رسالة إلى المسيحيِّين
رسالة إلى المسيحيِّين [1/2] : الرهانات القاتلة
حتى لو ربحنا المجلس النيابيَّ كلَّه فإننا بدون شك خاسرون على المدى البعيد
«كان يا ما كان... في وطن إسمو لبنان».
روى لي صديق قبل ثلاثة عقود، يوم كنَّا في أوج نكبتنا، «نكبة الجبل»، وفي شبه مواساة لآلامنا والجراح، حكاية البشير الذي قرَّر، يوما، أن يأخذ اللبنانيّين في رحلة على متن سفينة.
وبينما هم في عُرض البحر، يهلِّلون ويزَغْردون، تقدَّم منه أحد الحراس وهمس في أذنه قائلاً: «يا شيخ، في معلومات بتقول إنو عبوة ناسفة موجودة عَ ظهر الباخرة... وبدها تنفجر بعد خمس دقائق».
على الفور، جمع القائد معاونيه لتدارك القدَر المحتوم. وبعد مداولاتٍ سريعة، قرَّر عدم البوح بأي شيء عن العبوة المزعومة، تحاشياً للإرباك الذي قد ينتاب الجموع المهلِّلة والمزغردة، وإلهاءهم، بالتالي، عمّا يمكن أن يحدث بلعبة: «1... 2... 3... Boom».
وهكذا، وقف البشير، ومن حوله رفاق كثيرون، على برج السفينة طالباً من الناس أن يتوزَّعوا على متنها ويردِّدوا معه، بأعلى صوتهم، تلك اللازمة: «1... 2... 3... Boom»، بالتزامن مع صفق اليدين لإحداث دويٍّ مصطنع يخفي الدوي الفعلي الذي سيُحدثه الانفجار.
وظلّت الجموع تردِّد ذلك الهتاف، دون انقطاع، إلى أن دوى الانفجار الكبير، مع آخر طقشة يدين... فتحطَّمت السفينة وتناثر البشر أشلاء فوق المياه.
وصدف في هذا المشهد الرؤيوي المريع، أن شاهد أحدهم البشير قبل أن يغرق... ومعه كلّ الناس. فنظر إليه الرجل بذهول وغضب شديدين، وقبل أن تبتلعه المياه، صاح بأعلى صوته: «ولك يا خيّي... ما كان في غير هاللعبة تلعِّبْنا اياها».
تلك كانت طرفة من طرائف ذاك الصديق التي تختصر الواقع السياسيّ المأسوي الذي أدركه لبنان إبان الاجتياح الإسرائيلي لأراضيه عام 1982، وما تبع ذلك من نكبات. الواقع الذي لم يتبدَّل فيه الشيء الكثير، منذ زمن «الرهانات القاتلة» حتى يومنا.
وإذا كنت أورد هذه الحكاية، فليس، بالتأكيد، بدافع التهكّم أو النيل من أحد، بل هي مجرَّد دعوة صادقة لأخذ العبر من رهاناتٍ، وقع فيها بعض المسيحيّين وغير المسيحيّين ومعهم بعض الفلسطينيّين، أو ربما انجرّوا إليها، بنتيجة المداخلات الإقليميَّة والدوليَّة أو سوء التقدير، منذ بدايات الأحداث الدامية في لبنان عام 1969... وقد كلَّفتنا تلك الرهانات الكثير الكثير.
فما أخشاه اليوم هو أن يكلّفنا السير بقانون انتخابي على أساس مذهبي ــ ولو بغالبيَّة القوى السياسيَّة المسيحيَّة، بحجة ما نسميه «حقوق المسيحيّين»، متخلين بذلك عن مفهوم المواطنة، نحن العَلمانيّين «في المبدأ»، والمؤمنين بحرية الفرد والمعتقد. ما أخشاه، هو أن تكلِّفنا تلك المطالبة، وفي زمن التحولات الخطرة في مشرقنا الجريح، أكثر مما كلَّفنا، قبل عقود، شعار «أمن المجتمع المسيحي فوق كلِّ اعتبار»...!؟
ألا يؤسس «مشروع القانون المزعوم»، ولو بدا في الظاهر «عادلاً»، لمزيد من الانقسامات الطائفيَّة والمذهبيَّة، على خلفيَّة تناتش «الحقوق الطائفيَّة» على حساب «الحقوق الوطنيَّة»... في بلد عادت تعلو فيه صيحات الغرائز والعصبيات على صوت العقل؟
حتى لو اعتبرنا بأن هذا الطرح يضعنا أمام «حالة تأسيسيَّة»، نتطلَّع من خلالها إلى إعادة تشكيل النظام السياسي اللبناني. فثمة، برأينا، معايير أخرى لقيام تلك الحالة، قاعدتها الرؤية الشاملة والاستفتاء الشعبي. ونحن لا نقل شأناً عن غيرنا في هذين الأمرين.
لا يمكن أن نفصل أي قانون انتخابي قد يتم التوافق عليه، عن النظام السياسي الذي سيليه. من هنا أتى خوفنا من أن نكون، إذا ما اعتمد القانون الانتخابي «ﻟِ ــ عَ ــ أساس ــ مذهبي»، أمام شكلٍ من أشكال «الفدراليَّة المجتمعيَّة» والتي قد تتحول إلى «فدراليَّة جغرافيَّة». وهل نكون، عندئذ، في مأمن من الأصوليات العاتية التي تعصف بمحيطنا العربي والإسلامي؟
لقد شكَّل لي طرح «مشروع قانون اللقاء الأرثوذكسي» صدمة، لم تكن بالتأكيد إيجابية. فأنا لا أستطيع أن أفكِّر طائفياً، وذلك بدءاً من فهمي العميق لمسيحيتي، وقد كنت كذلك في أوجّ محنتنا، ولا أزال. وهذا ما يبدو جلياً في ثقافتي، بل تنشئتي الوطنية، وكتاباتي، ومساري السياسي، وحياتي الاجتماعية. عندي، أن للعيش معاً مرتكزات، وقانون الانتخاب لا يمكن أن يحيد عنها.
لذلك، أرى، وخلافاً لما رآه البعض، وبعد أن أوشكت «الصورة الموقتة» التي تزيَّن بها دستور جمهوريتنا اللبنانية أن تتأبَّد؛ أرى أن الوقت قد حان كي نحقّق ذاتنا الوطنية على حساب ذواتنا الطوائفية في عالم عربي، نتابع باهتمام بالغ ما يجري فيه من أحداث وكأننا نعيش كوابيس، تعيدنا إلى أزمنة، ظننا أن البشرية أفلتت من براثنها بعد زمن الأنوار والحداثة، وتقدم العلوم وترقّي الشعوب باتجاه تحقيق القيم الإنسانية العامة والشاملة!؟
أليس دورنا في هذا المجال، بأن نَخْرج، ومعنا كلّ المجتمع، من الشرانق الطائفيَّة والمذهبيَّة التي تعشّش فيها الفتنة المتربِّصة بنا، وكلّ عناصر الصدام، لنعبر إلى الضوء من حالة قروسطيَّة متلاحمة مع إقطاع سياسي نفعي حتى العظام، سبقتنا إلى الخروج من ظلامها وظلاميَّتها، نخب من أبناء شعبنا، من مختلف المعتقدات الدينيَّة والتوجّهات السياسيَّة، بل أجيال رافضة «أن تضحي أمَّة بشبابها من أجل شيبها»... فنعمل معاً على تعطيل الصواعق التي ينتدب لها أناس من هنا وآخرون من هناك؟
وهنا أسأل، ويسأل معي الكثيرون: هل إن الروابط التي تجمعني أنا الماروني الشوفي بالماروني في أي منطقة من لبنان، هي أقوى، بالمعنى الإنساني العام والوطني الضيق وحتى الاجتماعي والسياسي، من تلك التي تجمعني مع من يجاورني من أبناء الطوائف الأخرى، ويقاسمني الحياة في مرّها وحلوها، «أباً عن جد» !؟
فليسأل واحدكم السؤال ذاته لنفسه، وليقرأ الإجابة في عمق أعماقه، أو إذا شاء بين دفتي كتاب «النبي» لجبران. صدّقوني أن المنطق السائد في صفوفنا، في هذه الأيام، غريب عن منطلقاتنا، بل عن طبعنا، وعن مسيرتنا النضاليَّة ورمزيَّة قيادتنا الوطنيَّة وتوجهنا السياسي... ومشرقيَّتنا. لذلك أقول: حتى لو ربحنا المجلس النيابيَّ كلَّه على أساس قانون طائفي، تنتخب بموجبه كلُّ طائفةٍ نوابها، فإننا بدون شك خاسرون... خاسرون على المدى البعيد. وهنا تحضرني عبارة من «مسرحيَّة بترا»، رائعة الرحابنة: «لو بتعرف شو كلَّف النصر يا ملك النصر... راحت بترا»...!؟
فكي لا تموت «بترا»، وكي تبقى الجذوة مشتعلة لبناء الإنسان الجديد في «زمن الردّة» الذي نعيش... زمن العوْد على بَدء، علينا أن نعيد النظر ببعض ما قادتْنا الظروف السياسيَّة العامة والانقسامات الحادة إليه.
أنا أتفهَّم حالة الحرمان، بالمدلول السياسي، التي عشناها، نحن المسيحيِّين، في زمن الوصاية، والتي استمرَّت مع فريق الاستئثار بالسلطة، وأنه يجب أن نعمل على تصحيح الأمور واستعادة الحقوق. لكني مدرك أيضاً بأن مشكلتنا، نحن المسيحيِّين، ليست حصراً عند الآخرين. فنحن لم نقرّ، حتى الساعة، بأي خطأ ارتكبناه ــ مع تقديري لكل الأفراد الذين أجروا مراجعة ذاتيَّة للمرحلة السابقة، وهم كثر ــ ولم نعتبر من تجاربنا المرَّة، كلّ على مستواه... وبالتالي، لم نعتذر من شعبنا المنكوب والمبعثر في جهات الدنيا الأربع، وهو أهم أمر كان يجب علينا أن نقوم به، ولو متأخرين. فلا يكابرنَّ أحد في هذا المجال، أو يحسبنَّ نفسه من المعصومين. فكلنا مخطئون، كلٌ بحسب الموقع والدور والمهمة التي قد يكون تولاها. وما أشبه اليوم بالأمس، فحكايتنا مع القانون الانتخابي «ﻟِ ــ عَ ــ أساس ــ مذهبي»، والذي ينتخب بموجبه كلُّ مذهب نوابه، شبيهة، بالنسبة إلينا، نحن مسيحيّي الأطراف، بحكاية بوشوقي وعبدالله في زمن القتل والتدمير والتهجير والتشريد.
تعود تلك الحكاية إلى أواسط ثمانينيات القرن الماضي، يوم حطَّ الرحال بأبناء بلدتي الشوفيَّة، الجيَّة، بعد تهجير قرى إقليم الخروب وشرقي صيدا في 28 نيسان 1985، في بلدة رميش الحدوديَّة، قبل أن يصلوا في تشرّدهم إلى أقاصي الأرض.
وفي غمرة هموم وتساؤلات تلك الأيام، دار حوار بين عبدالله وبوشوقي. قال الأول للثاني، والذي كانت تتملَّكه رغبة باسترجاع «أمجاد المسيحيَّة» في المشرق: «بكرا بتشوف يا خيي بو شوقي، بدنا نزحف ونسترد الدني كلها من هون لأنطاكيا»، مشيراً إلى خطيطة تعود إلى بدايات الحرب اللبنانيَّة، كانت بين يديه. فردَّ بوشوقي، بظرافته المعهودة: «يا صاحبي... أنا نزْلوني بالجيَّة... وكملو وحدكن عَ أنطاكيا».
إنها الخطيطة عينها التي عرضها البشير عام 1975 على المطران أندريه حداد [رئيس دير المخلِّص/ جون في تلك المرحلة] الذي رفض السير بها، والتي حين عرضها بعض أركان «القوات اللبنانيَّة» على المثلث الرحمة، المدبّر البطريركي العام المطران إبراهيم الحلو في مقره في بيت الدين، وبعد بضع سنوات على اندلاع الحرب، قال عنها ساخراً: «شو ه الدِكِّة هاي يا ولادي» ــ لأن المنطقة المشار إليها باللون الأحمر تشكِّل حزاماً قليل العرض، يمتدّ من «الشريط الحدودي» جنوباً إلى «المناطق الشرقيَّة»، آنذاك، عبر العيشيَّة في الجرمق... فجزين... نزولاً إلى جون... فالجيّة والدامور... وصولاً إلى بيروت...!؟ إنها، وللأسف، المناطق التي ذاقت الأمرّين في تلك المرحلة العصيبة من تاريخنا المعاصر، وهُجِّرت عن بكرة أبيها.
وبعد ذلك، وفي أعقاب «حرب الجبل»، «الحقيقة التي لا ترحم»، بدأت الصراعات المسيحيَّة ــ المسيحيَّة التي فاقمت الوضع تأزّماً، وزادت الشرخ والتمزّق إلى أن سقط «المشروع المسيحي» ــ الذي لم أفهمه حتى الساعة ــ ومعه كلّ «مشاريع الكانتونات»، من الجنوب حتى الشمال، مروراً بالجبل وبيروت.
وإذا كنت أورد هذه المسائل، فللأمانة التاريخيَّة أفعل... وكي يعلم، من أجيالنا الجديدة، من لم يتسن له ذلك حتى الآن.
* أستاذ الفكر العربي الحديث والمعاصر والأخلاقيَّات في الجامعة اللبنانيَّة، ومن وجوه التيّار الوطني الحرّ
...
..
.
رسالة إلى المسيحيِّين [2/2] : القانون المذهبي «يغبّش» صورة «التيار»
في مرحلة لاحقة، ومع انطلاقة حركتنا الاستقلاليَّة، ألم يرفض الجنرال ميشال عون مشروع الدكتور سمير جعجع الفدرالي عام 1989؟ المشروع الذي هيأ له الحكيم بمحاضرة في دير القمر (منشورة في كتاب بول عنداري)، «مدينة الحصار»، آنذاك، ثم في الجامعة اليسوعيَّة، جامعة الأب سليم عبو، في حينه، ونظريته في «ازدواجيَّة اللغة» والانتماء، حين أطلق قائد «القوات» نظريَّته «من كفرشيما للمدفون»، ليتوِّج مشروعه في مهرجان سمّي، آنذاك، «يوم المقاومة»!؟
ومشروع الجنرال عون الوطني، في المرحلة الانتقاليَّة، أواخر الثمانينيات، ألم يقم على استرداد الدولة المركزيَّة وإخراج السوريين من لبنان!؟ وقد كلّفنا هذا الصمود البطولي في وجه «جيش الوصاية»، من جهة، ومشاريع التفتيت و«الفدرلة»، من جهة أخرى، التضحيات الجسام... فكانت واقعة 13 تشرين 1990، وكان شهداء الواجب الأبرار... ثمّ كان القهر والظلم والتشرّد والإبعاد، إلى أن كانت العودة عام 2005، عندما شرعنا معاً في تحقيق مشروع الدولة، بعد تحقّق السيادة والحرية والاستقلال، إثر خروج القوات السوريَّة من لبنان.
باختصار، «خلوات الجبهة اللبنانيَّة» في سيدة البير وتوصياتها بدَّلتها الظروف والأحكام، حتى إن المغفور له الأباتي شربل قسيس تراجع عن مشروع البدايات قبل أن يرحل، على ما روى لي شاهد كبير على تلك الاجتماعات. والأباتي بولس نعمان، بدوره، ما عاد يركّز، وهو محق، إلا على الحفاظ على «الأرض والتربية». وهذا، على ما باح لي مرّات عدّة: «ما يضمن بقاءنا، نحن الموارنة، بل المسيحيّين، في لبنان والمشرق، وما يضمن استمراريَّتنا (...) وهذا ما أريدك، يا ناصيف، أن تعمل عليه إلى جانب الجنرال».
وتربيتنا هذه التي يتحدث عنها الأباتي نعمان، ألا يشاطرنا إياها المسلمون أنفسهم؟ هل يعلم أحدكم كم هو عدد المدارس الكاثوليكيَّة - والإنجيليَّة - في المناطق الإسلاميَّة؟ وماذا عن الجامعات؟ فهل يدرك جهابذة إعداد المشاريع، وبالتالي رسم مستقبل لبنان، كم هي المشتركات بين أبنائه، على تنّوع مذاهبهم... وما يمكن أن تتركه تلك المشاريع من سلبيَّات؟
أنا متأكد أن العديد من أركان «القوات اللبنانيَّة» أنفسهم والأحزاب المسيحيَّة الأخرى، باتوا هم أيضاً على يقين، اليوم، بأن الخيارات المثلى للمسيحيّين في هذا المشرق، وخاصة في لبنان، لا بد أن تُرسم:
أولاً، بوحي من التجربة المعيشة، ولا سيما تلك التي يعرفها جيداً مسيحيو المناطق اللبنانيَّة، أو ما يعرف بالأطراف. وهؤلاء هم المعنيون قبل غيرهم من المسيحيّين بكافة مشاريع الحلول، ومنها القانون الانتخابي العادل الذي يؤمن صحة التمثيل.
ثانياً، بوحي مما تركه لنا رجالات كبار، بل رواد مؤسسون، أغنوا تراثنا الوطني بتجربتهم وثراء مداركم ومعارفهم ورؤاهم.
ثالثاً، بوحي من المجامع الكنسيَّة والرسائل البابويَّة العديدة، التي توَّجها أخيراً «الإرشاد الرسولي من أجل الشرق الأوسط ... شركة وشهادة». والشركة المنشودة، على ما جاء في النص، هي مع الآخر المختلف بقدر ما هي مع القريب.
ألا يمثّل هذا الأمر عمق تفكيرنا في «التيّار الوطني الحرّ»؟
أمَّا عن دُعاة «الفدراليَّة» في لبنان «الأكبر من أن يُبْلع والأصغر من أن يقسَّم»، في قاموسنا. فأنا أدعوهم إلى التجوال في المناطق اللبنانيَّة ومعاينة الناس، والوقوف على رأيهم قبل الشروع في التنظير العقيم حول مستقبلهم، من شرفة ضيِّقة في بكفيا، أو من «بلكون» جميل في دوما، آفاقه جبالٌ تحجب عن ناظرينا أشعَّة الشمس، بضع ساعات قبل المغيب.
إن ما يعيشه اللبنانيّون فيما بينهم، بعيداً عن الانقسامات السياسيَّة الطبيعيَّة، يفصح عن وحدة مجتمعيَّة دلالاتها في الذوق الجمالي والشعر والأدب الشعبي والعادات والتقاليد الاجتماعيَّة... وما إليها.
فلنُقلع عن بناء مواقفنا من الآخرين استناداً إلى تصريح متطفِّل من هنا أو منافق من هناك... من أناس مكلَّفين مهمات دنيئة لا علاقة لها بواقع مجتمعنا وحقيقة شعبنا. ما أقوله هنا ليس طوباوياً، فأنا من أكثر العارفين والمطلعين... كيف لا، وقد عشت التجربة، تجربة الآخر، ولا أزال، في السرّاء والضراء، منذ نعومة أظافري.
وها هي تجربة «وثيقة التفاهم» بين «التيّار الوطني الحرّ» و«حزب الله»، في رمزيَّتها ومضامينها وأبعادها، ماثلة للعيان!؟
وبناءً عليه، فليعذرني الأصدقاء، الذين يخيَّل لبعضهم أنه زمان ميشال شيحا أو يوسف السودا، أو غيرهما من الرعيل المؤسس لهذا اللبنان؛ فليعذرني هؤلاء، إذا كنت أرى، أنا ابن المعاناة الباكية على امتداد الوطن، والشوفيُّ المحروم، كما الآلاف، من حقّه بالتساوي مع الآخرين في عدالة التمثيل، أن الإصرار على ما يسمى «مشروع قانون اللقاء الأرثوذكسي»، الذي يقوم على أساس أن ينتخب كلّ مذهب نوابه، أي على المشروع الذي قلت عنه في حينه [في 17 كانون الأول عام 2011]: إنه «يسقِط معنى لبنان الرسالة، أولاً، وفكرة المواطنة، ثانياً، كما ويكرّس تعدُّد الولاءات التي تزول معها «الشخصيَّة اللبنانيَّة»، التي عمل على تظهيرها موارنة كبار، بل مسيحيّون رواد، وعلى مدى قرون (...). إن هذا المشروع يحقّق ما لم تستطع الحروب المتتالية على لبنان تحقيقه: تعدّديَّة مجتمعيَّة على طريق تجزئة الكيان السياسي (...) ويطرح، بالتالي، شكلاً من أشكال الفدراليَّة المجتمعيَّة التي قد تبلغ في نهاية المطاف الفدراليَّة الجغرافيَّة (...) ومن يمنع، بعد ذلك، بروز الكيانات الطائفيَّة التي قد تُصطنع لها أحداث، لتكريسها كيانات عنصريَّة تبرِّر وجود الكيان الصهيوني»!؟ إن الإصرار على هذا المشروع، مهما تكن الموجبات، يغبِّش صورة «التيّار الوطني الحرّ» في بعده الوطني. هو الذي أدرك في السنوات السبع الأخيرة المستوى الذي لا يمكنه أن يتراجع عنه، لجهة بروزه كحالة تغيير وإصلاح حقيقية، بلغ بها المطاف حدَّ المناداة بإلغاء الطائفيَّة وإقامة دولة مدنيَّة. فلا يمكنني أن أتصور تيّارنا الوطني يستحيل، في لحظة ما، حالة نمطيَّة كباقي المكوِّنات السياسيَّة التي نشأت تباعاً، ومنذ ما قبل الاستقلال، على أساس طائفيّ أو مذهبيّ أو عائلي. فضلاً عن أنه متفوق على باقي القوى اللبنانيَّة، ولا سيما المسيحيَّة منها، لجهة انخراطه الجدّي والصادق، في الدفاع عن المقاومة الوطنيَّة وقضيَّة فلسطين والعروبة الحضاريَّة، وكذلك عن التجذُّر المشرقي.
في الواقع، إن قانون الانتخاب «ﻟِ - عَ - أساس - مذهبي»، إضافة إلى كونه يُسقط المعنى الذي للبنان، فهو لا يخدم إعادة تجذُّرنا في الجبل، كما لا يُدخل الاطمئنان إلى النفوس ليثبِّت المسيحيّين في كلّ أنحاء الوطن، إضافة إلى كونه لا يحقِّق طموحات أجيال ناشئة، أرهقها إقطاع متعدِّد الرؤوس، وطائفيَّة تتجذَّر كما تفشّي المرض العُضال في الجسم... أجيالٌ عوَّلت علينا الكثير في هذا المجال.
أما الأخطر في هذا القانون، وفي غيره من مواقف سياسيَّة، بدت ملتبسة في المرحلة الأخيرة، لجهة تعارضها، بل تناقضها، مع المبادئ والمنطلقات والتفاهمات التي قام ويقوم عليها التيّار، وتكوكب حولها آلاف اللبنانيّين، المقيمين والمغتربين – وقد كنت ولا أزال، إلى جانب العماد عون، ركناً أساسياً في بلورة وتفعيل تلك التفاهمات، وبالتالي، بناء العلاقات السياسيَّة مع قوى وأحزاب لبنانيّة وفلسطينيَّة؛ الأخطر في هذا القانون، أنه أقعدني عن مزاولة مهماتي السياسيَّة، لجهة التلاقي مع الآخرين من أبناء الوطن، أفراداً وقوى وجماعات. أنا المفكر الشارح لمعالم الفكر اللبناني التأسيسي في صفوف التيّار الوطني الحرّ، والصوت الصادح دفاعاً عن لبنان الكيان السياسي، والأكاديمي المدافع عن الإنسان وحقوق الإنسان، والوجدان الصادق في ملامسة كافة القضايا التي تعصف بعالمنا. أنا الذي قال عني الجنرال عون، في تقديمه لكتابي عظة الإثنين/ مقالة في السياسة: «فيلسوفٌ إصلاحي، مفكرٌ سياسيٌ استشرافيّ، حباه الله رؤية خارقة للحواجز والتقاليد والجبن الفكري، مؤمنٌ بربّه ووطنه والإنسان، وبقناعته بقدرة الكلمة على التحوّل فعلاً، والحقيقة سيفاً، والإصلاح والتغيير واقعاً»؛ أقعدني، أنا «الحريص» الذي ائتمنني قائد مسيرتنا، منذ عام 2004، على نسج علاقات التفاهم والحوار البنّاء والشراكة الفعلية مع الآخرين؛ وذلك خلافاً لما يُفترض بي أن أكونه في هذه المرحلة النضاليَّة من تاريخنا، لجهة تزخيم مسيرتنا الوطنيَّة ودفعها صعداً... لأخْلُد إلى إنسانيَّتي في كونيَّتها، ومسيحيَّتي في بهائِها ومجانيَّتها وغيريَّتها، وإلى لبنانيَّتي في صفائها الأول، دون أن أغفِل مشرقيَّتي في تألّقها وعروبتي الحضاريَّة في جَمْعِها... غير آبهٍ بأي مصلحةٍ آنيَّةٍ أو منفعةٍ ذاتيَّة، مهما كانت. أنا القائل قبل أربع سنوات، ومن شاطئ جبيل، في احتفال سياسي للتيّار، إن «التيّار الوطني الحرّ هو سفينة اسمها لبنان».
إن خوفي على السفينة ولبنان كبير وكبير جداً، بعدما علقنا، كجماعة سياسيَّة مجدِّدة ومتقدِّمة في طروحاتها وأدائها، في شِباك السلطة، قبل أن «نتطيَّف» ـــ أو ما شُبِّه لي أننا لامسناه ـــ بقصد أو بغير قصد، مدَّعين لأنفسنا أكثر مما فينا، وأحياناً دون وجه حق.
ما يهمني، من كل ذلك هو أن يبقى لبنان «وطن الرسالة» التي نتشبَّث بها. وكي نكون دائماً، على ما قلت يوماً شارحاً رمزيَّة ما جرى في بلدة براد السوريَّة، حيث ضريح مار مارون، أصل رسالتنا، نحن الموارنة، في هذا المشرق؛ كي نكون «اليد التي عادت من تغرّب دون احتساب، لتعانق تلك التي حافظت على الأيقونة والمكان». فهذه أمانة بأعناقنا، تختصر هماً وجودياً كبيراً، بل كيانياً، حمله آباء مؤسسون، وكدنا أن نحقِّقه مع الجنرال ميشال عون في استعادة الوصال مع مشرقيَّة تعيد إلينا بُعدنا الحقيقي في هذا العالم العربي والإسلامي، الذي نخشى أن يضيِّع بوصلته.
وما اللحظات التاريخيَّة التي شهدناها، في التاسع والعاشر من شباط الجاري، في كنائس دمشق الجريحة، مهد الكنيسة الأولى التي منها انطلق بولس، رسول الأمم، إلى العالم عبر لبنان، إلا من هذا القبيل. فقد التقى بطاركة انطاكيا وسائر المشرق مع رعاياهم في مناسبتين كريمتين ـــ عيد مار مارون وتنصيب البطريرك يوحنا اليازجي ـــ لرفع راية المحبة والتسامح ونبذ العنف، في وقفة مسكونيَّة مدوية، مستعيدين بذلك زمن الآباء الكبار، من سمعان العامودي وطريقته، ومارون الناسك ويده الشافية، إلى يوحنا فم الذهب ولاهوته وحكمته.
أقول ذلك عن قناعة لا يعتريها شك، رغبة مني في تصحيح المسار، ولم يفت الأوان بعد.
إن ثقتي بالجنرال ميشال عون نفسه كبيرة، وكبيرة جداً. فهو ليس الصورة النمطيَّة التي ظنّ البعض أنه سقط بها. أوَ ليس هو القائل، لحظة عودته إلى لبنان في 7 أيار 2005: «... إن كنت طائفياً فانبذوني»!؟
وفي هذا السياق، يؤلمني السجال العبثي المستمر بين الأفرقاء اللبنانيّين، ولا سيما المسيحيّين منهم، وبخاصة بين «القوات اللبنانيَّة» و«التيار»، دون أي أمل في الوصول إلى سلام حقيقي يبدِّد ما عشناه من مآس وويلات خلال العقود الأربعة الأخيرة، ليرى البعض من عامة المسيحيّين في لبنان، وفوق همِّهم الوجودي وقلقهم على المصير، «أننا كنا بمصيبة... فصرنا باثنتين»!؟
يؤلمني هذا السجال العبثي، الذي أخطر ما فيه، أنه بلغ حد ضرب ركائز مجتعنا وقيمه، فضلاً عن تفكيكه لعائلاتنا وتشويهه براءة أبنائنا، وذلك بتحويلهم إلى كائنات غلبت عندها الغريزة على العقل، ولا سيما أننا أمام مفترقات خطرة. ليس أقلها المؤامرة الكبيرة والمركَّبة التي تعصف ببلاد الشام، وتمعن بها تقتيلاً وتشريداً وتدميراً وتفتيتاً.
فمهلاً أيها القادة المسيحيّون في خياراتكم والرهانات. فلا مصلحة لنا، نحن المسيحيّين، في هذا الطلاق، ولو كان شكلياً، ومهما كانت المبرّرات.
لا تخطئوا من جديد في حقّنا، نحن مسيحيّي المعاناة، إذ لم يعد بمقدورنا أن نحتمل التجارب القاسية. وقد جرشتنا الحروب والفتن، والهجرة وبيع الأرض، ليتملَّكنا اليأس. فضلاً عن تشتّت أجيالنا الجديدة في كلِّ مكان... ولا مكان. دعونا نكمل معاً مسيرة إعادة ربط خيوط الصداقة، بل الشراكة، بين اللبنانيّين، كلِّ اللبنانيّين. ومع العرب والمسلمين. لعلنا نبقى... وسنبقى الأنموذج الساطع للعيش معاً في «زمن الردّة» وتبدّد المعايير. زمن، تبدو علاماته كأنها علامات أزمنة.
إن مستقبل لبنان في هذه الرقعة من العالم، مرهون بانفتاحنا ولقائنا مع الآخر في سبيل بلوغ النحن. وهذه بنية المجتمع الجديد، الذي لطالما حلمنا به، كما من قبلنا رعيل كبير من الآباء المؤسسين والرواد النهضويّين.
* أستاذ الفكر العربي الحديث والمعاصر والأخلاقيَّات في الجامعة اللبنانيَّة،
ومن وجوه التيّار الوطني الحرّ.
تعليقات: