بيان سياسي حول الأوضاع السياسية والاقتصادية الراهنة

شربل نحاس
شربل نحاس


البيان الذي أعلن عنه يوم الجمعة المنصرم خلال مؤتمر صحفي في قصر الأونيسكو لإعلان موقف سياسي وتحرّك مشترك بين:

المبادرة الوطنية للدفاع عن السلم الأهلي والتغيير الديمقراطي

التحالف الوطني التقدمي

الحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي

وعدد من الجمعيّات والمجموعات الشبابية الناشطة في الحقل العام

تناول الموقف والتحرّك المواضيع الثلاث التالية:

الطبيعة المدنيّة للدولة

قانون الانتخاب

سلسلة الرتب والرواتب

وقد تلا البيان شربل نحاس.

****

المكتب الإعلامي لشربل نحاس



بيان اللقاء التنسيقي للقوى الديمقراطية


الجمعة 15 شباط 2013،

قصر الأونسكو، بيروت

إزاء الأخطار الجسيمة التي تتهدد لبنان اليوم على الصعد كافة، الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإزاء تفكك بنى الدولة تباعا، وتعطل أداء وظائفها، وانهيار مصداقيتها ومرجعيتها،

ومن أجل حشد كل الطاقات الوطنية وتوحيد جهودها في مواجهة هذه الأخطار،

ولكي تتمكن القوى الوطنية الديمقراطية من المساهمة الفاعلة في قيادة البلاد إلى بر الأمان، وإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس وطنية منيعة وراسخة،

التقى ممثلون للتكتلات السياسية الآتية:

المبادرة الوطنية للدفاع عن السلم الأهلي والتغيير الديمقراطي،

التحالف الوطني التقدمي،

الحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي،

وممثلو جمعيات أهلية وناشطون في الحقل العام

وقد ناقش المجتمعون الموضوعات المتعلقة بالسلم الأهلي وبالانتخابات النيابية وبالمرجعية المدنية للدولة وبإدارة السلطة العامة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، وخلصوا إلى الآتي:

أولاً: في نظام التمثيل السياسي والانتخابات النيابية

يحتدم السجال بين أطراف الزعامات السياسية الطائفية المهيمنة على الدولة حول قانون الانتخابات النيابية العتيد. وكل طرف يبادر إلى طرح اقتراح قانون يتلاءم مع مصالحه العصبوية والأنانية الضيقة، بعيداً من المصلحة العامة للبنان واللبنانيين، ,بالتنكر للمبادئ الدستورية الأساسية، وحتى للقواعد الاصلاحية التي أقرتها وثيقة الوفاق الوطني، وكرستها التعديلات الدستورية. ويسهل بالعين المجردة ملاحظة انجرارهم إلى مناورات ومزايدات متتالية، فيطيحون بمواقفهم المعلنة و\"النهائية\"، كما التأثير السحري للإيعازات الخارجية.

وإذ يزعم كل طرف أن اقتراحه أقرب إلى تحقيق العدالة والتمثيل الصحيح، وإلى روح وثيقة الطائف، وإلى هذا أو ذاك من مقاطع الدستور (التي نرتضيها على علاتها الجسيمة)، وأنه يسعى إلى إقرار قانون يحظى بموافقة \"الجميع\" ويحقق رغباتهم ومصالحهم، يرى اللقاء التنسيقي ضرورة إبراز الحقائق الآتية:

حصل في مجال التمثيل السياسي، كما حصل في سائر المجالات العامة، قضم تدريجي للمبادئ الأساسية للدولة، بما سمي \"أعرافا وعادات\" أولا، ثم بتعديلات نصية، لم يكلف واضعوها أنفسهم عناء إعادة تنظيم مجمل الإسنادات الدستورية والقانونية للحفاظ على تناسقها، فانتهى الأمر إلى ارتباك شديد وإلى تناقضات لا بد حيالها من الاسترشاد بمنطق التراتبية التي تحكم هذه الإسنادات، للأخذ بما يؤول منها إلى تطوير الانتظام العام، من جهة، ولحصر مفاعيل بعض الشطحات المتعثرة في بعضها بانتظار جلائها، من جهة أخرى.

في المبادئ الدستورية الأساسية، كما وردت في دستور 1926 وكما تم تأكيدها في المقدمة المضافة سنة 1990: \"لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد\" (مقدمة-ج)، و\"الشعب مصدر السلطات\" (مقدمة-د)، و\"كل اللبنانيين يتمتعون سواء بالحقوق المدنية والسياسية دون ما فرق بينهم\" (مادة 7)، و\"حرية الاعتقاد مطلقة\" (مادة 9) فالانتماء إلى الطوائف لا يعدو كونه نتيجة عمل اختياري لكل مواطن بمفرده، وكل \"عضو في مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء\" (مادة 27).

لم يرد في الدستور، قبل وثيقة الوفاق الوطني وتعديلات 1990، أي ذكر للطائفية في التمثيل السياسي. أما في وثيقة الوفاق الوطني، وفي باب الاصلاحات السياسية، وانطلاقا من ظرف التمزق الطائفي والميليشياوي المتفشي في حينه، فقد تم في الطائف إقرار مبدأين يجب أن يرتكز عليهما قانون الانتخابات النيابية، وهما:

عند إعادة رسم الدوائر الانتخابية يجب ضمان \"التنوع\" بما يكفل \"صيغة العيش المشترك\". ولقد جاءت الفقرة \"ي\" من مقدمة الدستور ونصها: \"لا شرعية لأي سلطة تناقض صيغة العيش المشترك\" لتؤكد، وبشكل جازم، أن أي مجلس للنواب ينتخب وفق دوائر لا تراعي صيغة العيش المشترك يكون فاقداً للشرعية، ومفهوم \"العيش المشترك\" لا يستقيم إلا عيشا مشتركا بين المواطنين وليس بين أية جماعات إكراهية.

بالعودة إلى محاضر المناقشات في الطائف، يتبين بشكل قاطع أن أول مجلس للنواب ينتخب على أساس المساواة بين المسيحيين والمسلمين. أما المجلس الذي يليه فينتخب على أساس وطني وليس على الأساس الطائفي.

وأما تعبير \"المناصفة بين المسلمين والمسيحيين\" الوارد في المادة 95 المعدلة، وهي من الأحكام \"المؤقتة\"، فقد أتى حصرا في سياق الموجب الملقى على المجلس النيابي المنتخب على هذا الأساس \"باتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية\" ليس إلا. والمقصود بتعبير \"المناصفة\" هو \"المساواة\"، وليس احتكار التمثيل بفئتي الطوائف المصنفتين تحت عنواني \"المسلمين والمسيحيين\" الغريبين عن انتظام دولة قائمة على \"حرية المعتقد\"، وذلك للأسباب التالية:

لا يستقيم الانتظام الدستوري إذا كان القصد من \"المناصفة\" إكراه اللبنانيين على الانخراط في الأطر الطائفية، وكان لا بد، لو القصد كذلك، من تعديل كل المبادئ الدستورية الأساسية المذكورة أعلاه.

تنص المادة 24 على التالي: \"إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزع المقاعد النيابية وفقا للقواعد الآتية: بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، نسبيا بين طوائف كل من الفئتين، نسبيا بين المناطق\". والواضح أن المطلوب هو المساواة، فيما خص الممثلين المنتخبين على الأساس الطائفي، بين المنتمين، اختياريا طبعا، إلى \"طوائف كل من الفئتين\"، بينما يبقى تمثيل غير المنتمين إلى أي طائفة ملزما.

ليست القوانين الانتخابية سوى القواعد التي تسمح بتأطير الوقائع والسلوكيات المجتمعية بالشكل الأمثل للتعبير عن الإرادة الوطنية، ولا بد بالتالي للقوانين الانتخابية من أن تأخذ الوقائع والسلوكيات المجتمعية في الحسبان، وفي هذا المجال:

أدى تراكم مفاعيل النزوح الجارف من الريف وعمليات الهجرة والتهجير التي تسببت فيهما الحرب الأهلية، وعمليات نقل النفوس التي كانت تجري قبل كل انتخابات نيابية خدمة لمصالح القوى الطائفية، وتوزيع \"المجنسين\" لأسباب سياسية، أدى كل ذلك إلى جعل المجتمع اللبناني الحقيقي بعيدا عن صورة مجتمع إحصاء 1932 الذي ما زالت اللوائح الانتخابية مبنية عليه، كما تعرض المجتمع لفرز ديمغرافي قاس، فلم يعد من الممكن بالتالي رسم الدوائر الانتخابية بما يؤمن صيغة \"العيش المشترك\". وهكذا فإن جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة هو الطريقة الوحيدة الملائمة عملياً لضمان هذه الصيغة ولاحترام المبدأ الدستوري للدولة المدنية.

أدى استفحال استخدام المال السياسي، مباشرة أو من خلال \"الأعمال الخيرية\" المزعومة أو من خلال استقطاع مؤسسات الدولة وخدماتها من قبل القوى السياسية، وتفشي استنفار العصبيات الدينية بفظاظة ودون رادع، واستحوازها السافر على الوسائل الإعلامية، أدى ذلك كله إلى ترسيخ سلوكيات زبائنية وغرائزيية تهدد بحرف القوانين الانتخابية عن مقاصدها، وليست ظاهرة \"اللائحة\"، الـ\"زي ما هيي\" أو \"الملغومة\"، والتي لا سند قانونيا لها، إلا تعبيرا عن ذلك، وهكذا فإن الاقتراع المواطني لا يستقيم دون صد تحايل قوى المال والغرائز.

على هذا الأساس، يرى اللقاء التنسيقي أن لا سبيل للتعبير الصادق والفعلي عن إرادة اللبنانيين وهمومهم وطموحاتهم، ولإنتاج حياة سياسية قائمة على الخيارات البرنامجية الوطنية عوضا عن تصادم الزعامات الطائفية والمتاجرة بالقلق، ولاستعادة انتظام التمثيل السياسي، إلا باعتماد قانون قائم على اعتبار لبنان دائرة انتخابية واحدة، وعلى النسبية، مع لوائح مغلقة ودون عتبة دنيا للتمثيل، وخارج القيد الطائفي. ولا يستقيم هذا النظام أيضا إلا إذا تواكب مع إنشاء هيئة مستقلة للاشراف على الانتخابات، وفرض رقابة مشددة على استخدام المال والإعلام، ومكننة الاقتراع والفرز، ومنع أي استخدام مباشر أو غير مباشر لأية حجة دينية أو عنصرية. وبالتالي فإن أي قانون للانتخاب لا يقوم على الأساس الوطني يخالف وثيقة الوفاق الوطني، ويكون المجلس النيابي المنتخب وفق هذا القانون فاقداً للشرعية.

ولما بات واضحا أن مسار الأمور يتجه إما إلى عملية تمديد جماعية للطاقم الحالي، على فشله وفقدانه أية شرعية، وإما إلى اتفاق القوى الطائفية على قانون انتخابات طائفي بالكامل، محكم الهندسة، ومصمم على أساس تعزيز السلوكيات الغنمية القائمة وتأبيد صيغ التعطيل المتبادل للقرار العام، يرى اللقاء التنسيقي الآتي:

لا بد من التنبيه من محاذير الفرضية الأولى، أي تكن حظوظها، بحيث يتوافق أركان التركيبة الحاكمة على التمديد لأنفسهم ولأتباعهم، تحت حجج متنوعة، مثل الحرص على التوافق والخوف على الاستقرار والضرورات التقنية وما إليها، وهي حجج لا تنطلي على أحد ولا تعدو كونها غلافا للاستبداد ولابتزاز المواطنين بتخييرهم بين الخراب واستمرار التسلط. والموقف حيال هذه الفرضية واضح: لا يجوز للوكيل أن يمدد ، بحكم وكالة محدودة في الزمن، مدة وكالته. وكل تمديد أو تأجيل فاقد للشرعية مطلقا.

وأما الفرضية الثانية، وقد عززت حظوظها في الأيام الأخيرة بضعة اتصالات خارجية، فالموقف حيالها أن أي قانون انتخاب مركب أو غير مركب قد تتفتق عنه عبقرية زعماء الطوائف، ويصنف اللبنانيين قسريا ضمن قطعان الطوائف، ويحصر تمثيلهم ضمن الأطر الطائفية التي يفترضها ويفرضها، مخالف لجوهر الدستور الذي يقوم على حرية المعتقد وعلى كون الانتساب إلى طائفة معينة عملا اختياريا يقوم به كل لبناني بمفرده وبحرية كاملة، ولا يجوز أن يكون إكراهيا، ومخالف لموجب تمثيل اللبنانيين بصفتهم المواطنية. ويكون هكذا قانون غير دستوري وباطلا. وعليه يجب أن يلحظ أي قانون انتخاب، في الحد الأدنى:

احترام حق كل مواطن باختيار الأساس الذي يرتكز عليه الانتخاب: الأساس المواطني أو الأساس الطائفي، دون حق لأحد بفرض الانتماء والتأطير الطائفيين على من لا يرغب بذلك من المواطنين،

وعليه اعتماد قانون مركب، بحيث تكون نسبة النواب الذين ينتخبون على قاعدة المواطنة (نسبية على مستوى الوطن خارج القيد الطائفي) مساوية لنسبة الذين يرفضون الطائفية من المواطنين. وتكون نسبة النواب الذين ينتخبون على القاعدة الطائفية مساوية لنسبة الذين يوافقون إفراديا على هذه القاعدة.

ثانياً: في الطبيعة المدنية للدولة اللبنانية

على علاته، وعلى ما حاول البعض إلحاقه به من تشويه، بقي نظام الدولة في لبنان مدنيا.

فالدستور ينص صراحة، في مطلع مادته التاسعة، على أن \"حرية المعتقد مطلقة\"، أي أن كل لبناني، بصفته الفردية، حر بأن يعتقد بديانة ومذهب معينين أو أن لا يعتقد بأي منها، أو أن يعتقد بها ويفسر اعتقاده في الأفعال والأقوال بحرية. ولا قيمة دينية لأي إيمان دون حرية المعتقد.

وأتى \"احترام الأديان والمذاهب وكفالة إقامة الشعائر الدينية\"، الوارد بعد تثبيت المبدأ العام، بوصفه تعهدا من الدولة في سياق حرية المعتقد، يقضي بأن الدولة تمتنع عن محاربة \"الأديان والمذاهب\" وعن قمع \" إقامة الشعائر الدينية\"، وهو تعهد يبقى مشروطا \"بعدم الإخلال بالنظام العام\"،

وأتى أخيرا \"ضمان احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية... للأهلين على اختلاف مللهم\" بوصفه تعهدا متفرعا عما سبق، وليس نقضا له، اي أنه :

أولا، تعهد محصور بالأهلين ومللهم المختلفة – أي الاستثناء- وليس بالتالي بأي شكل من الأشكال الغاء للقاعدة العامة، أي منعا من الدولة لذاتها عن تحمل تبعاتها في مجال وضع أنظمة الأحوال الشخصية لمن يختار، ضمن الحريّة المطلقة للمعتقد، عدم الانتماء لايّ جماعة دينية مذهبية، أي ملّة،

ثانيا، هو امتناع من قبل الدولة عن وضع أنظمة للأحوال الشخصية تناقض أنظمة الأحوال الشخصية (معطوفة على المصالح الدينية)، ليس للبنانيين بمجملهم، بل، هنا أيضا، وحصرا، للأهلين المنضمّين، ضمن مبدأ الحرية المطلقة للمعتقد، إلى جماعة دينية مذهبية، أي ملة، وفي حدود هذا الانتماء.

وقد أتى قرار المفوض السامي رقم 60-ل ر، لسنة 1936، وهو قانون أساسي، ليترجم هذا النص الدستوري:

فأكد أنه من حق \"كل لبناني أدرك سن الرشد وكان متمتعا بقواه العقلية ان يترك او يعتنق طائفة ذات نظام شخصي معترف بها، ويكون لهذا الترك او الاعتناق مفعوله المدني، ويمكنه ان يحصل على تصحيح القيود المختصة به في سجل النفوس\"،

وأرسى أسس تشكل الملل بصكوك تشريعية، واعتماد أنظمة الأحوال الشخصية لكل من \"الملل\"، بصكوك تشريعية أيضا. وعليه صدرت هذه الأنظمة بقوانين في الأعوام 1951 (لغير المحمديين) و1955 (للسنة) و1962 (للدروز) و1967 (للشيعة) وغيرها، وتكون هذه الأنظمة بالتالي، في المنطق الدستوري والقانوني، ناتجة عن قرار 1936،

ولكنه أرسى أيضا، بموازاة ذلك، فيما خص \"اللبنانيين الذين ينتمون الى طائفة تابعة للحق العادي (أي التي لا تنص على أنظمة خاصة للأحوال الشخصية) وكذلك الذين لا ينتمون لطائفة ما خضوعهم للقانون المدني في الامور المتعلقة بالاحوال الشخصية\".

يتضح بالتالي :

أن الدولة، من خلال دستورها وقوانينها، هي التي تنشئ الكيان القانوني للطوائف وليس أبدا كما يدعي البعض أن الطوائف تنشئ الدولة،

أن الدولة تترك لبعض الطوائف، بشرط اعترافها بها وبأنظمتها، وحصرا لمن اختار الرجوع إليها من اللبنانيين، البت بشؤون أحوالهم الشخصية،

أن النظام في لبنان مدني بكليته، وحتى أنظمة الأحوال الشخصية الطائفية، وهي مشروطة واختيارية، تكتسب صلاحيتها من قبول الدولة بها، وهي بالتالي حالات خاصة من النظام المدني ليس إلا.

وعليه يتوجب على إدارات الدولة تسجيل المعاملات التي يجريها اللبنانيون الذين اختاروا عدم الانتماء إلى إحدى الطوائف دون محاججة، وهذا ما أكدت عليه الهيئة الاستشارية العليا ووزارة العدل. ويتوجب بشكل أعم، على الدولة، أن تعيد الأمور إلى نصابها، فلا تجعل من الاستثناءات التي رضيت بها بديلا من القاعدة التي أرست أسس الدولة أصلا، وهي أن الشعب وحده مصدر السلطات، وسمحت بالتالي بهذه الاستثناءات. وهذا الموجب ينطبق على الأحوال الشخصية وإنما أيضا على التمثيل السياسي وعلى السلطة الإجرائية وعلى أوجه الدولة كلها، لأن تشكل الطوائف لا مرجع له سوى هذا القانون.

ثالثاً: في موجبات أداء السلطة العامة وموضوع سلسلة الرتب والرواتب

ينسحب نهج القضم المنهجي لمقومات الدولة على أداء السلطة في المجالات المالية والاقتصادية والاجتماعية.

بعد أن تخلفت الحكومة عن الموجب الدستوري بتقديم مشروع الموازنة السنوية لسنتين متتاليتين وبتقديم الحسابات الصحيحة للإدارة المالية للدولة منذ 1990 وإلى اليوم،

وعلى الرغم من مخالفتها الدستور أيضا بإعلانها أن النفقات المترتبة على زيادة الأجور في الإدارة وعلى تعديل سلسلة الرتب والرواتب لا تدخل في مشروع الموازنة (الذي لم تناقشه أصلا) وأنها تبحث لها عن \"تمويل\"! ضاربة عرض الحائط بمبدأ شمولية الموازنة، وساعية لوضع الموظفين في مواجهة المواطنين،

وبعد أن أيقنت، على إثر صد محاولاتها تدفيع الفقراء والمستهلكين مزيدا من الأعباء الضريبية وإحباط صيغ ترويجية أخرى تكرس احتلال الأملاك العامة حينا وتزيد من تشويه العمران حينا، أيقنت أن الفسحة الضريبية المتاحة سوف تطال الأرباح الناتجة عن المضاربات العقارية والمالية، وعلى الرغم من اتفاقات ووعود لا تعد ولا تحصى، وعلى رغم اتخاذ قرار في مجلس الوزراء بتاريخ 6 أيلول بتطبيق السلسلة،

ارتأى رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي خرق الدستور، وتعطيل قرار السلطة الإجرائية (المادة 17)، وعدم إحالة مشروع القانون من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب، معلنا أن التزامه بمصالح أصدقائه المضاربين يتقدم على المسؤولية العامة التي يتولاها، مقوضا أسس شرعية توليه لها.

وفي سياق هذا الاستقواء، وقطعا للشك باليقين حول العمل المنهجي لتدمير مكتسبات اللبنانيين وهضم حقوقهم، لم تقم وزارة العمل ولا الحكومة بتعيين الحد الأدنى للأجور وتحديد كيفية تطبيق نسبة غلاء المعيشة على الأجور عن سنة 2012، ولم يتورع رئيس مجلس الوزراء عن منع إدارة الإحصاء المركزي من مواصلة جمع مؤشر أسعار الاستهلاك الشهري ونشره.

في المقابل، وبعد أن أبطل مجلس الشورى المراسيم غير القانونية التي صدرت من 1996 حتى 2010، والمتعلقة بما سمي بدل النقل والمنح المدرسية، وبعد أن أقر في مجلس الوزراء في نهاية 2011 مرسومان يرفع الأول الاشتراكات في صندوق \"التعويضات العائلية والمنح المدرسية\" ويوعز الثاني إلى مجلس إدارة الضمان بزيادة تقديماته إلى أولاد الأجراء لتشمل المنح المدرسية\"، تم تباعا:

وقف العمل بمرسومي تأمين التعويضات العائلية والمنح المدرسية عبر الضمان الاجتماعي،

إصدار مرسوم تعيين الحد الأدنى وكيفية تطبيق نسبة غلاء المعيشة حتى نهاية 2011، دون ضم بدل النقل الساقط قانونا والذي تحول تلقائيا (لمن كان يتقاضاه) إلى جزء من الأجر،

إصدار مرسوم باطل ومزور في مجلس الوزراء، وإقرار قانون لاحقا في مجلس النواب لتبريره، يجيز للحكومة تحديد بدل للنقل بهدف اقتطاعه من الأجر وحرمان الأجراء من حقوقهم في تعويضات نهاية الخدمة،

تعطيل العمل بمرسوم نافذ لدعم أول فرصة عمل للشباب أقر في كانون أول 2011،

التغاضي عن اعتداءات سافرة على حرية العمل النقابي (والإرهاب الحاصل في شركة سبينيس خير مثال)،

اعتماد مشروع قانون في 6 شباط 2012 يجيز للحكومة تحديد المنح المدرسية التي يدفعها صاحب العمل لأجرائه عن أولادهم، وهو إجراء يضرب مبدأين أساسيين: مبدأ المساواة التي أقرها الدستور بين اللبنانيين في مجال العمل، إذ أنه يجعل الكلفة المترتبة على صاحب العمل تزيد أو تنقص بحسب عدد أولاد الأجير، ومبدأ التكافل الذي يبرر الضمان الاجتماعي برمته إذ أن مبرر التعويضات العائلية أن تربية الأولاد وحسن تعليمهم يشكلان صالحا عاما وليس منفعة أو خدمة شخصية.

أمام هذا التمادي في ضرب حقوق المواطنين وهدم مصداقية الدولة، يتضح أن فرض تحويل السلسلة بعد إقرارها في مجلس الوزراء لا يقبل النقاش وامتناع السيد نجيب ميقاتي عنه يفقده شرعيته الدستورية. ولا بد بالتالي من توفير كل أشكال الدعم لهيئة التنسيق النقابية في تحركها الذي تخطى الحيز المطلبي وبات يمثل خط دفاع عن الانتظام العام للدولة. ولا بد أيضا من فرض احترام المواقيت الدستورية والقانونية في تصحيح الأجور وفي الموازنة والحسابات، ومن حماية الحريات النقابية فعليا، ومن انضمام لبنان إلى المعاهدة 87 لمنظمة العمل الدولية.

إن المواضيع الثلاثة المطروحة معا اليوم تفضح دون أي لبس ارتباك السلطة وتخبطها، كما تعبر عن مطالب مزمنة وملحة للمواطنين. لكنها تتخطى ذلك كله لتتناول المفاصل الأساسية للدولة: التمثيل السياسي، والمرجعية الشرعية الدولة والمواطنة، وانتظام أداء السلطة العامة.

لذا يدعو المجتمعون كل الحريصين على الوطن وعلى تحصين المجتمع للتحرك بشكل منظم لمواجهة هذه المسائل الثلاث ولفرض خيار بناء الدولة واستعادة كرامة المواطن خيارا قويا وحاسما.

تعليقات: