لم يسمح الجو المتوتر بدخول كاميرا إلى المنطقة لالتقاط الصور (أرشيف ــ مروان بو حيدر)
لطالما كان الفقراء في كلّ مكان، وقود الحروب والمناكفات السياسية. وما حصل في البدّاوي مؤخراً دليل إضافي على هذه الحقيقة. الكلّ يثير اليوم موضوع مخالفات البناء، من دون السؤال عمّا أوصل الأمور إلى هنا
لم تحظ البدّاوي باهتمام سياسي وأمني وإعلامي في تاريخها، كما حصل معها في الأيام الأخيرة. فقد صارت على كلّ شفة ولسان، متصدّرة عناوين الصحف ونشرات الأخبار في محطات الإذاعة والتلفزيون، بسبب إشكالات يومية بين بعض أهل المنطقة وبين القوى الأمنية أدت أول من أمس إلى سقوط ثلاثة قتلى وعدد من الجرحى إثر محاولة القوى الأمنية قمع مخالفات بناء في المنطقة.
الوصول إلى منطقة وادي النحلة، حيث وقع الإشكال، ليس سهلاً لمن ينوي زيارتها لأول مرّة، إذ ليس من إشارة أو لوحة تحدّد الاتجاه الذي يساعد في الوصول إليها لمن يسلك أوتوستراد البداوي الدولي، إلا إذا اعتبرت بقايا الإطارات المشتعلة والحجارة التي وضعت مؤخراً في عرض الطريق المؤدية إليها دليلاً. موقع البلدة الجغرافي بين «مثلث حرمان» مدقع يتمثّل في مخيم البداوي للاجئين الفلسطينيين ومنطقة المنكوبين والبداوي، جعلها وهذه المناطق خارج اهتمام المسؤولين كافة، الذين لم ينظروا إليها إلا على أنها تشكّل خزاناً انتخابياً لهم، في حين يعدّ المقيمين فيها مواطنين من الدرجة الثانية وما دون.
طرقات المنطقة الضيّقة تعطي انطباعاً أوّلياً عنها، فبيوتها المتواضعة لا تختلف شكلاً ولا هندسة عمّا هو موجود في مخيم البداوي المتاخم لها. بعض البيوت المُكوّنة من طابق أرضي واحد، لم يعرف سقفها الحديد والباطون لحماية من يقيمون تحته، معظمها سُقف بألواح «التوتيا» (التنك)، التي تتحوّل إلى برّادات في الشتاء، وإلى أفران في الصيف.
الكثافة السكانية في وادي النحلة واضحة للعيان، فضمن شريط جغرافي ضيّق يقيم أكثر من ألفي شخص تقريباً، يتمتعون بوضع إداري شبه مستقل كونهم ملحقين ببلدية البداوي. أما حصتهم في بلديتها فهي ثلاثة أعضاء من أصل ثمانية عشر، ومختار من أصل مخاتيرها الخمسة، أغلبهم من عائلة سيف التي تُعدّ الأكبر فيها.
ليس ظلماً وصف وادي النحلة بأنه حزام بؤس يقع بين أحزمة البؤس المحيطة به، ما جعل المقيمين فيه، وفي منطقة المنكوبين المجاورة له، مواطنين مهمّشين؛ وفي حين يعدّ أغلب القاطنين في وادي النحلة من النازحين من مناطق الأرياف الشمالية، فإن أغلب المقيمين في المنكوبين هم من الذين نكبوا وهدمت منازلهم خلال فيضان نهر أبو علي في طرابلس عام 1955. وقد أقدمت الدولة في حينها على إسكانهم في هذه المنطقة التي لا تزال تكنّى باسمهم، وفي بيوت أشبه بعلب السردين، وسط غياب أي مقومات أخرى للحياة، فوجود ملاعب أو حديقة في هاتين المنطقتين يُعدّ ترفاً بالنسبة إليهم لم يعرفوه بعد.
ولتأمين القوت اليومي، تتجه غالبية أبناء هذه الفئات المهمّشة نحو العمل في مهن ذات مدخول مادي بسيط، مثل الزراعة والبناء وقيادة سيّارات الأجرة والعمل في ورش تصليح السيّارات تحديداً، ما جعل عملية الترقي الاجتماعي وتحسين الوضع المادي لهؤلاء حلماً بعيد المنال.
وكما في كلّ البيئات الفقيرة، يلجأ بعض أبناء المناطق المحرومة إلى طلب ودّ من يوجد في السلطة أو من يملك المال، كائناً من كان، لكسب دعمه لهم. وقد استقرّ الهوى السّياسي لأبناء البداوي مؤخراً، بعد تقلبات عدّة في السنوات السابقة، عند «تيار المستقبل». فنال مرشحوه في هذه المناطق الغالبية الساحقة من أصوات الناخبين في دورتي الانتخابات الأخيرتين، كما تقرّبوا أمنياً من المدير العام لقوى الأمن الداخلي السابق اللواء أشرف ريفي، طمعاً بحمايته لهم كي يفكّ لهم سيارة ما احتُجزت لأن أوراقها غير قانونية، أو لتسهيل أمورهم لإنجاز سقف باطون مخالف، أو إخراج أحد الموقوفين منهم الذين تعتقلهم السلطات لسبب ما، كما يقولون.
في هذه المناطق يُعدّ الحصول على «دعم» سياسي أو أمني لتشييد مبنى مخالف أو إنجاز سقف باطون إضافي فوق المبنى المخالف، خدمة رئيسية لا توازيها أي خدمة أخرى بالنسبة لأهلها، نظراً للكثافة السكانية الكبيرة فيها، وارتفاع معدل أفراد العائلة الواحدة الذي لا يقل عن خمسة، عدا الولدين.. وظاهرة الزواج المبكر التي تجعل الحصول على شقة حلم العمر بالنسبة لكثيرين.
في السنوات الأخيرة تحوّل اللواء ريفي والنائبان محمد كبّارة وخالد ضاهر أكثر من غيرهم، إلى ضمانة يسعى إليهم أغلب المقيمين طمعاً بمساعدتهم في إمرار سقف باطون بلا مشاكل، سواء كان هذا البناء المخالف يُشيّد على أملاك خاصة أو أملاك الغير أو أملاك عامة، لأن ارتفاع صور ريفي وكبّارة والضاهر فوق خشب سقوف الباطون المخالفة، في هذه المناطق وفي مناطق باب التبانة والقبّة والملولة المجاورة لها، يعدّ خشبة الخلاص بالنسبة إلى المخالفين، في محاولة للإيحاء بأن هذه الأشغال تحظى بدعمهم ومباركتهم، بينما كان التضييق يجري على معارضيهم بكيدية واضحة.
بعد تقاعد ريفي وجد أبناء هذه المناطق أنفسهم أيتاماً. فالغطاء الأمني الواسع فوق رؤوسهم لم يعد موجوداً، لأن المراجع السياسية والدولة لم يكونوا يوماً واقفين إلى جانب هؤلاء المهمّشين، ومساعدتهم في إنماء مناطقهم المحرومة. ولعله يمكن ببساطة فهم أبعاد العبارة التي قالها شقيق محمد عبد الله سيف، الشاب الذي سقط يوم الأحد قتيلاً في المواجهات بين أهالي وادي النحلة والقوى الأمنية، عندما اعتبر أن شقيقه «شهيد الشعب الفقير».
خلال السنوات السابقة حصلت تجاوزات عدّة في نطاق مخالفات البناء، البداوي كانت إحداها، لكن «الفلّة طلعت فيها وحدها» لأنها الأضعف بين نظيراتها، ما اعتبره البعض مكسباً من شأن التفريط فيه العودة إلى زمن التهميش مرّة ثانية. انطلاقاً من هذه الخلفية يمكن فهم الغضب الذي ساد أوساط الأهالي لدى محاولة إيقافهم، وحملهم السلاح في وجه القوى الأمنية وتبادلهم العنف معهم، وهم يردّدون: «أوقفوا المخالفات عند غيرنا أولاً، وخصوصاً في طريق المطار والضاحية».
لكن ريفي الذي قرأ، من أوستراليا حيث يزورها حالياً، في قمع مخالفات البناء في البداوي «قصقصة» لجوانحه، لأن مواجهة كهذه بين القوى الأمنية والمخالفين ما كان لها أن تحصل لو بقي على رأس المديرية، رأى في ما حصل «نتيجة طبيعية للاحتقان الاجتماعي الناتج من النزوح السوري، الذي بلغ أرقاماً قياسية مع وجود حوالى مليون نازح سوري» .
الردّ غير المباشر على كلام ريفي جاء من أهل القتيل والمنطقة معاً. فوالد الشاب سيف أكد أن «البيت الذي يُبنى هو للسكن والسترة»، بينما أكد أغلب مخالفي البناء في البداوي أن ما يبنونه «هو لأولادنا وليس للنازحين السوريين، لأن بناء بيت كامل يتطلب إمكانات غير متوافرة ووقتاً قد يتجاوز الأشهر والسنوات، بينما يحتاج النازحون السوريون إلى مأوى جاهز»!
تشييع ضحايا البداوي
يشرف مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر على التحقيقات الاولية التي تجريها سرية درك الشمال في حادثة البداوي، التي قتل بنتيجتها دركي ومدنيان على خلفية إزالة مخالفات البناء.
وكانت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي قد نعت في بيان لها أمس، شهيدها الرقيب علي صقر الذي «استشهد متأثرا بجراحه التي أصيب بها نتيجة اعتداء بعض المواطنين على القوى الأمنية أثناء قيامها بقمع مخالفات البناء في بلدة وادي نحلة ــ البداوي». وصقر من مواليد العام 1985، متأهل وله ولد واحد، شيّعه أبناء بلدته بدنايل أمس وسط أجواء امتزجت بين الحزن والاستنكار والغضب، في مأتم حاشد ومهيب.
وكانت البلدة قد شهدت، إثر شيوع خبر استشهاده، حالة من الغضب من قبل الأهالي الذين عملوا على إقفال الطريق العام في غرب بعلبك بالسيارات والعوائق.
وهذا ما قام به أيضاً ابناء البداوي، الذين أقفلوا الطرقات بالإطارات والعوائق وعمدت البلدية أمس إلى فتحها تحضيراً لتشييع الشابين اللذين قتلا خلال الاشتباكات، محمد عبدالله سيف ومحمود ريا.
تعليقات: