المفكر معن بشور
قال كلاوفيتس ابو الفكر الاستراتيجي العسكري الحديث قوله الشهير «الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل اخرى»، لنكتشف في لبنان، بعد الحرب الاسرائيلية عليه قبل عام، «ان السياسة هي امتداد للحرب بوسائل اخرى».
فكل ما شهده لبنان خلال هذا العام يمكن فهمه في اطار هذه المقولة المعكوسة، حين أدركت جهات كثيرة لبنانية وعربية ودولية انها اذا كانت عاجزة عن منع تحقيق انتصار لبنان على العدوان، فإن عليها أن تسعى لمنع مفاعيل هذا العدوان على غير صعيد.
أول مفاعيل هذا الانتصار اللبناني انه جاء تأكيداً ملموسا لنهج المقاومة الشعبية المسلحة على امتداد المنطقة، وإسقاطا عمليا لنظرية الاستخفاف بقدرة الشعوب على قهر المحتلين حتى ولو بدا ان ميزان القوى التقليدي يميل بقوة لصالح هؤلاء المحتلين.
ان كل محتل وغاصب ومستبد يدرك تماما ان انتصار هذه المقولة هو لزلزال كبير يصيب في الاعماق جملة المشاريع والبنى والعلاقات التي أمضوا عقودا، وربما قرونا، في صوغها وترتيبها وفرضها على المنطقة.
ثاني المفاعيل هو ان هذا الانتصار قد أطلق في الأمة والعالم سلسلة تداعيات جرفت في طريقها كل أشكال الحواجز والعصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية والعنصرية ليس على مستوى الأمة فحسب، بل حتى على مستوى العالم، بدءا من باحة مسجد الازهر التي ارتفعت فيها صور السيد نصر الله وصولا الى موقف الرئيس الفنزويلي شافيز بسحب سفير بلاده من تل أبيب فيما العديد من الحكام العرب والمسلمين كانوا غارقين حتى آذانهم في مؤامرة الانقضاض على المقاومة.
وهكذا انهارت في أيام جملة سدود وحواجز وعصبيات سعى أعداء الأمة منذ عقود، بل قرون، وما زالوا حتى الساعة يسعون، الى تشييدها لتفصل بين العربي والعربي، وبين المسلم والمسلم، وبين الشرق والغرب.
ثالث المفاعيل ان الادارة الاميركية، الشريك الرئيسي في هذه الحرب، والمشجع على استمرارها قد كشفت، بكل صفاقة، أوراقها وأهدافها من هذه الحرب حين أعلنت وزيرة خارجيتها رايس في قلب الحرب أن «شرق اوسط جديدا يولد من مخاض آلام الولادة في حرب لبنان».
فمثلما سقط في وجه الانتصار اللبناني المشروع الاميركي ـ الصهيوني سقوطا مدويا، فقد سقط ايضا المنطق الذي حاول، وبوسائل إعلامية ضخمة، تصوير حرب تموز وكأنها تمت تنفيذا لإملاء ايراني ـ سوري، متجاهلا الاعلان الاميركي الصريح عن مسؤوليته عن إشعال هذه الحرب، وعن استمرارها 33 يوما، خدمة لمشروع محدد.
رابع المفاعيل ان أبناء الامة باتوا يتساءلون: اذا استطاع المئات من رجال المقاومة، أن يهزموا الجيش الاقوى في المنطقة، فكيف اذا انخرط الملايين من أبناء الامة بما يملكون من قدرات وطاقات في هذه المعركة.
لقد سقطت في أيام كل الاعذار والذرائع التي كانت تقدمها أنظمة وحكومات، وأحيانا حركات وأحزاب، لتبرر تنصلها من الانخراط في معركة المصير الكبرى، وأبرزها ذريعة الفارق الكبير في موازين القوى بيننا وبين أعدائنا.
وهكذا بات واضحا، أن شعبا محاصرا كشعب العراق والذي يسقط من أبنائه العشرات شهداء العدوان الاميركي والاجرام الإرهابي، نجح في إلحاق الهزيمة بالدولة الاقوى في العالم، قد بات متكاملا في رسالته مع شعبي لبنان وفلسطين المقاومين اللذين يواجهان بفعالية استثنائية الكيان الاقوى في المنطقة، فيعيدون جميعا صياغة تاريخ أمتهم ومستقبلها، كما تاريخ العالم ومستقبلها.
أما خامس المفاعيل فهو ان هذا الانتصار قد أعاد قلب معادلة القوة التي كانت سائدة في الامة، على مدى عقود، بل قرون، والتي تقوم على إذعان الحكام لقوى الاجنبي المستعمر، وخضوع الشعوب أمام قمع الحكام، فبات اليوم هذا الاجنبي المستعمر مهزوما على يد الشعوب، والانظمة الحاكمة مرتبكة بين إرادة شعوبها وضغط الخارج عليها، الامر الذي قد يفتح الباب أمام من يتحلى منهم بالحد الادنى من الشجاعة لكي يخرج من معادلة القوة السابقة ليدخل في معادلة الارادة الجديدة.
هذه بعض من مفاعيل عديدة أنتجها الانتصار اللبناني على العدوان الصهيوني، وهي مفاعيل لن تظهر آثارها في المدى القصير او المباشر، بل ككل الاعمال التأسيسية، ستبرز تحولاتها الضخمة على المدى المتوسط والبعيد.
ولعل الخطأ الفادح الذي وقع، أو يقع به، بعض حلفاء المقاومة ومؤيدوها، في الداخل أو الخارج، هو في استعجال استثمار هذه المفاعيل في مكان محدد وهي أوسع من كل الامكنة الحالية، وفي زمان معين وهي أبقى من كل الازمنة الراهنة، وفي صيغ بذاتها وهي أشمل من كل الصيغ السائدة.
[ [ [
حين سئلت في برنامج تلفزيوني مساء 13/8/2006 عن احتمالات وقف النار صباح اليوم التالي، أجبت دون تردد: نعم، وسيزحف الجنوبيون، وأهل الضاحية، الى بيوتهم وقراهم وبلداتهم منذ اللحظات الاولى لتنفيذ وقف إطلاق النار.
ولم يكن جوابي آنذاك ضربا في الغيب، بقدر ما كان تقديرا لواقع ميداني يشي بعجز الجيش الصهيوني عن الاستمرار في عدوانه، كما كان ناجما عن معرفتي بجمهور المقاومة، منذ عقود، الذي يدرك انه سيتوج صموده بوجه العدوان بالزحف التاريخي الى الارض التي استباحها العدو وحاول ان يعيق عودة أهلها إليها.
وبقدر ما كان انتصار المقاومة في تلك الحرب تعبيرا عن شجاعة وكفاءة في آن معا، فإن الزحف الشعبي الكبير نحو الارض أظهر ان صلابة المواطن العادي هي الوجه الآخر لشجاعة المقاتل في الميدان ولكفاءة المؤسسات في الادارة، ولحكمة القيادة في توجيه المعركة.
تعليقات: