الدكتور أسعد أبو خليل
كم بدا لبنان قبيحاًً في غمرة معركة المتن وما تلاها من نتائج. كم سقطت من ادّعاءات ومن مزاعم باطلة. سقطت أقنعة، وهي لم تكن مقُنِعة أساساً. كم ردّدوا من شعارات في التسعينات، شعارات لم يكونوا يؤمنون بها. إيّاكَ (وإيّاكِ) أن تخطئ: كلّهم يتبعون التقيّة في لبنان، ويظن الواحد منهم أنّه وحده، بتذاكٍ كاذب، من يتقن التقية. يلجأون إلى التقية ثم يصرحون بمكنوناتهم، ولو بعد حين. كان صائب سلام يردّد أحد شعاراته الكثيرة، ويقول: «أخشى على اللبنانيين من الاختناق لكثرة العناق إذا ما تركهم الغريب». وتركهم «الغريب» في الثمانينات لينصرفوا إلى خنق بعضهم بعضاً في القتل الطائفي. ولعلّ من حسنات الانسحاب السوري من لبنان، أنّه يزيل الحُجب والأقنعة (والغشاوة عن عيني وليد جنبلاط). الانسحاب السوري سيتيح للّبنانيين الرجوع إلى السياسة بعد كتمها وقمعها من قبل الراعي الرادع. وقد تسنّى للّبنانيين في سنتين فقط أن يكشفوا عن وجوههم الكالحة، حتى لا نقول عن عورات «تقبح وجه التاريخ»، كما يقول مظفر النواب. كم خفّفوا من التكاذب. عاد اللبنانيّون إلى السياسة وإلى الصراعات الطائفية ـــــ وهي تختفي خلف شعارات كبيرة جداً دائماً ـــــ وتختفي أيضاً وراء أعلام لبنانية مرفرفة بعد أن اتّضحت الطبيعة الطائفية للشعارات والأعلام في الهمروجات الشعبية التي تلت اغتيال رفيق الحريري (قبل أن يصدر الأمر لإخفاء أعلام الطوائف ستراً للفضيحة).
كان البطريرك صريحاً جداً عندما طالب في لحظة غضب في 2005 بأن ينتخب المسلمون النوّاب المسلمين وأن ينتخب المسيحيون النواب المسيحيين (ولا جديد في تلك المطالبة، وهي ليست غريبة عن نظام الفصل العنصري قبل تقويضه في جنوب أفريقيا). نسي البطريرك أنّ حلّه لا يشكّل حلّاً: على العكس من ذلك، إنّه يزيد من التنافر ومن الاستقطاب الطائفيين. ونسي أنّ الخلاف بين أبناء الطائفة الواحدة وبناتها يمكنه أن يستعر أيضاً. وهذا جانب من الأبعاد المتعددة للمشكلة اللبنانية المتفاقمة.
الدور المسيحي
لكنّ معركة المتن لم تكن كسابقاتها. أشياء كثيرة تغيّرت في لبنان. حاولت الطائفتان الكبيرتان، السنّية والشيعية، الظهور بمظهر المحايد والمُنصف، بينما كانت المعركة في المتن إشارة إلى طبيعة الصراع الذي سيقرّر مصير لبنان السياسي في المستقبل القريب والبعيد. استُبدل الصراع الماروني الدرزي في القرن التاسع عشر بصراع سني ماروني في القرن العشرين (تتمثل الطوائف بنخبها، وإن كانت تشاطرها طائفيتها وعدوانيتها). أما في القرن الواحد والعشرين، فإنّ الصراع السني ـــــ الشيعي هو الذي سيحدّد مصير البلد. يبدو الدور المسيحي مهمشاً: معركة المتن كانت استفتاء بين المسيحيين على صوابية التحالف مع السنّة مقابل التحالف مع الشيعة، فظهر الدور السياسي للمسيحيين شبيهاً بدور الأحزاب الثالثة في ديموقراطيات الحزبيْن الرئيسيْن.
ويعود تراجع الدور المسيحي لأسباب متعدّدة، منها ما يعود إلى التاريخ القاتل لما يسمى «المارونية السياسية»، إضافة إلى الهزيمة غير المعلنة لميليشيات القوات اللبنانية ولخيارها الإسرائيلي. كما أن التغييرات الديموغرافية الهائلة (بسبب اختلاف معدلات الخصوبة والهجرة بين الطوائف) أضرّت بالتأثير السياسي للطوائف المسيحية مهما حاولت معادلة الطائف أن تنكر الواقع. وحتّى التنظيمات السياسية التقليدية لم يعد لها ذلك التأثير الفاعل. كانت حركة بشير الجميّل في أواخر السبعينات حركة مخيفة ومؤثرة في فاشيّتها وفي تحالفها مع إسرائيل. أمّا اليوم فتبدو حركة سامي أمين الجميل «لبناننا» مضحكة بالمقارنة.
لكنّ التهميش المسيحي كان مقصوداً أيضاً، وهو بدأ عندما وضع رفيق الحريري، بالاشتراك مع حلفائه في النظام السوري، اللبنات الأولى لنظام ما بعد الطائف. فقد اختار رفيق الحريري أن يتعامل مع واقع التطلعات والتوجهات السياسية في أوساط الرأي المسيحي عبر تجاهلها وعبر انتقاء ممثّلين عن المسيحيّين بصرف النظر عن صحّة تمثيلهم، ومن دون احترام خيارات الناس. ولم يستثنِ الحريري من هذا التجاهل المواطنين الأرمن. كان يرى أنّ لأمواله قدرة على شراء ممثّلين مطواعين حيث تختلف مصالحه (ومصالح النظام الذي رعاه) مع تطلّعات المسيحيين والمسيحيات.
ظهرت نتائج سياسات الحريري في ما جرى في المتن، وخصوصاً في الانتفاضة الانتخابية الأرمنية على سلالة الحريري الحاكمة. وما كان مؤلماً في انتخابات المتن هو مدى عمق الغرائز الطائفية المتحكّمة (في كل الطوائف، وإن كانت الانتخابات قد أتاحت المجال لكلّ سياسي مسيحي طموح بأن يدلي بدلوه). الديماغوجية الطائفية كانت أصعب من أن تُقاوم. كنا نظن أن نسيب لحود هو من طراز مختلف من السياسيين في لبنان. لقد تغيّر بعد انتفاضة الطوائف. وها هو يقول اليوم إنّه يلبس «كلّ ما يُفصِّل» له البطريرك. لمَ السياسة إذاً، ما دام الكلّ يعتمد على البطريرك؟ فلينتخبوه رئيساً للجمهورية، وليريحونا من سياسة التملّق تجاه الإكليروس.
كرنفال الطوائف
لقد غرق الطرفان (في الحكم وفي المعارضة) في الكلام الطائفي. ولم يكن مستغرباً من مرشّح الحزب الذي أتقن لعبة الطائفية القاتلة أن يبرز. كانت حملة أمين الجميل مُبرمجة، ودحضت كلّ المزاعم عن العيش المشترك، وعن نهائية الكيان. فهذا الوطن الصغير جداً يضيق بطوائفه إلى درجة الازدحام والتقاتل. دوري شمعون عرف كيف يختصر المعركة: اتّهم الطرف الآخر بقُربه من طرف إسلامي، وربما هذا ما جعل النتيجة متقاربة حتى الساعات الأخيرة. سامي أمين الجميّل، الذي نجا قبل سنة من اعتداء غادر لم يحصل من متظاهرين من الضاحية، أضاف أنّ المسيحيّين وحدهم من دافع عن الوطن من هجمة «السوري والفلسطيني». (نلاحظ براءة تجاهل «الإسرائيلي» ـــــ والإشارة إلى الاسرائيلي في لبنان لا تحمل تحقيراً. يهبّ مثقّفو الليبرالية، وما أكثرهم في الصحافة العربية، إذا ما أهان أحدهم الإسرائيلي «الجار». لذلك، مرّ خبر لقاء نديم بشير الجميّل وشقيقته مع ابنة إسحق رابين (وحدها جريدة «السفير» نشرت الخبر) مرور الكرام. لم يصدر نفي. تصوّروا لو أنّهما التقيا مع ابنة رئيس سوري سابق. كانت قامت القيامة، وكانت طموحات سياسية قد اضمحلّت).
أما الجنرال عون فنسي وعوده بألا يلجأ إلى أساليب التعبئة الطائفية. وعد بإنشاء تيار يؤمن بالعلمانية. ذهبت تلك الوعود «من النافذة»، كما يقولون في لغات أجنبية. فقد ركّز في حملته الانتخابية على «المرجعية المسيحية». نسي وعود العلمانية في برنامجه الانتخابي. صحيح أن الطرف الآخر لجأ إلى أساليب أكثر قذارة في التحريض، لكن الطرفين غرقا في الحملات الطائفية. وتدخل حسن نصر الله في المعمعة، مذكّراً المسيحيين بأفعال ميليشيا وليد جنبلاط. ردّ عليه سمير جعجع. معركة الجبل وكل المعارك الطائفية بين اللبنانيين كانت عبارة عن «تفصيل»، كما قال جعجع (الغانديّ النزعة كما صوّرته جيزيل خوري في برنامجها «الوثائقي» عنه، وهي دعت بموضوعية شديدة إلى انتخاب أمين الجميل). المسؤول هو «السوري والفلسطيني». اسألوا صولانج الجميل التي تستطيع أكثر من غيرها لفظ الكلمتين وكأنّهما نابيتان. كانت المعركة طائفية إلى درجة أن الحليفين الإسلاميين للطرفين اختفيا في محاولة خادعة للظهور بمظهر المحايد. كما يبدو أنه طُلب من وليد جنبلاط أن يلزم الصمت طوال الحملة الانتخابية، لما يثيره عند المسيحيين من حساسية. تفاصيل. مجرد تفاصيل.
الطائفية لا تكفي
وكأن الطائفية لم تكن كافية، لجأ الطرفان إلى العنصرية أيضاً في كلام تنافسي عمّن استطاع أن يقتل فلسطينيين أكثر من الآخر. فاخر أمين الجميل بمجزرة تل الزعتر (هل من يذكّر جورج ناصيف، مؤيد أمين الجميل، بتلك القطعة الأدبية الجميلة التي كتبها على الصفحة الأولى من جريدة «السفير» غداة اقتحام تل الزعتر؟). أمّا مؤيّدو عون من قدامى القوات والأحرار فقد صعدوا إلى الرابية ليجزموا بأن الجميل منعهم من الصعود إلى تل الزعتر للقيام بدورهم في قتل الفلسطينيين. كأنهم لم يكتفوا بالمجزرة. لم يسألهم الصحافيون عن نياتهم آنذاك، وموقع التيار الوطني الحر أبرز شهادتهم.
لم يكتفِ الطرفان بالعنصرية ضدّ الفلسطينيين، فحاول كلاهما أن يلصق بالطرف الآخر «تهمة» الاستعانة بالمجنسين، كما لو أنّهم ليسوا بشراً، وليسوا قانوناً ودستوراً متساوين في المواطنية والحقوق والواجبات. هل كان لتلفزيون «المستقبل» أن يبرزهم بعنصريّته المعهودة، لو كانوا من أصول أخرى؟
من ناحيته، كان تيار المستقبل كالعادة يعبّئ جمهوره وراء شعارات طائفية صارخة. بيروت خط أحمر؟ لم يقصد الإسرائيليين سعد الحريري بهذا الشعار. ولم يرفع شعاره هذا الذي أُعدّ له أثناء العدوان الإسرائيلي. فيجب الاعتراف بأن ورثة رفيق الحريري كانوا نعم الخلف لنعم السلف في التعبئة الطائفية والمذهبية السوقية.
حتى جورج بوش، الذي لم يبق من عقيدته في سنته الأخيرة إلا التلهي بمحاربة ناصر قنديل ووئام وهاب، تدخل في المعركة مُصدراً قراراً غريباً عجيباً لمعاقبة من تسوّل له نفسه معارضة محمّد دحلان، عفواً نعني السنيورة. المفارقة أن أمين الجميل كان جزءاً من الأمن القومي الأميركي في مرحلة سابقة، كما أعلن رونالد ريغان في خضم معركة سوق الغرب في الثمانينات. لم يُكتب للمشروع الأميركي النجاح آنذاك كما نذكر. يعيد التاريخ الكرّة، بسخرية قدريّة أكبر. حزب الله، كعادته، خذل حليفاً يسارياً مقاوماً. لم يستحق إبراهيم الحلبي التأييد الذي استحقه حلفاء حزب الله الطائفيون في انتخابات 2005. فالطائفيون على أشكالهم يقعون (يحاول أنصار حزب الله تبرير ذلك بالإشارة المعهودة إلى خطر الفتنة المذهبية، وكأنّه ليس هناك وسائل أنجع لمحاربة المذهبية والطائفية من حزب الله، مثل اتخاذ موقف واضح من حكومة الاحتلال في العراق (وأعوان الاحتلال الأميركي من آيات الله)، أو إقامة أحلاف عريضة غير طائفية في لبنان، أو تبنّي برنامج عدل اجتماعي خارق للطوائف. لكن الحزب فضّل التعامي عن ذلك، وقدّم هدية خصخصة الكهرباء إلى حكومة السنيورة). وهل يعتقد حزب الله أن تيار المستقبل (والحكم السعودي من ورائه) سيتوقّف عن حملاته المذهبية بمجرد عدم الاقتراع في بيروت؟
الإعلام يشارك
أمّا الإعلام فقد تفلّت من عقاله. «النهار» و«ال.بي.سي.» بدتا مذعورتين. تحوّلت تلك الوسائل إلى أبواق دعائية على طراز إعلام الحريري. شبكة «ال.بي.سي.» فتّشت عن محجبة صوتت لمرشح التيار في المتن. تعاملت المراسلة معها كأنها «طارئة» ـــــ كما وصف أمين الجميل الأرمن في لبنان. (وسكت المثقّفون الليبراليون ومدّعو اليسارية في 14 آذار عن العنصرية التي صدرت عن قادة في 14 آذار ضد الأرمن، فقط لأنّهم مارسوا بهدوء وسلام كعادتهم دائماًَ حقهم الديموقراطي. على الأقل، صرح عنصريو ثورة الأرز بعنصريتهم، وهي متعددة الأهداف: ضد السوريين والفلسطينيين والأرمن والخادمات الآسيويات طبعاً).
وفي مهرجان للتيار قبل الانتخابات، فتّشت كاميرا «ال. بي. سي.» عن عباس الهاشم في ركن بعيد عن المنصة، وكادت تقول: «انظر. مسلم». العبارات التي استخدمتها كانت شبيهة بعبارات السياسيين الطائفية. عبارات «الشعب المسيحيي» و«المجتمع المسيحي» أصبحت أكثر من عادية. لا تلقى تعجباً أو استنكاراً. أوطنٌ هذا أم ملهى، أم أسوأ. وسام سعادة (مؤسس تنظيم «يساريون من أجل ديمومة آل الجميّل في التمثيل السياسي») تحدث عن «المسيحي الحر» (مقابل المسلم «المُستعبد»؟). أما جورج ناصيف فدعا إلى عدم نبش الماضي. لننسَ مجازر آل الجميّل، وخصوصاً أنّ الدموع والاستغلال الرخيص للأموات، الذي أتقنه أيّما إتقان آل الحريري، هو في صلب البرنامج الانتخابي لأمين الجميل. كنا ننتظر أن يجد أحدهم صورة شهيرة لأمين الجميل النائب من 1975 يجر فيها عنوة رئيس حكومة لبناني (رشيد الصلح) من ياقته لمجرد إلقائه بياناً رسمياً يحمّل فيه حزب الكتائب المسؤولية عن مجزرة عين الرمانة.
من جهتها، جريدة «المستقبل» ركزت على نسبة تأييد التيار الوطني الحر بين الموارنة، وكأن هذا يؤثر على نتائج الانتخابات (يذكّر هذا بأسلوب الصحف العنصرية قبل حركة الحقوق المدنية في أميركا، التي كانت تركز على نسبة التأييد بين الناخبين والناخبات البيض، وكأنّ الآخرين هم دونيّون). أما عقاب صقر فهو صاحب نظرية مفادها أن عون خاسر إن ربح وإن خسر، وأمين الجميل رابح إن ربح وإن خسر. هذا نموذج للتحليل الموضوعي في إعلام لبنان. وكعادتها، بقيت «نيو تي.في.» فوق الطوائف والمذاهب.
لم يفز إبراهيم الحلبي. لكنه استطاع أن يخوض انتخابات صعبة من دون أن يستعمل عبارة طائفية أو مذهبية واحدة. وحده إبراهيم الحلبي يستحق الثناء. وحده جسَّد معنى المواطنية الحقة. أما الباقون: فيلخجل بهم الوطن، الناجحون منهم والخاسرون.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
تعليقات: