انتهت المفاوضات حول قانون الانتخاب إلى حيث يمكن أن تنتهي. غيلان الطوائف أكثر شراسة في الدفاع عن مواقعهم وليس من بينهم أي فريق يتطلع أبعد من حدود السلطة. لم نكن نتوقع الإصلاح، إلا أننا لم نكن نتصور هذا المستوى المريع من تهافت المشاريع إلى حد الإجهاز الكامل على الوطنية اللبنانية وفرزها هويات طائفية صافية. لم نعد شركاء في شيء ولا رأي لأحد في خيار أحد، لكل طائفة رب يحميها وقضية تخصها دون سواها، ولكل زعيم أن يقول: «أنا أبحث عن غنمي».
تجاوزت الأمور حد المناورات السياسية المتبادلة للحصول على مكاسب إضافية من السلطة ووقف «الجميع» في حالة اعتراف شفاف لا يخالطه زغل مؤكدين أنهم لا يبحثون عن شراكة بل عن مساكنة فيها كل الخبث السياسي لأن في أهوائهم امتلاك حصة الآخرين. لم يعد هناك «خجل في الطوائف»، بل جميعهم يقود معركة تحطيم ما تراكم من إنجازات مدنية وطنية، فإذا نجحوا في ذلك فسيمنعون المهمّشين داخل طوائفهم من أية حقوق وحريات نتجت أصلاً من توازنات الطوائف وتعارضاتها. فلكل طائفة شهوة مستحكمة لممارسة شكل من أشكال الاستبداد الذي يتجاوز عدم الاعتراف بالآخر إلى الرغبة في تدميره.
لمناسبة البحث عن قانون انتخاب يفترض أنه لجميع «اللبنانيين» اكتشفنا، ويا لهول ما اكتشفنا، زيف كل الأفكار والشعارات والثقافات التي تصدر عن غرف القرار السياسي «المظلمة» المنافية لكل ادعاء آخر.
لا طائفة ترغب في أن تضيف قوتها للبنان أو تعطي هذا «اللبنان» ما لديها من مميزات، جميعها تريد أن تأخذ من لبنان مطيّة لمصالح طائفية تنتهي عند مصالح أحزابها السياسية. هذه النكسة الخطيرة في تطور الوطنية اللبنانية لم يسبق لحرب أهلية أن أتت بمثلها.
عرفنا من قبل كيف أن «الإيديولوجيا اللبنانية» أو فكرة لبنان اللبناني المكتفي بذاته المجرد من أي هوية أخرى أو المشروع المدّعي قومنة اللبنانيين وتقديس النظام السياسي والاقتصادي قد ظهرت في صورة الجشع المخادع الذي أراد أن يحتكر هذا اللبنان لصالح فئة أو أن يميّزها عن سواها. ولقد سقط هذا المشروع وسقطت معه الجمهورية الأولى. لكن أن تتحول الجمهورية الثانية إلى «التوافقية الطوائفية» التقاسمية فهذا على الأقل لم يكن في بال وطموح عشرات آلاف الشهداء الذين دافعوا عن لبنان وعلى حدوده الأربعة. ويبدو واضحاً اليوم أن مقاومة أحزاب الطوائف للهيمنة السياسية تنتهي إلى طلب الهيمنة ذاتها في صورة مختلفة.
استنتج اللبنانيون خطأً أن النظام الطائفي أقوى من أن تطاله عملية التغيير الديموقراطي. الحقيقة التي أغفلناها هي أن النظام أضعف من الطوائف، أو النظام نتيجة مباشرة لثقافة المجتمع السياسية. يتأكد ذلك من مقاومة تطبيق الإصلاحات السياسية والدستورية التي أقرت في الطائف، ويتأكد أكثر من خلال انهيار الأنظمة القومية شبه العلمانية أو المدنية في العالم العربي وصعود الهياج الطائفي والديني. فلقد كان نظامنا الطائفي أرحم بكثير مما يحاول أطراف المجتمع دفعه إليه وهو الثقافة الطائفية الدينية الممتدة من زوايا صغيرة في لبنان إلى عالم الشرق الأوسط الواسع.
ففي كل ما يجري عندنا وحولنا يسيطر مشروع الهويات مجدداً بعد أن اعتقدنا أن انهيار الفكر القومي سيدخلنا في المشروع الإنساني. ولعلنا لا نصدم أحداً بالقول إن إسرائيل نجحت بتعميم ثقافتها السياسية كما نجح الغرب بنشر مشروعه للمنطقة ولو انكسرت شوكته العسكرية.
على أي حال ليس القلق محصوراً في المغالبة السياسية أو لعبة القوة الناعمة التي تتوسل الأساليب القانونية والديموقراطية. فليس من ضمانة مطلقاً أن تبقى الأمور في الإطار السلمي مع كل التأسيس الفعلي لوسائل العنف وثقافة العنف ومشاريع المواجهة. ومن غير الواقعي الاعتماد على المواقف الدولية التي ترغب في الاستقرار. فالحروب الأهلية لها ديناميات مستقلة عن الضوابط الدولية. تستطيع الدول الكبرى أن ترسم حدوداً لاحتمالات العمليات الحربية الكبيرة التي تطيح الجغرافيا أو إحداث تغيير ديموغرافي جذري. هذه كانت محطات الحرب الأهلية اللبنانية، وهي تجري الآن في سوريا من حيث محاولة القوى الكبرى التحكّم ببعض النتائج العسكرية لكلا الطرفين. لكن ذلك لم يمنع ولا يمنع من إدارة عنف أهلي يؤدي إلى جعل القوى الكبرى هي الطرف المسيطر على النتائج السياسية النهائية. وبما أنه ليست لدينا الرغبة في الحوار وثقافة الحوار، وليست لدينا طروحات سياسية مدنية ووطنية محصورة في دائرة المصالح اللبنانية وحدها، فإن تداعيات الأزمة السورية التي اخترقت كل المفاصل اللبنانية، مهيأة لتداعيات العنف الذي بدأ ويتسع أمام زيادة الافتراق بين القوى السياسية اللبنانية.
المسألة ليست أن نقايض الإصلاح بالسلم الأهلي. فلا وجود للسلم الأهلي في دولة ما زالت غامضة الملامح والصفات، وفي كيان فقد دوره ووظيفته السابقة وتبحث الطوائف له عن وظيفة لنفسها وموقعها وتسعى أحزاب الطوائف لاستثمار أزمته لا إلى إيجاد حلول لها. فإذا كنا كلبنانيين لا نتشارك في إدارة شؤوننا الوطنية ولا يحق لأي جماعة أن تؤثر في تمثيل الجماعات الأخرى، فلماذا إذاً نتشارك في الغرم أو الهمّ أو في العواطف المشتركة. فهل يدري الذين يتقاسمون البلد إلى أين يذهبون؟
تعليقات: