مجزرة الخيام.. حكاية تضحية وصمود + Video

علي سمّور مواطن خيامي، كسائر الخياميين، عاش هول المجزرة
علي سمّور مواطن خيامي، كسائر الخياميين، عاش هول المجزرة


بلدة الخيام الجنوبية شاهدة على همجية العدو الصهيوني. فإبان العدوان الاسرائيلي على الجنوب تمهيدا للاجتياح نفذ العدو الصهيوني مجازر عدّة في الجنوب كانت احداها في بلدة الخيام بتاريخ 17/3/1978.

في 16 ايلول / سبتمبر من العام 1977 تركزت الهجمات على البلدة واتخذت قوات الاحتلال الصهيوني موقعا لها على هضبة مطلة على الخيام، وتكرر الهجوم على البلدة في 23/9/1977 واستمرت المعركة بين قوات العميل سعد حداد والقوات المشتركة اللبنانية - الفلسطينية.

وفي 14 آذار / مارس من العام 1978 قُصفت البلدة من جديد، انتقمت قوات الاحتلال الصهيوني على نحو فظيع من البلدة ، وما ان استكملت قصف البلدة برا وجوا وحولت منازلها الى انقاض حتى تسلمتها قوات العميل سعد حداد التي فتكت بالبلدة، وفي 17/3/1978 تفذت مجزرة الخيام.

قامت ميليشيا العميل حداد بارتكاب مجزرة رهيبة بحق الشيوخ والعجزة حيث استشهد فيها اكثر من 61 شخصا اصغرهم في سن الستين، وبعد المجزرة هجّر أهالي البلدة لمدة 5 سنوات كانت كافية لتدميرها نهائيا من قبل العملاء، حيث كان على اهلها اعادة بنائها بالكامل.

يروي ريتشارد غروس مراسل وكالة "اليونايتدبرس" الذي زار البلدة يوم 20 /3 / 1978 المشاهد التالية

نظفت " قوات سعد حداد " اليوم الهيكل المتبقي من هذا المعقل آخذين كل ما يمكنهم استخدامه في منازلهم الجبلية المجاورة.‏

لم يوقفهم عن ذلك أحد، لا فرقة دفن الموتى العسكرية "الاسرائيلية" الباحثة بين الأنقاض عن صيدها، ورجال الميليشيا المجتمعين فوق ناقلات الجنود المدرعة التي تثير الضجيج وهي تمر عبر الشوارع المفروضة بالأنقاض وكأنها سيارات سباق.‏

كل انسان في الخيام تجاهل الحرب في يومها السادس على رغم أن دلائلها الملموسة كانت تظهر بين الفنية والأخرى من خلال القصف المدفعي لحاصبيا.‏

وكان صدى قذيفة مدفع من عيار 175 ملم الأميركي الصنع طويل الفوهة يتردد بين التلال، وبعد لحظات شوهد بريق انفجار برتقالي اللون في حاصبيا وشوهدت غيمة بيضاء في مكان الانفجار سرعان ما تحول لونها الى الرمادي.‏

وكان رجال الميليشيا وأغلبهم يرتدي بزات عمل عسكرية "اسرائيلية" الصنع، يركبون سيارات شاحنات صغيرة محطمة مغبرة في جولات ما، احداها كانت تحمل برادا، والاخرى تحمل على سطحها مائدة وكرسيا، والثالثة قطعة من سيارة بحالة جيدة.‏

لقد مرت الحرب بسرعة من هذه البلدة ذاهبة في اتجاه الغرب في يومها الثاني وكان عدد سكان البلدة ذات يوم 8000 نسمة من المسيحيين.‏

قال جورج ، وهو عضو في الميليشيا بقي هنا بعد أن هاجر أهله الى مدينة توليدو في ولاية أوهايو الأميركية منذ عدة سنوات ، له شقيقتان في بيروت. رفض استخدام اسمه الثاني لأنه لا يريد أن يعرف أهله أنه في الميليشيا: "سيقلقون علي".‏

لا بد أنهم سيفعلون، فهو واحد من 700 رجل مليشيا لا يخفون رغبتهم في التعاون مع "الاسرائيليين".‏

سلاح هذه الميليشيا بالاضافة الى المدرعات "أ. ب. سي. أس" التي يسميها "الاسرائيليون" "زيلدا" ربما لأن شكل خصرها ذكر أحدا ما بالعمة "زيلدا" هي دبابات شيرمان الأميركية الصنع والمدرعات الفرنسية الصنع "أ. أم. أكس" وهذه المدرعات قديمة من الحرب العالمية الثانية وتبدو ذلك.‏

الرجال العشرة في فرقة الدفن "الاسرائيلية" المتنقلون في ثلاث شاحنات دخلوا القرية بحثا عن 15 جثة علموا بوجودها هنا، لا أحد بالدقة يعرف جثث من هي، ولا متى قتلوا، ومن قتلهم.‏

هناك امرأة مسنة ترتدي السواد، تبدو وكأنها الوحيدة من سكان الخيام، بالإضافة الى العديد من الكلاب والقطط ـ التي ما زالت أليفة ـ وتسير ببطء في مركز البلدة أو ما كان شارعها الرئيسي ذات يوم.‏

الحوانيت ملأى بالثقوب والثغرات التي تطل على الشارع، والمباني ملأى بآثار الطاقات والرصاص.‏

عندما تسأل المرأة تتحدث بالعربية أشياء لا منسجمة حول ابنتها التي على شفا الموت، لا أحد يهتم بها، فقد كانت هناك ميتات كثيرة.‏ هناك طفلان يلعبان في دمار ما كان غرفة ألعاب تجري فيها ألعاب أخرى اليوم. هذا المكان كان مستخدما كموقع لمدفعية الهاون.‏

شهود عيان

في 19 /3 / 1978 نشرت صحيفة "السفير" اللبنانية مقابلة أجرتها فاديا الشرقاوي مع عدد من الناجيات من هذه المجزرة وجاء في الصحيفة:‏

الناجيات القليلات من مجزرة الخيام التي ذهب ضحيتها أكثر من 100 تتراوح أعمار أغلبيتهم من الـ 70 الى الـ 85 سنة، ادلت بهذه الشهادة:‏

"كنا نائمين في الملجأ، الساعة الثانية عشرة منتصف ليل الثلاثاء، سمعنا هدير الطائرات المحلقة فوق البلدة، استيقظنا جميعا، وساد الصمت بانتظار ما سيحدث. غابت الطائرات فترة قصيرة وعادت لتقصف. من قوة الضرب عرفنا هول الغارة. وبقينا هكذا لا تعرف عيوننا النوم حتى السادسة صباحا والطائرات ما زالت تقصف. بعدما هدأت قليلا فخرجت انا زوجي وسلفي الى منزلنا لنرى ما حدث بالمنزل...‏

ولهول ما رأينا. كانت الدبابات "الاسرائيلية" تسير نحو البلدة تتقدمها قوات سعد حداد. اعداد هائلة من العناصر "الاسرائيلية" وقوات حداد. دبابات لا تعد ولا تحصى كانت تسير فوق رماد المنازل المهدمة التي لم يبق منها شيء. وعندما رأونا القوا القبض علينا. وكنا حوالي 10 أشخاص في الملجأ من أصل 75 مواطنا بقوا هناك.سألونا عن أسمائنا وطلبوا منا أن نعطيهم افادات حول مكان وجود المقاتلين ونوع الساحة التي كانوا يستعملونها وأمكنتها. ولما اكدنا أننا لا نعرف شيئا، خصوصا وأن معظمنا لا يعرف حمل السلاح تركونا وقالوا لنا: "كل واحد منكم يذهب الى منزله".

ولم يكد "الاسرائيليون" يديرون ظهورهم حتى فاجأنا أربعة مسلحين من جيش سعد حداد وطلبوا من الجميع ان يعطوهم ما معهم من أموال.. أصروا على تفتيشنا حتى ثياب النساء فتشوها.. وكانت حصيلة السرقة بين 30 و35 ألف ليرة. ولم يكتفوا بذلك بل طلبوا أن نسير امامهم.

كنا حوالي 10 رجال و6 نساء واخذوا يضربوننا بأعقاب بنادقهم. عندها طلب مني زوجي بصوت خافت أن أهرب وتركتهم والتففت من ورائهم، وهرولت نحو الملجأ حيث وجدت امرأة وزوجها يقبعان في زاوية. طلبت منهما عدم الخروج كي لا يصابا بأذى..

وفي الليل خرجت لأستفسر الأمر. لم أجد أحدا في الشارع سوى الجثث هنا وهناك، جثث طار رأسها وأخرى مرمية على وجهها وأخرى على ظهرها، واخرى مدروزة في الحيط وأخذت أبحث بينها عن زوجي.. فوجدته. كان مقتولا وفمه "يكدش" الأرض. لم أستطع البكاء ولا الصراخ خوفا على روحي اذ انني شاهدت احدى السيدات وتدعى الحاجة زينب وهي طاعنة في السن وقد اطلقت عليها النار من الخلف فركضت ثانية الى الملجأ.. حتى هناك لم أستطع البكاء. كنت أخاف أن يسمعوا أنيني ويقتلوني.‏

وفي الليل تجمع من بقي من أحياء وخرجوا الى "مرج الزهور" في البقاع الغربي ومن هناك الى بيروت.

المراسلون "الاسرائيليون" والأجانب يصفون الخيام بعد المجزرة والتدمير

قال مراسل يديعوت أحرونوت :" في الخيام لا يوجد وقت لسماع صوت المخربين. في الخيام بدا وكأن الزمن قد توقف. في هذه البلدة التي تسيطر استراتيجيا" على منطقة واسعة، وهي في أحد أطرافها ممر عرفات من سوريا الى لبنان ، كان يوجد ذات مرة 24 ألف مواطن من الشيعة والمسيحيين، والبارحة وجدت فيها امرأتين عجوزتين مختبئتين، لم تفرا مع الباقين لأنهما لم تقدرا حتى على المسير. وحتى ما قبل أسبوع كان في الخيام نحو 100 "مخرب" ونحو 40 مواطنا". والبارحة بدا المكان وكأن لم يسكنه أي إنسان منذ قرون. البلدة مدمرة ويكاد لا يوجد فيها بيت واحد غير مدمر. كانت الرياح تصفر بين النوافذ المحطمة. وكانت العلب الفارغة تحدث أصواتا" غريبة ومخيفة. وكان يبدو وكأن كل علبة تخفي وراءها مخربا" ينظر الينا. وراء العلب لم يكن هناك مخربون في الخيام، ولكن هنا وهناك بالإمكان رؤية جنود الكتائب ، وقد وصلوا بواسطة سياراتهم من مرجعيون وحملوا عليها أسلابا": قضبانا" من الحديد وأفرانا"، وطاولات وأثاثا" على أنواعه....وعلى الطريق الرئيسي يوجد صندوق حديدي ثقيل جدا"، لا يمكن نقله، ولكن ماذا فعلوا به؟ لقد نسفوه حتى يروا ما اذا كان يحتوي على مال.

ويتابع

إن إحتلال الخيام وتدميرها رفع آخر كابوس عن بلدة مرجعيون التي تحولت منذ فترة الى جزء لا يتجزأ من المنظر الاسرائيلي في الشمال. وتعود الحياة الطبيعية الى مرجعيون مع أمل كبير في القلب. (يديعوت احرونوت 19-3-1978).

أما مراسل "جيروزالم بوست" الذي رافق الصهاينة أثناء الهجوم على الخيام فكتب

"وقفت أراقب برعب وهلع سقوط مئات القذائف على التلة: كنت قد رأيت الخيام بواسطة منظار جيد، وأعجبت بسحر سقوف منازلها الحمراء. إن للبلدة جمالا" رائعا" أخّاذاً، يصلح لأن يكون منظرا"بريديا". كان يمكن أن تكون هذه البلدة مقرا" للراحة في الظروف الطبيعية . سكتت المدافع مفسحة" في المجال لتقدم المشاة بعد أن انتهت الطائرات من تدمير ما عجزت عن تدميره المدفعية. أذكر أني فكرت وقلت وأنا واقف هناك مذهولا" والى جانبي العديد من المذهولين مثلي نستمع الى صرخات الرعب، قلت ان كمية المتفجرات التي استعملت في التدمير كانت كبيرة جدا" بالنسبة لهذه البلدة. ولا لزوم للتذكير بأن حادثة الخيام لم تكن الوحيدة، فقد جرت نفس الأحداث في نفس الوقت في أعداد كبيرة من القرى والمدن تلك الليلة....

دخلت الخيام مع أول دفعة من جيش الدفاع، وقد استغرقت رحلةُ عبورنا ثلاثة كيلومترات الى البلدة سبعَ ساعات بسبب تراكم الدمار. كنت قد رأيت الأوتوبيس يوم السبت وما زالت الجثث مطروحة ورائحة اللحم البشري المحروق في أنفي. كنت أتحرق للإنتقام، ولكني لم أكن مستعدا" لرؤية ما رأيته في الخيام. لم يبق أثر لأي منزل. لقد دمرت البلدة بأسرها. والأفظع من ذلك أنه لم تقع أية اصابة في صفوف "الإرهابيين". ولم نستطع القبض سوى على عدد ضئيل جدا" لا يتجاوز عدد أصابع اليد. كانوا قد هربوا وبقيت الخيام المدمرة الهادئة. تتحمل وزر الثأر الاسرائيلي. لماذا أخبركم عن الخيام ؟ لأنها نموذج للحرب التي بدأتها اسرائيل، وسيصبح لزاما"عليها الآن أن تحمي المسلمين الجنوبيين من هجمات التجمعات المسيحية... لقد ورثت اسرائيل مع المناطق الجديدة المحتلة مشاكل ومتاعب تلك الأرض."

"هذا ما قاله هيرش جودمان مراسل جيروزاليم بوست أثناء الهجوم على الخيام في ملحقها نهار الجمعة 24 آذار 1978."

أمّا وكالة رويترز فجاء فيها في 15 أيلول 1979 من تل أبيب ما يلي :

قال أمس النائب الاسرائيلي يوري أفنيري أن ضابطا" اسرائيليا" هو الملازم دانيال بنتو خنق بخيط من النايلون أربعة مزارعين لبنانيين من بلدة جنوبية خلال الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان في آذار 1978 وذلك بعد تعذيبهم. وقد وصف النائب عمل الضابط بأنه جريمة شبيهة بجرائم النازيين. كما اتّهم رئيس الأركان الاسرائيلي الجنرال رفول ايتان بالكذب. ولم تسمح وزارة "الدفاع الاسرائيلية" بنشر تفاصيل هذه الجريمة الوحشية إلاّ بعد أن نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمس أجزاءً منها بتاريخ 14-9-1979.

يقول النائب الاسرائيلي: إن الضابط بنتو الذي كان يقود فصيلة مشاة أثناء عملية اجتياح الخيام عذّب اللبنانيين الأربعة لعدة ساعات ثم خنقهم حتى الموت بحبل من النايلون وبمساعدة اثنين من عرفاء الجيش الاسرائيلي عاوناه على إلقاء الجثث في بئر"

ويقول ناعوم شومسكي في كتابه "قراصنة وأباطرة" ص 66:

" إن تاريخ الخيام غير معروف هنا في أميركا، وقد ألمح زئيف شيف المعلق العسكري لِ هآرتس إلى هذا التاريخ في غمرة عمليات القبضة الحديدية التي رسمها بيريز، وقال زئيف شيف: إنه عندما قامت إسرائيل بغزو لبنان كانت الخيام خالية من السكان. فقد تمَّ طردهم مع سقوط المئات من القتلى على يد القصف الإرهابي الإسرائيلي. أمّا الحفنة الذين بقوا في الخيام فقد تم ذبحهم خلال الغزو على مرأى من كتيبة غولاني على يد ميليشيات حدّاد عميلة اسرائيل. كما كانت الخيام موقع سجن سرّي تديره اسرائيل وحلفاؤها من الميليشيات المحلية في جنوب لبنان حيث يتم احتجاز المعتقلين في ظروف مخيفة ويتعرّضون للضرب والتعذيب بالصدمات الكهربائية، حسبما ذكر النزلاء السابقون ومسؤولو الإغاثة الدولية في المنطقة. وقد ذكر الصليب الأحمر أن الاسرائيليين كانوا يديرون المركز وأن الجيش الاسرائيلي كان يمنع دخول مسؤولي الصليب الأحمر إليه. وقد يكون هنالك المزيد مما يجب قوله حول الهجوم الإرهابي الذي قام به المتعصّبون على الخيام حيث أن أمورا" كهذه تعتبر ملائمة لأن تصبح جزءا" من الذاكرة التاريخية الى جانب عمليات أخرى إرهابية ذات فائدة إيديولوجيّة كبرى، كما أن للنبطيّة حكايات أخرى لا بدّ من روايتها، حيث أن هروب خمسين ألفا" من سكانها البالغ عددهم ستين ألفا" نتيجة الخوف من القصف الاسرائيلي قد غطاه مراسلان من مراسلي الجيروزالم بوست كانا يتجوّلان في جنوب لبنان...."

هذه الوقائع الإجرامية كما ترويها الصحف الإسرائيلية والوكالات الأجنبية والكتب ما هي سوى مثال على المجازر التي ارتكبها الصهاينة في الخيام وغير الخيام. ومن يتسنّى له العودة الى الأرشيف والاطلاع على شهادات المسؤولين في الصليب الأحمر الدولي يتأكد أن مجزرة الخيام التي راح ضحيتها أكثر من أربعين شهيدا" ومجزرتيّ العباسية وكونين وغيرهما من المجازر الشنيعة خلال الإجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني في العام 1978 هي المثل الساطع لسياسة الفتك والتدمير التي شرّعتها اسرائيل وتوّجتها في مجزرة قانا وجنتا تحت سمع وأنظار دول الغرب الإستعمارية التي تدّعي الحضارة والإنسانية.

ناجية من المجزرة

الحاجة خديجة عكر احدى الناجيات من المجزرة تروي قصتها بعد سبعة وثلاثين عاما على المجزرة:

تروي خديجة، أنه في صباح يوم هادئ لم يطلق فيه الرصاص، خرج الأهالي من بيوتهم ليجدوا المتعاملين مع "إسرائيل" يجوبون شوارع البلدة وأحياءها لإحصاء الموجودين فيها. خلال هذه الجولة اعتقلت دوريات لرجال كانوا يرتدون الثياب العسكرية زوجها قرابة الثامنة صباحاً. حاولت اللحاق به فطلب منها أحد أفراد الدورية العودة من حيث أتت على أن يعيدوا زوجها لاحقاً.

امتثلت خديجة للأمر وعادت إلى البيت حيث كانت قد أبقت طفلها كريم مع عمتها ذؤابة عكر وحماتها سكنة شمعون رشيدي وزوج عمتها إبراهيم رشيدي. عند الساعة الواحدة بعد الظهر لم يعد زوجها، وكانت البلدة قد بدأت تشهد حركة صاخبة لآليات الجيش وشاحناته. «قررت حماتي أن تخرج بحثاً عن ابنها، لكنها لم تعد، بل وجدت مقتولة قرب المدرسة الرسمية. مثلها مثل أي إنسان التقوا به فقتلوه ورموه إلى جانب الطريق». عندما تأخرت حماتها، قررت هي أن تخرج بحثاً عن الاثنين: «قلت لعمتي احملي ابني حتى أذهب وأرى ماذا يجري في البلدة. في الطريق، التقيت بدورية لشبان يرتدون ثياباً عسكرية. سألني أحدهم أين كنت؟ تعالي معنا. قلت دخيلكم ابني بالبيت. سألوني مع من في البيت؟ فقلت مع عمتي وزوجها. أتوا معي وأخذوني مع ابني وجميع من كان في المنزل إلى مكان قريب من المدرسة وجمعونا هناك. كنا نحو عشرين شخصاً جمعونا من الحارة الشرقية. 4 نساء لا أولاد لهن، زوجة عمي يوسف والحاجة رقية واثنتان أخريان. قتلوهن جميعاً، أما أنا فقد نجوت بعدما تدخل عسكري بالجيش اللبناني كان في إحدى الملالات قائلاً: «أم الولد هناك، أخرجوها من الصف». بالفعل أخرجوها من الصف وكان ابنها لا يزال على يديها. تتابع خديجة السرد: «لم أعد إلى البيت مباشرة، بل اتجهت شمالاً وأنا أرتجف وجلست على مصطبة صغيرة. حين نظرت خلفي رأيت من كنت معهم يسقطون الواحد تلو الآخر، أعدموهم. انتهوا من فعلتهم، وغادروا مارّين من أمامي وقد قال لي الجندي الذي أنقذني: «الآن عودي إلى بيتك». سألته من يكون؟ فقال إنه يعرف شقيقي أمين عكر الذي كان جندياً في ثكنة مرجعيون، وإنه لا يمكن أن يفعل لي شيئاً الآن، «ومثلما صفّوا من حولك يمكنهم أن يصفوني أنا» قال لها.

سارت خديجة حاملة ابنها بقدمين ثقيلتين إلى البيت. مرّت قرب من قُتلوا وراحت تتفقدهم علّها تجد حياً بين الجثث لكن عبثاً. كلّهم كانوا قد أسلموا روحهم. عمتها وزوجها والجيران كلهم. حين تصل إلى البيت تهرع إلى قبو تحت منزل أهلها، حيث يلحق بها إلى هناك عدد من المسلحين ويطلبون نقوداً، فتجيب: «لا يوجد معي ولا قرش، ادخلوا إلى البيت وخذوا ما تريدون من أغراض وأثاث». يقول أحدهم: «أخذوا منها ابنها وعرّوا جسدها، فتصرخ به: ما عندك عرض؟ ما عندك أخت؟ لماذا لم تقتلوني مع من قتلتم؟». لم تعد خائفة من الموت، بل من تعذيبها والاعتداء عليها. تبدأ بالدعاء والاستجارة بصوت مرتفع «فتتدخل رحمة الله مرة ثانية، ويعود العسكري الذي أنقذها ويؤنب رفاقه قائلاً لهم «لو معها مصاري ما بعدها قاعدة هون! لقد قتل أهلها وبقيت هي وطفلها فارحموها».

في اليوم الثالث، كانت لا تزال في القبو من دون طعام على الإطلاق: «لم أستطع أن أبتلع لقمة واحدة. كما أن ابني كان مريضاً ولم أجد طبيباً أعرضه عليه». جاء مواطن من بلدة كفركلا ونقلها إلى منزل الحاج أمين رحيم الذي بقي حياً مع صهره زوج شقيقته في الخيام. وفي المساء أتى شخص من بلدة القليعة ونقلها مع ابنها إلى كفركلا حيث توفي ابنها متأثراً بمرضه.

بعد وفاة ابنها، بقيت خديجة 15 يوماً في كفركلا ثم انتقلت في سيارة إلى بيروت لتجد أن عزاء أقامته عائلتها لها هناك معتقدين أنها قتلت مع من قُتل. أصيبت بصدمة حادة بسبب كل ما جرى، ولم تتخط ذلك إلا بعد وقت رغم أنها عادت إلى القرية وأقامت مع أخواتها، وشهدت التحرير.

اليوم هي في السبعين من عمرها، رغم ذلك «لا يمكن أن أنسى كيف وصلت إلى شفير الموت وعدت». تقول متسائلة عن جدوى العودة من دون عائلة؟ «حتى الآن أنا لا أعرف أين دفن زوجي. أنا ابني أنقذني، ظل حياً لينقذني ثم مات. لم أكن أستطيع القيام بأي شيء لكي يبقى حياً، ماذا كان يمكنني أن أفعل؟».

تتذكر عكر كيف ردم التراب على الشهداء في اليوم التالي للمجزرة، بعدما جمعت جثثهم في إحدى الجرافات. في ذلك اليوم أيضاً دخلت دورية إسرائيلية إلى البلدة، وسألها أحد عناصرها: من قتل هؤلاء؟ فردّت: «أنا اللي بدي أعرف من قتلهم؟». تتنهد ثم تتابع: «لم يتركوا أي حيّ في الخيام، ما استطاعوا أن يسلبوه أخذوه، ومن لم يقدروا عليه قتلوه. لكن لا أحد في الخيام يعرف حتى الآن كم هو عدد الشهداء الذين سقطوا في هذه المجزرة، ولا أحد يعرف القبر الحقيقي لهذا الشهيد أو ذاك».

هذه الحادثة التي عاشتها خديجة هي ما جعلها تصمد خلال عدوان 2006، الذي شهدت فيه فصلاً إضافياً من فصول القتل والدمار المرتكبة من العدو الإسرائيلي. لم تغادر البلدة إذ لم يعد أي شيء يخيفها بل بقيت مع أختها المقعدة على كرسيّ متحرك، وابنة أخيها، حتى انتهاء العدوان، بنصر المقاومين.

كلمة المهندس أحمد عطوي في ذكرى مجزرة الخيام "أجدادُنا أورثونا العزّة والإباء.. فكان خير ميراث"

خديجة عكر: طفلي أنقذني
خديجة عكر: طفلي أنقذني


تعليقات: