خديجة عكر: آخر شهود مجزرة الخيام
لم ينتبه أيمن للمضيفة الجوية تطرح عليه السؤال مكرراً: "مسيو.. تي أور كافي؟".
كان أيمن غارقا في تاملاته، يحاول ان يستبق المسافة والزمن الى بلدته... وقد أصابها ما أصابها بفعل الاعتداءات الصهيونية الهمجية عليها، يكفي ما تناقلته وكالات الانباء ان آلافا من القذائف قد امطرتها بها الطائرات والمدفعية المعادية .
كانت البلدة هانئة باهلها، معتزة بكثرة ينابيعها الدردارة، الرقيقة، الباردة، عين ابو مزراب والعين ذات المزاريب الثلاثة.. معتزة بسهليها الكبيرين الممتدين المحيطين بها.. سعيدة بالمشفى الانكليزي الاثري... والبلدة ايضا كانت سعيدة بمغتربيها الكثر الذين يحولون صيفها الى عرس رائع، وايضا سعيدة بكونها عروسة لكل القرى التي حولها، ومقصد شباب هذه القرى وصباياها للتبضع و"الكسدرة".
وجهُ أمه لا يفارقه لحظة واحدة، امه التي خرجت - عندما ابتدا القصف الغادر على البلدة - تفتش عن ابنائها كي تمنع عنهم الموت ، لكن الموت كان اليها اسرع ، اصيبت اصابة مباشرة عند مدخل منزلها مع اّخرين من ابناء البلدة كانوا يحاولون تفادي القصف والهرب باتجاه بيوتهم ، خمسة من الجثث وثلاثة جرحى توزعهم الشارع الضيق الملاصق لمنزل ايمن ، اجساد ممزقة ودماء كثيرة وصراخ وعويل ، ايمن يتقدم نحو مصدر الصراخ ، ياللهول ، اشلاء وقتلى و امه الرائعة الجمال مطروحة بينهم على الارض تغطيها الدماء ، دماء ودماء ...
الطائرة في مهب مطبات هوائية تتلاعب بها ، اختلط على ايمن مشهد امه الاخير المروع بالفزع الذي احتل قلوب ووجوه ركاب الطائرة . فجاة يهدا كل شىء ، يضع ايمن راسه بين يديه ، يعصره ، يحاول ان يتنفس قليلا . صورة والدته االمهشمة المدماة ، وصورة والده الذي قبًله طويلا واخوته قبل هربهم من بلدتهم . بعد ذلك لم يتمكنوا من رؤيته مطلقا ، لقد رفض مغادرة البلدة وعلل رفضه : ساموت شهيدا كما ماتت زوجتي ولن اغادر مهما حصل . حاول الجميع تغيير موقفه فابى ، والده تم اعدامه بعد ذلك مع مجموعة كبيرة من كبار السن ، هم حصيلة كل من تبقى في البلدة بسبب شدة القصف عليها. واذ تمكن العدو من احتلال البلدة ، جمع كل المتواجدين فيها ، واكثريتهم من المسنين ، وامرهم بالوقوف باتجاه حائط المدرسة ، كانوا اربعين عجوزا ، بل كانوا ثمانين يدا مرتجفة مرفوعة الى الأعلى لم يبد منهم إلا شعر ابيض او برانيط صوفية ، فوق رؤوس صغيرة شائبة ، وأكتاف ضعيفة هابطة . نقب بيضاء طويلة ، تغطي كل الظهر ، تشدها صاحباتها بالأكواع وبكل ما امتلكت من قوة كي لا تقع... فساتين طويلة مهلهلة ، وبجامات واسعة ، سراويل قصيرة ، وأرجل بعضها حاف ، وبعض أخر متمكن من بابوح خفيف ، كلهم ، الوجه الى الحائط ، تحت تهديد ارعن لأكثر من بندقية عدوة . أطلق جنود العدو الرصاص الحاقد ، فتساقطت الاجساد الطرية تتمرغ في دمائها في مجزرة جماعية مروعة . مسكين ابو حسين ، لم يحتمل أن يكون بين الجموع مصلوبا على الحائط ، بثيابه الداخلية ، فهو عند إعتقاله في منزله ، بجرم الصمود في الخيام ، لم يسمح له جنود العدو وأتباعه ، بتغيير لباسه ولو للسترة فقط . عز عليه الأمر ، كيف يقف بسرواله القصير بين جيرانه وأصحابه؟ كاد الغيظ ينهشه ، سرق لفتة الى يمينه ، فشماله ، وترك الصف بأقصى ما إستطاع من سرعة وغضب . فرّ في إتجاه كروم التين والزيتون القريبة ، ومنها الى منحدر الوطى ، وعجزت الرصاصات التي اطلقت نحوه عن اصابته ، وخاف من تبعه اكمال المتابعة .
فر الحاج ابو حسين ، ولكنه فر بثيابه الداخلية فما العمل؟ لا بد من العودة الى البيت مهما كان الثمن...
وكان الثمن غاليا... أحاط الأعداء بمنزله بعد دخوله إليه ، وإستطاعوا أن يأسروه من جديد ، إنما بكامل ثيابه ، وهنا أحس أنه إنتصر للحظة ، ففرحت عيناه ، أنه الأن بكامل ثيابه غصبا عنهم ... وبكامل ثيابه سقط مع العجائز الاربعين ، في مجزرة جماعية حاقدة لا يرتكبها إلا البرابرة .
لا يا ابوحسين ، كان عليك الا تعود الى منزلك ، كان عليك ان تواصل الاختباء بين الصخور اوبين الاشجار التي احبتك ، اعرفهم جبناء ، لن يحاولوا ابدا اللحاق بك ، لا ترجع يا ابو حسين، توقف لا ترجع انهم يكمنون لك ، صرخ ايمن ، تقدمت المضيفة على عجل ، وضعت يدها على كتف ايمن وايقظته من احلامه المرعبة .
عندما دخل العدو الصهيوني بلدة الخيام محتلا ، قتل من سكانها اكثر من اربعة افراد بنيرانه العشوائية التي اطلقها على بيوت الناس الاّمنة ، بعد ذلك اعدام ثلاثة شبان بعد اعتقالهم مباشرة في منازلهم بتهمة انتمائهم لجيش لبنان . لم يستتب الامر للعدو وعملائه في الخيام ، وسرعان ما انكفأوا عنها ، تحت ضغط كمائن وهجمات متتالية لشباب خيامي مندفع بحماسه ووطنيته ، اثمرت تحريرا للخيام ، ليعود بعدها العدو اكثر اصرارا على الاحتلال وعلى التدمير ، وعلى الغاء الخيام عن خارطة الوطن ، والمدخل الى ذلك كان قتل جميع من تبقى فيها من بشر
عند ارتكاب العدو لمجزرته ، كان ايمن في التاسعة من عمره ، قبل ذلك بشهر واحد رحل في قافلة الراحلين عن بلدته ، وكان معه اخوه سعيد واخته الصغرى سمر، كانت طريق مغادرة البلدة شاقة لتفادي القنص المعادي ، مسافة طويلة بين اشجار التين والزيتون ، ثم هبوط الى اسفل الوادي ، النهربعدها ، ثم صعود باتجاه قرى جبل الشيخ ، ومن ثم سيارة صديقة تنقلهم الى منزل خالتهم في بيروت .
بيت الخالة عبارة عن غرفتين ومدخل ومطبخ صغير ، منزل كمئات منازل البؤس التي تحيط بالعاصمة. ولخالته ولدان صغيران : سامر وميساء ، قدمت لهم غرفة صغيرة وتوزع اهل البيت على المدخل واحدى الغرف ، مر شهر وتبعه اخر ، الخالة تكاد لا تستطيع وزوجها اعالة ابنائها فكيف بعائلة اختها . خرج ايمن للعمل ، سبع سنوات من المعاناة والقهر في بيروت ، اجير في احد الافران ، و عامل لتنظيف الصحون في مطعم للفلافل ، ثم عامل متمرن في معمل للخياطة . كل عمل كان يتخلى عنه ايمن ياخذ مكانه فيه اخوه سعيد ، الذي كان باكورة عمله بيع الياناصيب . لا وقت للمدرسة ، الكل يجب ان يعمل كي يستطيع العائلة ان تبلغ الخبز . الخالة شديدة الرافة والخال كذلك ، يتذكر ايمن : قدموا لنا كل ما استطاعوا من مساعدة ، قاسمونا المنزل والخبز وشح المياه ، ميساء كبرت بسرعة ، فكان لا بد لنا من التفتيش عن زاروب منزل ياوينا ، في المخيم القريب لمنزل خالتي وجدنا غرفة برسم الايجار ، جعلناها منزلنا ، وبدا مشوار اخر ، سعيد وجد ضالته في مجموعة للمقاومة تتبختر باسلحتها و تتوعد العدو ، اه اين انت يا سعيد ؟
ايمن غارق في نومه وتاملاته ، يتطلع يمنة ويسرة حوله ، الطائرة نفسها التي نقلته الى بلاد الغربة تعود به اليوم لزيارة وطنه وبلدته ، اخِ من الايام ، لن يكون هناك اب يستقبله ، ولن تكون هنالك ام تذرف دموع الشوق لرؤيته ، ومن المؤكد ، ان سعيدا لن يكون في المطار .
اما سمر الحبيبة الصغيرة ، وكانت عند مغادرته الى كندا ، لم تبلغ العاشرة من عمرها ، فقد اخذت الخالة على عاتقها الاهتمام بها . فهل ستكون سمر الوحيدة مع خالته في انتظاره ، هل ستتعرف اليه وهل سيتعرف عليها من بين الجموع وقد مضت عشرة سنوات على الفراق
استفاق ايمن من تخيلاته عندما لمس يدا تربت على كتفه وصوتا ناعما يقول : مسيي لقد وصلنا الى مطار بيروت ، استعد للمغادرة
لم يكن احد في استقباله ، جال بنظره يمنة فيسرة ، وفي كل اتجاه ، لا احد ينتظره ، كل الواصلين لديهم من ينتظرهم ، من يبتسم لهم ، ومن ياخذهم في الاحضان ، اما هو فليس ثمة احد . تكسي تكسي صاح ايمن ، خذني الى الخيام ، مباشرة
الخيام هي ، بيته ، حديقته ، ملعب الصبا ، مدرسته ، اصدقاؤه علي وصالح وسعاد وليلى وجورج ومحمود ، و الخيام هي امه ، امه التي دفنت على عجل في زاوية المقبرة ، الخيام ابوه ، ابوه الذي لم يتبق له منه الا تلك الضمة الاخيرة ، والعيون الباكية ، والشد على اليد ، واشارة الوداع . قيل له ان جميع الذين سقطوا في المجزرة اخفيت جثامينهم ولم يعثر عليها احد . اذا سيزور قبر والدته وسيبكي الاثنين معا.
ها هي الخيام تطل متربعة على تلة ممتدة بين الشمال والجنوب ، يحتضنها من الشرق سهل وطى الخيام ومن الغرب سهل مرج عيون ، الاشجار التي قطعت باكملها ايام الاحتلال عادت لترتفع من جديد اكثر جمالا وتحديا ، والمنازل التي هدمها العدو اثناء مناوراته في الاحياء عادت لتحتل كل التلة ومنحدراتها وترتفع طوابق و طوابق ، ايمن لم يرى شيئا ، كان شاردا عن كل ذلك ، ترى هل سيكون اخوه بانتظاره ، ماذا يرتدي ، حاملا رشاشه ام ولده ؟ كيف سيلاقيه ؟ماهو شكل وجهه الان ويديه وقامته . وسمر ، لقد تزوجت ورزقت ثلاثة ابناء ، كيف ستلتقي العينان ، واي من اصحابه سيلتقيه اولا ، وهل سيعثر على جثة والده وهي التي ما انفكت تطوف بخياله ؟
توقفت السيارة قرب حديقة منزل الاهل ، لا احد ، المنزل فارغ فراغ الموت ، ترك ايمن مقعده مسرعا ، قبل الارض باكيا وعاد : ( الى حيث منزل خالتي ، لو سمحت ) قال للسائق ، اطلقت السيارة ابواقها امام منزل لا يتعدى الغرفتين ، فخرجت سمر وخالتها ، تفرستا بالقادم ، صرخت الخالة راكضة باتجاهه ، ايمن حبيبي ، اخوك ايمن يا سمر . تجمدت سمر في مكانها ، انه هو هو ايمن الحبيب ، اندفعت باتجاهه تسابق خالتها ، غير مصدقة .
لنترك ايمن يرتمي في احضانهم ، و لتتعرف الاخت الى اخيها ، ولنعد الى حيث سعيد
لم يستطع سعيد تقبل موت والده ظلما ، ولم يستطع تقبل كل تلك الاعتداءات اليومية على بلدته فاختار المقاومة . ، خضع لدورة عسككرية سريعة حيث تم تدريبه على استعمال السلاح ، شارك في اكثر من عملية عسكرية عند تخوم معسكرات الاحتلال ، اصيب في رجله وخرج من اصابته ذا عرج خفيف ، لم يستكن ولم يخفِ رغبته العارمة في متابعة مقاتلة العدو . تنقل في اكثر من فصيل مقاوم ، عرف الجوع كثيرا ، وعرف العطش والتعب والعذاب ، الكهوف صادقها فهي بيته الحنون ، وتصادق مع الظلام ، البرد القارص لم يكن يعني له شيئا ، و وحشة الامكنة اصبحت ملاذه واماكن استراحته ، واذ تبتدئ الطائرات بقصف المواقع التي يتواجد فيها ، يبتدئ هو بالركض نحوها - كما يقول رفاقه - دون خوف ، و يصليها بنيران رشاشه بحب واندفاع شديدين ، عله يصيب احداها ، فيخفف عن كاهل قلبه ما يحمله من حقد وغضب
لم يطلب مرة اذنا او تصريحا باستراحة ، دائما مع المقامين لا يغادر مواقعهم ، هم بيته واهله واخوته وامه وابيه ، وكل حياته ، هم كل ما تبقى...
استدعى قائد الموقع العسكري اليه سعيدا ، مبلغا اياه ان شخصا يطلبه للحديث اليه اسمه ايمن ، لحظات و كان الاخوان يحتضنان بعضهما البعض في مشهد يختلط فيه الفرح بالنحيب ،الدموع بالدموع ، العواطف بالعواطف والكلام بالكلام
لقد عدت اذا لقد عدت ، هل رايت سمر وابناءها ، هل زرت قبر الوالدة ، هل ذهبت الى بيتنا ، متى وصلت وكيف .
انطلق الاخوان معا باتجاه منزلهم حيث وافتهم سمر الى هناك ، العشب يفترس المكان ، واثار الصدا واضحة في كل الابواب الحديدية ، الجيران كلهم يشاركون في تاهيل المنزل والحديقة . ذهب ايمن يراجع كل جنبات المنزل بشوق غريب ، توقف امام باب الغرفة السفلية - الملجأ - هل تذكر ؟ وجه ايمن الكلام الى اخيه : خمسة عشر فردا ، دفعة واحدة ، علقنا في هذا الباب الصغير كلنا ، اندفعنا مع بعض لتفادي قصف مفاجئ ، انت وانا وابي وامي وسمر وجدتي ومعنا بعض الجيران ، رؤوسنا داخل الغرفة واجسادنا متشابكة خارجها ،جارنا العسكري قال : ( انبطاح )، ورمى نفسه على الارض بيننا ، فكيف نتصرف نحن المدنيون ؟ كلنا حاولنا الدخول في الباب نفسه ، وفي اللحظة نفسها ، لتفادي الخطر ، ولم يصل احد الى الملجا . لكم ضحكنا طويلا عندما فككنا انفسنا من اجساد بعضنا ، واكتشفنا بعدها ان القنبلة الغادرة لم تكن سوى قنبلة ضوئية ليس الا . اتذكر اتذكر ذلك يا سعيد ، اتذكرين يا سمر .
تشابكت الايدي ، ورشة لتنظيف المنزل ، ورشة لتعشيب الحديقة ، ورشة لازالة الصدا ، ورشة للترميم ، ولزرع اعمدة مكان الاعمدة المتهالكة ، من جديد منزل ابو ايمن يعج بالحركة وبالحياة ، التقى الابناء ، وبدات الاسئلة والاحاديث وبدا دور سعيد :
خمسة ايام من القصف المتواصل بالطائرات والمدفعية طالت كل احياء البلدة ومزقت بيوتها ، اختبانا جيدا ، كنا نعرف ان العدو سيحاول اقتحام بلدتنا ، وكنا نتظر قدومه باستعداد واندفاع
كاملين وبدات الدبابات العدوة تتقدم باتجاه السهل ، لم نطلق طلقة واحدة ، وتقدمت اكثر وتعززت بغيرها ، وفي لحظة واحدة ومن كل الاتجاهات اصليناها بقذائفنا وبكل ما امتلكت ايدينا وعيوننا من غضب ، اشتعلت باكملها ، واثبت سهلنا كما جبلنا كم هي ارضنا قوية تلوي ذراع القوة مهما علا جبروته
حاول العدو قبل انتهاء حربه علينا ، ان يحقق انتصارا وهميا ، اذ بدا يتقدم في اماكن خالية بعد ان يحرقها بالنار ، استعدينا جيدا وانتظرنا وصوله الى الوادي بالياته المتراصة ، اعطبنا الاولى والاخيرة ، الغينا تقدمه وتاخره حيث ضاق الوادي على اية مناورة له للخلاص ، كانت اصوات جنوده المستنجدة الخائفة تملا الفضاء ، لم تفلح طائرته بغاراتها الوهمية من التخفيف من رعب هؤلاء المعتدين ، الذين تعلموا ان الدخول الى ارضنا الحبيبة ليست رحلة ، وهنا لا اكتمك يا اخي ، قال سعيد ، ان وجه امي المدماة ، وصراخ ابي في وجه قتلته ، كانا طيلة المعارك يحتلون وجهي ويجعلونني كتلة من القوة و الحقد والغضب .
سكت سعيد وغرق الاخوة تشاركهم سمر في صمت طويل حزين...
سؤال واحد اقلق ايمن ولم يجد من يساعده على الاجابة عليه اين خبا العدو جثمان والده وجثامين شهداء المجزرة ، وهم كثر . وبدات رحلة البحث دونما اية نتيجة . هل اخذ العدو الجثث معه عند انسحابه ؟ هل تركت الجثث تتحلل في مكان مكشوف ما والتهمتها الكلاب الشاردة ، الهياكل العظمية اذا اين هي ، ليس في الافق جواب . وحدها احدى الجرافات جاءت بالخبر اليقين ، اكوام ثياب متاكلة وعظام كثيرة وجماجم وهياكل عظمية تقول انحناءاتها انها لكبار في السن كلها انتشلت من حفرة عميقة ردمت ومن ثم رمي فوقها ركام احد البيوت
اقترب موعد سفر ايمن ، وهناك في كندا زوجته وابناؤه بانتظاره ، لقد تعرف على زوجته عندما كانا يعملان سويا في نفس الشركة ، فاجاته لهجتها ، وعرف بعد ذلك انها من بلدة مجاورة لبلدته في لبنان ، جمعهما الرحيل القسري ، حدثته مرات ومرات عن بلدتها وعن طيبة اهلها المزارعين بمعظمهم ، هذه الطيبة التي صوب العدو عليها جيدا كي يقضي عليها . قالت له مرة ، حين حدثها عن الزواج ، يا ايمن هذه الصلة بيننا دونها الكثير من العوائق التي زرعهتا التقاليد البالية بيننا ، والتوجيهات الخاطئة التي تلبست لباس الدين كذبا ، وجاءالعدو ليزيد في بعث شراراتها المحرقة ، لطالما نصب العدو مدافعه لقصف بلدتكم في ساحة بلدتنا ، ولطالما تحدث سكان بلدتنا عن ما لقنهم اياه العدو عن مؤامرة مزعومة لمهاجمة بلدتنا من قبل مسلحيكم ، وزع السلاح على رجال البلدة وفتيانها بحجة الدفاع عن النفس ، كانت الدولة غائبة ومقسمة وتعيش صراعات بين احيائها ، وهذا ما سبب نجاح العدو في مسعاه التخريبي ، فلم يكن لنا بد من السفر
قبل سفره قصد بلدة زوجته ، بين البلدتين مرج فسيح متماوج بالجمال ، ورود هنا وازهار هناك ، اقنية للمياه رسمت طريقها على كل جسد السهل ، وتزينت جنباتها بالحبق والدفلى ، مزارعون كثر شمروا عن سواعدهم ، لا تكاد تفرق بينهم الرجل من المراة ، والصبي من العجوز ، فالكل يغطي راسه بحطات متشابهة ، والكل عيناه تعانق التربة دونما التفات الى السيارة التي كانت تتبختر متباطئة في السهل ، كانت السيارة تحمل ايمن الى بلدة زوجته
تعرف ايمن الى منزل جدة لمياء ، الى جدها وجدتها ، تبادلا الاسئلة ، وبدا الجميع يتحدث عن البلدتين الجارتين
جدك نعرفه جيدا ، ونعرف الوالد كذلك ، كانت المرج مكان عملنا اليومي ، يلوح لنا بيديه ونلوح له بايدينا ، عرقنا واحد وتعبنا واحد ومرجنا واحد ، وعند ساعة الغداء نتقاسم اللقمة معا ، اعاد الله ذلك الزمان ما اروعه ، لقد فعلها العدو ، لقد فعلها ما اكثر شره .
اخًر ايمن سفره اكثر من مرة ولمياء الحبيبة لم تعد تستطيع الانتظار ، هاهو يعود الى كندا في الطائرة نفسها وفي الاتجاه المعاكس نفسه ، انما عاد ايمن منتصرا هذه المرة فالعدو لن يجرا ثانية على الاحتلال او القصف او محاولة التقدم ، لقد جرب المجازر، وجرب الهدم والخراب ،
وجرب الابادة الجماعية للخيام ، لم يسلم من عدوانه طفل او شيخ ، لم تسلم من عدوانه وردة او زهرة ، ولم يسلم من عدوانه حتى نواء هرة ، لكن الخيام كانت دائما عصية على الموت ، بل كانت اكثر تالقا وجمالا ومنعة بعد كل قيامة ، ايمن الاّن في الطائرة مغادرا ، الخيام بين يديه يقلبها بيتا بيتا ، حجرا حجرا وحديقة حديقة ، وها هويغفو مرتاح البال ، بلدته بخير ، ووطنه بخير ، واهله بخير، لن يتاخر في العودة ، لن يؤخره عن الرجوع الى الوطن ،الى بلده ،الى بلدته اي شيئ . اي شيئ.
أبو محمد علي يوسف خريس يقرأ الفاتحة على قبر والدته الحاجة سكنة ابراهيم قاسم عواضة شهيدة الإجرام الصهيوني
جانب من حيّ البركة بعد مجزرة الخيام وهجرة الأهالي
تعليقات: