنها أن تختصر عالماً، أن تقول الكثير من خلال الوجه. لذا بقي الوجه مقصد المدارس الفنية كلها، بقي الجميع يتعاملون معه، إن بواقعية كلاسيكية أو بتجريد متطرف.
لم يتعامل غزاوي مع الوجه باتجاه واحد ولا بمستوى واحد ولا بأسلوب واحد. فهو سعى في بعض الوجوه لأن يقدم الشبه، ليس بالمعنى المهني، إنما بالتعبير عن حنين لشخص تحول إلى رمز، فغاندي مثلاً لم يعد مجرد هيـئة وشكـل، إنما بات دلالة ومضموناً وفلسفة حياة، فاختيار الفنان له اختيار معنى لا شكل. في حين سعى مرة ثانية للتعامل بانطباعية لونية، ثم مرة ثالثـة لكـشف الداخل، داخل الشخصية الممتزج بداخل الفنان بتعبيرية وتحرر من الالتزام بالشبه. نراه أحياناً يشبع الوجه تفصيلاً وتدقيقاً ونمنمة، ومرة أخرى يختزل قاصداً الجوهر. ثم تمتزج الواقعية التمثيلية والتجريد في الوجه الواحد، فهو وإن قيّد نفسه بالشبه عموماً، غير أنه أصرّ على أن يترك لنفسه مساحات حرة يذهب إليها عندما يفرغ من مطابقة الصورة للشخص المقصود، أو يفرغ من الإيماء إليه.
لا شك في أن الوجه هو الموضوع الأسـاس في المعرض، وإن علق الفنان في معرضه أعمـالاً أخرى من مراحل مختلفة في تجربته، من بداية الثـمانينيات وحتى العام 2010، ربما ليلمح إلى أن فنه لا يندرج في هذه الأساليب التي قدّمها في البورتريه، أو لتكون ذاكرته الفنية حاضرة إلى جانب جديده، في استعادة بسيطة (وتلك وجهة نظر لا أحبذها).
في المعرض عمل تجهيزي مؤلف من عدد من الكراسي، مصفوفة بشكل دائري، على كل منها كلمة أو جملة تتعلق بقانون الانتخاب، أمامها كرسي معلق. هي سخرية ناعمة من همروجة الانتخابات الحالية والسعي للكراسي بأي ثمن.
معرض غزاوي، إذاً، ليس عودة إلى فن البورتريه، إنما تعبير عن حنين إلى فن يمكن أن يشكل مساحة مفتوحة على آفاق التعبير.
أحمد بزون
صورة من المعرض الذي أقامه الدكتور يوسف غزاوي في قصر الأونيسكو
صورة من المعرض الذي أقامه الدكتور يوسف غزاوي في قصر الأونيسكو
صورة من المعرض الذي أقامه الدكتور يوسف غزاوي في قصر الأونيسكو
صورة من المعرض الذي أقامه الدكتور يوسف غزاوي في قصر الأونيسكو
تعليقات: