بين الغصة والفرح «قطف» سالم «عرش» ريفي
في كلّ زاويةٍ في المديرية العامة للأمن الداخلي، تخال أشرف ريفي متنقلاً في المكان. النجمتان اللتان تعلوَا كتفيه، تبدوان كأنهما «تسهران» على أمن المؤسسة. صدى صوته يصدح في المكان..
رحل اللواء المتقاعد، ولكن طيفه يظلّل المديرية منذ أسبوع، وكأن «راداراته الافتراضية» بإمكانها رصد كل ما يجري في «منزله الثاني». ربما ليس لريفي «ناقة ولا جمل» في كلّ ذلك، قد يكون ذنب الصورة، أو ربما معادلة رجل أمن استطاع بفضل ساعده الأيمن اللواء الشهيد وسام الحسن أولا، وحدة الانقسام السياسي ثانيا، وباعتبار جهازه الأمني محسوباً على فريق سياسي ثالثا، أن يتحوّل إلى حجر زاوية في مشروع محلي إقليمي.
خلع «أبو أحمد» بزته العسكرية، وضّب أغراضه ورحل. ولكن قبل أن يسلّم الأمانة همس في أذن خلفه: «حافظ على هذا السلك، فنستطيع المحافطة على أنفسنا ووطننا».
«الإمبراطورية» في عهدة سالم
بين الغصة والفرح «قطف» العميد روجيه سالم «امبراطورية أشرف ريفي»، وتربّع على «العرش» نفسه الذي كان يجلس عليه رئيسه ورفيق دورته.
لا يبدو أن المنصب بدّل في حياة «القائد الجديد» بعد، سوى أن الاتصالات تنهال عليه من كلّ حدب وصوب. فـ«العميد الأرثوذكسي» يعرف تمام المعرفة أن وصوله إلى المركز السنيّ كان أشبه بـ«ستروبيا»!
بالرغم من كلّ التضحيات التي قدّمها المدير العام بالوكالة للسلك العسكري، لم ينل الرجل حقه لأكثر من ربع قرن. وحده ريفي كافأه وقربه منه كـ«رئيس وأخ وصديق بعد أن تخلى عني الكثيرون».
ومثلما شكل وجود ريفي مناسبة لحصوله على حقه، فإن غيابه أيضا، فتح للعميد الآفاق ليكون قائد المديرية، ولو بالوكالة.
عين واحدة يريدها سالم أن تلتقط هذا المشهد، وتتعرّف إلى «بطله» وتنطق باسمه، هي عين والدته. يحاول عند كلّ صباح أن يبدّد عقدة الذنب التي تلاحقه أشباحها أينما كان. يشعر العميد أن والدته أصيبت بداء العجز بفعل ما اقترفته «يداه»، بعد كلّ الخوف الذي كان يعتريها وهو يقفل باب المنزل خلفه متوجّهاً إلى الخدمة على المحاور المشتعلة.
من العشق إلى أشرف!
يجلس المدير الجديد على مكتبه، يقلّب أرشيف حياته ليتذكّر كيف أوصله القدر إلى هنا. لم يخطّط سالم ليكون مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي، فـ«المنصب ليس للكواتلة».
هذه ليست الرمية الوحيدة التي كانت «من دون رامٍ» في حياته، إذ ان دخوله إلى السلك أيضاً كان من خارج «المخطّط المرسوم». لم يكن سالم يريد أن يكون عسكرياً ثانياً في منزل لطالما اتسم بـ«النظام العسكري المرصوص».
ترعرع الشاب مع 5 أشقاء وشقيقة. قساوة والده المنخرط في الجيش اللبناني، إضافةً إلى رفضه القاطع دخول نجله إلى السلك، شطبت مهنة الدركي من حساباته.
ولكن الوقوع في شرك الحب في سن مبكرة كان تماماً مثل تقاعد أشرف ريفي، في الأشهر الأخيرة لحياته العسكرية. عشقه للفتاة التي كانت تحب العسكريين، جعله يهرب من منزل والديه ويتحدّى الصورة التي رسمها لنفسه، بتطوّعه في قوى الأمن الداخلي.
حينذاك، خرجت حبيبته من العلاقة، فيما فضّل سالم أن يكمل درب «ابن الدولة». أكثر من 22 عاماً قضاها في جنوب جسر الأولي، 7 سنوات في صيدا و15 عاماً على الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة. خرج الرجل من مسقط رأسه ملازماً أولَ ليعود من الجنوب مقدّماً.
في تلك الفترة، دخل سالم في متاهات كبرى، رأى بأم العين جيش أنطوان لحد في ظلّ احتلال إسرائيلي قاسٍ، عايش المقاومة وبطولاتها. جلّ ما كان يريده أن تبقى «رائحة الدولة» تنبعث في المكان الذي ليس فيه قائمقامية واحدة.
«نحت في الصخر»، لتسجّل الدولة حضورها، ولو بالقليل الممكن، في الجنوب المحتلّ. فهو يرى أنه ضحى بكلّ شيء في سبيل الدولة. أكثر من 11 عاماً تحت القصف، ترك فيها عائلته وحدها لا يرى خلالها زوجته وابنته، إلا يوماً أو يومين كلّ ثلاثة أشهر.
يلتفت سالم خلفه، لينتبه الى أن والده القاسي كان مثاله الأعلى، فالصرامة مع الضباط واجبة، والصدمات المتتالية في الخدمة كانت لها ردود فعل عكسيّة. الرجل المتفائل يشعر اليوم بالرضى، فهو حصد بعد كلّ هذا الكدّ. سيخرج من السلك في 28 حزيران 2013، وفي سيرته الذاتية لقب «مدير عام سابق لقوى الأمن»، ولو بالوكالة.
بين السلف والخلف
يشعر المدير العام الجديد بالحزن. ريفي كان له «رئيساً وأخاً وصديقاً»، التواصل بينهما بدأ منذ التحاقهما في دورة قوى الأمن، ولم يتوقّف حينما كان موجوداً في الجنوب. بنظره، إن ريفي هو «صاحب الأيادي البيضاء» على هذه المؤسسة. إنجازات «القائد المتقاعد» كثيرة ولكن «شعبة المعلومات» في رأس القائمة.
وبالرغم من كلّ هذه الإنجازات، يقرّ سالم بأن مشكلة السلك تكمن في الطائفية والسياسة، ولكن ليس في اليد حيلة فهذه ليست أزمة السلك وحسب، وإنما أزمة وطن بأكمله.. «هيدا لبنان وهيدي مؤسساته».
أمراض المؤسسة العسكرية، لم تتفش في عروق «المدير الجديد»، أو هكذا يبدو له. يقرّ بأنه لم يتسلّم أي مركز حساس لأنه غير محسوب على أحد. بنظره، دفع ثمن حياديته من «كيس» تاريخه في المؤسسة.
لم تعصف «نقمة التهجير» التي حلت بقريته المسيحية في الشوف ومن ثم بقرى شرقي صيدا، بثوابته. فهو تربى بين الموارنة والدروز ليخرج بلقب «أبو حسن» لم تسمح الظروف بأن يدخل «حيّز التنفيذ»، وعاش مع شيعة الجنوب لأكثر من 20 عاماً جعلته يقسم بالإمام علي تماماً كما يقسم بالمسيح، واحتك بسنّة صيدا لسبع سنوات متتالية.
يستذكر سالم حينما كلّفه اللواء ريفي أن يقدم له تشكيلة لمجلس القيادة في قوى الأمن الداخلي، بعد أيام ردّ ريفي التشكيلة «مع الشكر»، قائلاً للعميد: «هذه أفضل تشكيلة رأيتها.. ولكن يا روجيه.. روما من فوق غير روما من تحت!».
يحاول سالم أن يترك بصمة في أسابيعه الأخيرة في المديرية بسعيه الى تغيير الصورة النمطية عن العسكري في ذهن الناس، وطبعاً المحافظة على «إنجازات السلف».
الأشهر الثلاثة المتبقية قبل تقاعده في 28 حزيران، ليست كافية لأن تكون هناك «بصمات سالميّة» على السلك، ولكنه يضع نصب عينه هدفاً وحيداً هو عدم المسّ بالمديرية أو بالأصول القانونيّة ما دام على رأسها، حتى يسلّم «الأمانة» إلى من سيأتي بعده.
لا تغادره أبدا صورة «الرئيس المتقاعد».. بينه وبين نفسه، يتمنى سالم أن يكون «نسخة منقحة» عن «رئيسه المتقاعد»، مع بعض التعديلات، وأهمّها طريقة التعامل مع العناصر. برأيه كان ريفي رحوماً حتى في العقاب، أما هو فسيكون أكثر حزماً وقسوةً في إنزال العقوبات بالعناصر والضباط المخالفين.
«لو بدها تشتي غيّمت»
من بعيد، يظنّ سالم أن سلفه مرتاح لأن المديرية في «عنق» ابن المؤسسة العسكرية، الذي قضى فيها آخر سنواته العسكرية كمفتش عام. هو سيبقي على كلّ العناصر الذين كانوا في مكتب ريفي؛ المديرية ستبقى كما تركها «القائد» إلا إذا أخطأ أحدهم. هذا «الستاتيكو» الذي يفضّله «الوكيل» ليس نابعاً من عدم تمتّعه بكامل الصلاحيات التي يتمتّع بها المدير العام، وليس بمراهنته على عودة اللواء إلى المديرية. فهو، وإن كان يتمنى أن يتسلّم ريفي من جديد الدفة، يردّد «لو كان بدها تشتي، كانت غيّمت».
لن يغيّر الرجل شيئا في حياته. سيخرج بموكبه من المؤسسة مع سائقه من دون إجراءات حماية نوعية، فـ«الله هو الحامي».
سيري فعين الله ترعاك. «القدريّة» التي تعايش معها سالم منذ دخوله المؤسسة وحتى ترؤسه المديرية، وما بينهما، تحتّم عليه أن ينصاع إلى القضاء والقدر في كلّ شيء.
تعليقات: