كان أبو نعيم يملك ثمانية بيوت بلاستيكية، يزرع فيها أنواع الخضر كافة. وكانت توفر له دخلاً جيّداً، يكفيه لإعالة أسرته. سمع أن زراعة الفطر توفر دخلاً مرتفعاً فقرر الانتقال إليها ولم يتمكن منها إلا بعد كفاح طويل كاد يطيح جنى العمر
كان الظن أن الوصول إلى مشغل أبو نعيم دونه صعوبات بالغة. الأخبار التي رشحت عنه تفيد أنه صعب المراس، لا يستسيغ الاستقبالات ولا التعامل مع الناس، وخصوصاً من يودّ أن يعلم شيئاً عن حرفته في زراعة الفطر. شيء من هذا صحيح. لكن الأشياء الكثيرة الأخرى التي تخالف ذلك الاعتقاد طوتها هواية التعميم، فاختُصرت شخصية أبو نعيم بجزئية ظهرت أنها سلبية، لأن أحداً لم يتمكن من إدراجها في سياق تجربته المرّة مع زراعة الفطر.
يقيم الرجل على المسرب الشمالي من ساحة حلبا المؤدي إلى طرابلس. يخرج إلينا من بين ماكينات مشغله، فيبدو للوهلة الأولى أقرب إلى جامع خردة منه إلى صاحب مشغل ومزرعة. تبدأ رحلة التعارف التي يتغيّر وجه الرجل في مستهلها مع ذكر اسم «الأخبار» على مسمعه، فهو من قرّائها الدائمين.
لذلك، راح من دون عناء يسرد قصته التي بدأت قبل 15 سنة، حين كان يشتغل مزارعاً لحسابه في المشاريع البلاستيكية التي يملك ثمانية منها. سمع بزراعة الفطر وبفوائدها الصحية، فضلاً عن الأرباح التي يمكن أن تتحقق من خلالها. وأقنعه مهندس زراعي متخصص في زراعة الفطر بجدواها، لكنه لفت نظره إلى العقبات الكثيرة التي ستواجهه. وبناءً عليه، اتفق مع المهندس على مبدأ التشارك: المعرفة والخبرة من المهندس، والعمل والتمويل من أبو نعيم.
هكذا، حوّل بيوت البلاستيك إلى تجهيزات لمزرعة الفطر، كما عمد من دون تردد إلى «تجليس» قساطل بيوت البلاستيك، وقص الأغطية البلاستيكية، لتصبح ملائمة. فعل ذلك كله، بمشورة المهندس، يقيناً منه أن هذا الأخير سيبقى إلى جانبه ويتابع محطات العمل خطوة خطوة. لكن، وبينما كانت بيوت البلاستيك قد تخرّبت، وتوقف مصدر عيش أبو نعيم الوحيد، حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ اختفى المهندس من دون سابق إنذار، ولم يعلم أبو نعيم إلا بعد مدة طويلة أنه وقّع عقداً مغرياً للعمل في الخارج.
أيقن أبو نعيم أنه «أكل الضرب». بيوت البلاستيك لم تعد صالحة. دفع 30 مليون ليرة لتقسيم المستودع إلى غرف، وتجهيزها بما يلزم. وهو يعلم بعدما دفع ما بحوزته أن زراعة الفطر من دون مساعدة تقنية تعني احتمال غوصه في استدانة عشرات الملايين من دون طائل. وإلى ذلك الحين لم يكن في لبنان من مزارع فطر، فتوجه نحو سوريا والأردن، فتش وحاول، لكنه عاد صفر اليدين.
قصد روسيا حيث يتعلم أخواه. فذهب مع أحدهما إلى مدينة بطرسبرغ حيث وفّق بمزرعة كانت تملكها الدولة السوفياتية، ولا تزال تديرها امرأة ستينية وافقت على السماح له بتعلم المهنة، لكن المسؤول المباشر طلب مبلغ عشرة دولارات عن كل ساعة تعليم.
استغرقت الدورة التدريبية التي أخضع أبو نعيم نفسه لها ثلاثة أشهر، وهي مدة دورة إنتاج كاملة، دفع خلالها أربعة آلاف دولار، عدا سائر المصاريف. وقام خلالها بتسجيل كل المعلومات وتصوير مراحل العمل ومحطاته كافة. وعاد إلى لبنان وهو يعتقد أنه استوعب آليات العمل. ورغم خسائره المتلاحقة، أقدم متحمساً على أول محاولة زراعة، ثم انتظر أياماً وأسابيع لكن الفطر لم ينبت. يبدو أن البيئة، وظروفاً أخرى، اقتضت إحداث بعض التعديلات. ومن حسن حظه أن أحد إخوته بقي على تواصل مع أصحاب المزرعة في بطرسبرغ. فأرسلوا إليه مهندسة روسية، بأجر شهري مقداره ألف دولار، على أن يتكفل هو بأعباء السفر والإقامة.
مكثت المهندسة الروسية أربعة أشهر، وأشرفت على تفاصيل موسم زراعة فطر كامل، فحصد أبو نعيم لأول مرة ما نسبته 65% من النتائج القصوى التي يمكن أن يحصل عليها. وبقيت المهندسة شهراً إضافياً للمساعدة في الإعداد لموسم آخر. وكان ذلك عام 2002.
إذاً، أمضى أبو نعيم سنوات كثيرة، دار ولفّ مناطق وبلداناً قريبة وبعيدة، دفع في خلالها كل ما يملك، إلى أن تمكن من حرفته. لذلك هو لا يخشى أن يسرق متطفل سرّ المهنة، بل يخشى على ذلك المتطفل التورط في مغامرة لا يدرك أحد غيره مرارتها وخفاياها. من هنا يمكن فهم ما رشح عنه من استهجانه أسئلة الزوار العابرين، وفي الوقت نفسه وجدها فرصة مناسبة ليشرح لـ«الأخبار» رحلة معاناته الطويلة، لعله يزيل عن نفسه عبء الاحتفاظ بتلك الحكاية فتكون «مرّة ولا كل مرة» يقول فيها لمن تراوده فكرة تعلم هذه الحرفة، التي قد تبدو سهلة، بينما هي تستوجب في الواقع إدراج كلفة تعلمها ضمن دراسة الجدوى الاقتصادية بكل ما للكلمة من معنى.
خاض أبو نعيم هذه المغامرة بعناد ومثابرة (الأخبار)
تعليقات: